}

الكتابة عن المقريزي

ناصر الرباط ناصر الرباط 4 أكتوبر 2016
آراء الكتابة عن المقريزي
مسجد السلطان الغوري في القاهرة، لويس كابان (Getty)
لم أسمع باسم تقي الدين المقريزي حتى سنتي الثانية من الدكتوراه. كنت في الصيف الفائت قد ذهبت في زيارة مطولة إلى القاهرة. وسُحرت بها. تهت في حواريها وشوارعها. أنظر للأعلى أكثر مما أنتبه لطريقي، فقد أُخذت بروعة مداخل وقباب ومآذن الجوامع المملوكية التي لم أكن أعرف عنها شيئاً يذكر قبل هذه الزيارة. ثم عدت إلى كامبريدج مع مطلع الخريف. ذهبت إلى مكتب أستاذي وقلت له بالحرف الواحد، بتلك الجرأة التي اكتسبتها بعد دراستي لسنوات في الولايات المتحدة: "أريد أن أكتب أطروحتي عن العمارة المملوكية في القاهرة". فقال بكل بساطة: "لا بأس".

بدأت عملي بقضاء جلّ وقتي في مكتبة وايدندر (Widener) في جامعة هارفارد، بطوابقها المتعددة التي تحوي كتب لغات العالم المختلفة، مرتبةً في صفوف لا تنتهي من الرفوف الحديدية السوداء الثقيلة. هناك تعرفت إلى المقريزي، أو بالأحرى إلى موسوعته الضخمة: "كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، أهم كتاب نملكه عن تاريخ القاهرة حتى القرن الخامس عشر، وأحد أهم كتب تواريخ المدن على الإطلاق. ووجدت نفسي أقضي الساعات الطوال منقباً في صفحاته: أتعرف إلى المباني القاهرية وتاريخها، وأنقل منها ملاحظات وشوارد تفيدني في بحثي. صارت زياراتي إلى القاهرة متعددة بعد انتهائي من الدكتوراه، وبدئي بالتدريس، وبقي كتاب المقريزي دليلي الأول في جولاتي في المدينة ميدانياً وخيالياً.

ثم أخذت سنة إجازة لتحضير كتاب عن تعامل المصادر العربية المملوكية، مع الفن والعمارة. وابتدأت المادة البحثية بالتجمع لدي، وكان أهمها، وفق رأي أستاذيّ اللذين قرآ ما كتبت، جزء خصصته لتحليل كتاب الخطط، مما دفعني لأوجه جهدي لكتابة كتاب عن المقريزي وخططه ومواده ومنهجه ونظرته. لكني سرعان ما انشغلت بمشاريع مختلفة، أعود إلى المقريزي أحياناً لأكتب مقالة أو أقدم بحثاً عن عمله أو عن التراث الذي استلهم منه خططه.

ومرت السنون وأنا أعمل وأعمل على هذا الكتاب. أعود إليه بين المشروع والآخر، والمادة تتراكم لدي، لكنها تصوغ نفسها على شكل كتاب متكامل. قرأت كل ما كتبه المقريزي وتتبعت بعض مخطوطاته في مكتبات أوروبا، وطبعاً قرأت كل ما كتب عنه. وفي هذه الأثناء نشر محمود الجليلي عام ٢٠٠٢ نسخته الوحيدة عن كتاب تراجم المقريزي المهم: "درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة"، وهو عبارة عن تراجم الناس الذين عاشوا خلال حياة المقريزي، وعرفهم شخصياً وكانت له علاقات حميمة مع العديد منهم، مما فتح الباب أمام فهم أكثر تعمقاً للمقريزي الإنسان، وفهم فكره وعواطفه وميوله وكيف أثرت في نظرته للأمور وفي مواضيع  كتبه ومآربها.

مثّل كتاب الدرر نقلة نوعية في تعاملي مع المقريزي.


كنت في البداية أنظر إليه كمؤرخ لا أعرف عنه سوى كتابته وما تومئ إليه أحياناً. فجاءت تراجمه في "الدرر" لتغني صورته كقاهري ومصري وعربي ومسلم ملتزم، وكفقيه وأستاذ وناقد ومؤرخ، وكابن وزوج وزميل وصديق ومنافس. أي أن هذه التراجم مكّنتني من التعرف أكثر وأكثر إلى المقريزي الإنسان الذي اختفى طيلة قرون خلف نصوص كتبه، وجهلنا عنه وعن ظروف حياته وعن استجابته لتلك الظروف، الكثير، كما هي العادة مع معظم مؤرخينا القروسطيين. ساعدتني هذه المعرفة في فهم أعمق لكتابات المقريزي التاريخية وفتحت لي نوافذ للتحليل والتأويل ما كانت متاحة من قبل. فبعد أن كان الإشكال الأساس، قلة معرفتي بالمقريزي، وأنا أكتب عن مداه المعرفي ومنهجه في كتابته التاريخية، أصبح لدي إشكال جديد هو معرفتي الحميمة بالمقريزي كما صاغها هو نفسه، أو على الأقل كما خيّل إلي أنه صاغها في الساعات الطوال في كهولته عندما كتب "درره" وهو يتأسى على كل أولئك الذين عرفهم في حياته واختطفتهم منه يد المنون. فأصبحت مهمتي التنظيمية، في التوفيق بين هذين المنحيين ودمجهما معاً، ليؤلفا كلًا كاملًا يقدم صورة متكاملة عن المقريزي المؤرخ والمفكر والإنسان، وعن علاقة هذه النواحي الحياتية كلها بمؤلفاته.

أنا اليوم بصدد إنهاء هذا الكتاب عن المقريزي،
 مؤرخ العمران الأول في التاريخ كما أجزم، وعن المقريزي الكاتب الوطني، قبل "اختراع" الوطنية، والغيور والمتألم على بلده وناسها، كما أمكنني فهمه من خلال تفاعلي مع كتاباته على مدى السنين الخمس والعشرين الماضية. فقد تمكّن هذا العالم الورع والحساس والملتزم - من القرن الخامس عشر- من التفاعل مع بلده وناسه وحكامه وثقافته وتحليل كل ذلك ونقده، مما يثير فينا اليوم شعور التعاطف، ويمنحنا عبرة في ما سطّره في نقد واقعه. وفي ذلك، على ما أعتقد، احترام لدوافع المقريزي في كتابته كما صرّح هو نفسه، وإثراء لفكرنا المعاصر من دون الارتهان بفكر ماضٍ عليه، واحترام لخصوصية هذا الفكر الماضي وتفهم لدوافعه ومعطياته وأساليبه ومداه ونواقصه ومحاسنه.

بيد أن نصوص المقريزي تظهره أيضاً كناقد لمّاح، 
وضع يده على جرح وجده نازفاً في مجتمعه بفساد حكّامه وتدهور أحواله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتفتق عُراه الفكرية والدينية مما زلنا نجده في مجتمعاتنا العربية اليوم، رغم تغير الأحوال والدول والعباد والسياقات كلها. على هذا الأساس، يمثل المقريزي صوتاً له صدىً في الواقع العربي المعاصر قبل ثورات عام 2011 وبعدها. صوت متألم على الغبن الذي لحق وما يزال يلحق بالعالم العربي على أيدي حكامه، ولكنه متفائل بنجاح ثوراته في تحرير الإنسان العربي من عقود القهر والوقوف على هامش التاريخ.

 

مقالات اخرى للكاتب

آراء
4 أكتوبر 2016
آثار
19 أبريل 2016
عمارة
5 أبريل 2016

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.