استدرجت المعمارية أهل المدينة إلى المعرض، حيث في بيت آخر - كان مهددًا بالهدم، وقد هدم - أقامت تجهيزها، المكون من ترتيب أغراض شخصية لطبيب أسنان كان يقطن في المبنى الأصفر. وإذ تمتعت المعمارية بحساسية عالية في ترتيب الأوراق وأدوات العيادة والبطاقات، ضمن الفضاء المهدد بالتهديم، لم تنقصها الموهبة في تعليق الجرائد التي وجدتها في بيت الطبيب، بشكل متتالٍ، وتمامًا عند مستوى نظر زائر المعرض، كي يقرأ المانشيتات قبل أن يخرج من البيت. كانت تلك الجرائد تعود إلى فترة الخمسينيات أو الستينيات من القرن المنصرم، وفي عام 2001، بدت طازجة، فالعناوين التي تحب البريق البلاغي الذي يخفف من وهج شر السلطة، كان حاضرًا في متتالية الجرائد تلك، لكأن المعمارية أرادت لزائر معرضها أن يفكر أن السلطة الشريرة ما زالت هي ذاتها، وأن شيئًا لم يتغير رغم مرور الزمن. وبالطبع تقود الأغراض الشخصية للطبيب نحو حكاية مبنيين في آن معًا؛ مبنى البيت حيث المعرض، ومبنى البيت الذي ضمّ ما تعففت مليشيا الحرب عن سرقته من بيت الطبيب؛ مبنى بركات.
في النهاية نجحت حلاق في إنقاذ مبنى بركات، واستملكته بلدية بيروت، وبالتعاون مع الفرنسيين، وضع مشروع لتحويله إلى متحف لذاكرة المدينة، واختير له اسم جديد "بيت بيروت". ويبدو أنه افتتح مؤخرًا قبل أن تكتمل مراحل المشروع. وقد ركزت حلاق خصوصًا في معرض حديثها عن الأمر عن تأخر أو تلكؤ مرحلة "المحتوى الثقافي" لمتحفٍ مماثل.
ولو أخذنا حكاية منى مع المبنى الأصفر من زاوية أخرى، لما صارت صعبة روايتها بطريقة مختلفة : تكوّنت منى حلاق معماريًا في الجامعة الأميركية في بيروت، سليلة أولى نويات مدارس التبشير التي انتشرت في المشرق. وإذ كبرت في مدينة الحرب الأهلية، شهدت بعينها بعد ذاك ولادة تجمعات وجمعيات أهلية، مفهومها غربي ويسمى مثلًا NGO. فلنقلْ إن تلك التجمعات الأهلية على أنواعها المختلفة، تشبه قليلًا مدارس التبشير، من حيث هي ترفد المجتمع المحلي بأفكار "غربية". بيد أن رواية الحكاية على هذا النحو المريب، تصب في "مركزية أوروبية" مقيتة، تغفل عن قصد أثر العامل المحلي.
فها هي مدارس التبشير وقد "تعرّبت" وكوّنت منى، التي عملت في نسيج الجمعيات الأهلية المسماة غربيًا أيضًا "مؤسسات المجتمع المدني". أن تكون منى صاحبة ضمير، فهذا يعني "تعريب" المعرفة الغربية، وإعلاء شأن الهوية المحلية، لا من خلال البلاغة والشعارات، بل من خلال العمل الدؤوب والإصرار والشغف. أمور صعبة في كل حال، وتحتاج نارًا داخلية قوامها التمسك بالمكان والهوية، طريقًة في الحياة.
وتمامًا كما فرحتْ هي حين أنقذت المبنى الأصفر من الهدم، طاف الفرح وفاض، عند كل مرة قُرىء اسمها في لائحة من أجمل اللوائح وأكثرها نبلًا، إبان الانتخابات البلدية الأخيرة : #بيروت_مدينتي.