}

الميدان شاعرًا

حسين محمود 27 يناير 2015
لم تعرف الشعوب العربية الثورات بمعناها الاصطلاحي، بل عرفت الانتفاضات، وكانت أوّل ثورة في تاريخ مصر الحديث تلك التي قادها الثائر المحارب أحمد باشا عرابي، وقد سمّاها الناس بعفوية وتلقائية "هوجة" عرابي، وانتهت بالطبع نهاية مأساوية، فقد مهد الخديوي توفيق، الطريق إلى بداية الاحتلال الإنجليزي لمصر، ونُفي عرابي باشا إلى جزيرة سرنديب بسريلانكا الحالية.
ثورات الربيع العربي، كلّها تقريبا، انتهت إلى حالة "الهوجة"، أو الفوضى بالمصطلح الحديث، ولم تتحقق مطالب الثورات العربية على أرض الواقع حتّى الآن، فقد عادت قواعد النظم القديمة وآلياتها إلى بعضها، بينما لا تزال "الهوجة" مستمرة في بعضها الآخر. ما تحقّق فعليًا أن ثورات الربيع كشفت عن أزمة ثقافية عميقة ومتجذرة، تضرب قواعد المجتمع وقواه السياسية الفاعلة، العاجزة حتّى الآن عن الاتفاق على القيم الأساسية للتعايش المجتمعي. ورغم هذه الأزمة الثقافية البادية على السطح إلا أن العمق شهد ازدهارًا ثقافيًا كبيرًا، وأبرز سمات هذا الازدهار هو أن الشعوب العربية تعلّمت كيف تتكلم وكيف تعبّر عن نفسها وكيف تقرأ ما يدور حولها من أحداث، في ما يشبه محو الأمية السياسية للشعوب العربية.
وكما كان الحال في ثورة عرابي، كانت الثقافة هي الحاضرة بكثافة في فعاليات الثورة، وكان المنتج الثقافي هو الأكثر تعبيرًا عن حالة "الثورة" لا "الهوجة". نذكر أن هوجة عرابي هي التي أذنت بالنهضة الأدبية الشاملة، ورئيس وزراء الثورة هو نفسه الشاعر الكبير محمود سامي البارودي، الذي تزعّم وكان رائدًا لمدرسة الإحياء، التي استعادت الشعر العربي الكلاسيكي بعد فترة من الغرق في ظلام يشبه ظلام العصور الوسطى. وكانت هذه المدرسة توازي المدرسة الكلاسيكية الحديثة، التي واكبت الكلاسيكية الحديثة في أوروبا أيضًا، وإن جاءت بعدها بفترة وجيزة. والحال نفسه، يمكن أن يقال عن الفنون الأخرى، فقد تطوّر الزجل، والغناء، والمسرح، وكان عبد الله النديم، خطيب الثورة وسلاحها الثقافي الضاحك الذي عذّب النظام في مصر أكثر من العذاب الذي تلقاه من القوى الثورية الأخرى، وكتابه الشهير "التنكيت والتبكيت" لا يزال رمزًا لنجاح الثورة ثقافيًا وفشلها سياسيًا وعسكريًا.
يمكن أن نقول الكلام نفسه عن ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول، فقد تفجّرت فيها طاقات الإبداع المصري، وأذنت ببداية عصر التنوير الذي أدّى بدوره إلى ثورة يوليو عام 1952 التي قال عبد الناصر عنها إنه تأثّر فيها برواية توفيق الحكيم الأولى "عودة الروح"، التي نشرت في بداية ثلاثينيات القرن العشرين (1933). والحقيقة أن ثورة 1919 أنتجت على المستوى السياسي، ديمقراطية شكلية واستمرارًا لحكم السرايا المستبدّ، وحكم الإنجليز المستغل، واستقلال البلاد استقلالاً شكليًا لا يسمن ولا يغني من جوع.
ولكنها أنتجت توفيق الحكيم وعبّاس محمود العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ ومحمد حسين هيكل ومحمد تيمور وسيد درويش وبيرم التونسي وأسماء أخرى لا تعد ولا تحصى، دخلت بها البلاد عصر الحداثة بخطى ثابتة.
ثورة يناير 2011 لم تكن مختلفة عن أختيها في القرنين السابقين عليها، فقد اشتعلت الثورة في ميدان التحرير، وسيطرت عليها قبل انطلاقها روح الشاعر أمل دنقل و"أغنية الكعكة الحجرية"، والكعكة قاعدة تمثال رخامية كان من المفروض أن تحمل تماثيل لزعماء سياسيين، ولكنها لم تحمل شيئًا على الإطلاق. وصف دنقل في هذه القصيدة ما عسى أن يقع في أية ثورة وفي أي ميدان تحرير في العالم:
"دقّتِ الساعةُ الخامسة/ ظهر الجندُ دائرةً من دروعٍ وخُوذاتِ حربْ/ ها همُ الآنَ يقتربون رويداً.. رويداً../ يجيئون من كلّ صوبْ/ والمغنّون - في الكعكة الحجريّة - ينقبضونَ/ وينفرجونَ/ كنبضةِ قلبْ!".
كان دنقل قد كتب هذه القصيدة أثناء مظاهرات الطلبة عام 1972، ولكن من رأى الشباب في يناير يواجهون جحافل الشرطة بخرطوشهم وخرطوم مياههم وهم صامدون، لا بدّ أن يدرك على الفور أن حضور أمل دنقل لم يكن عرضًا جانبيًا ولكنه حضور قويّ ساخن فاعل.
كذلك كانت قصيدة "الورد اللي فتح في جناين مصر" لأحمد فؤاد نجم حاضرة بقوّة، وخاصة عندما سقط الشباب الشهيد مضرجًا بدمائه. وكان نجم قد ألّف القصيدة هو الآخر قبلها بأعوام، عندما كان في المعتقل، ووردت إليه مجموعة من تلاميذ المدارس كان قد تمّ اعتقالهم سياسيًا.
ذهبت إلى ميدان التحرير مرّة واحدة خلال هذه الثورة، ذات يوم جمعة، وكان يومًا من أيام انتصارها. ما رأيته في هذا اليوم، كان شيئًا فريدًا لا يخطر على البال. كانت الثورة قد استقرّت في الميدان، في بؤرة محددّة منه، أطلق عليها اسم المنصة، ومن عليها كانت تُلقى الخطب.
من على المنصة إيّاها والمنصات الصغرى المنتشرة في الميدان، كانت هناك حفلات غنائية وموسيقية، ومعارض للفنون التشكيلية، وأمسيات شعرية، وشغلت الجدران رسومات الجرافيتي التي ترجمت صور الثورة وشعاراتها. كان ميدان التحرير بعد انسحاب الشرطة قد تحوّل إلى ميدان يعبّر عن ثقافة مجتمع بامتياز.
ورافقت ليالي الثورة أغنيات جديدة - لا أدري أين اختفت الآن- ، منها أغنية رائعة كان يغنيها شباب مصر وتونس معًا. وكان صوت عبد الرحمن الأبنودي وهو يتلو قصيدته "ارحلي يا دولة العواجيز" في خلفية إحدى أغاني الثورة، زادًا ساعد على استمرار الزخم الثوري، وعاد أحمد فؤاد نجم للتألّق بشعره النضالي، مثلما ظهر أمين حداد ابن الشاعر الكبير فؤاد حداد، وسامية جاهين ابنة الشاعر الكبير صلاح جاهين، ومعهما مجموعة من الشباب المتميز، وكانوا يؤلفون ويلحنون ويغنون في الميدان. لكن الأسماء التي لم يعرفها، وربما لن يعرفها أحد، كانت كثيرة جدًا، وفي لحظة بدا أن الشعب كلّه أصبح شاعرًا. ألقيت الآلاف من القصائد، صحيح أن بعضها متواضع، لكنها كانت كلّها صادقةً في تعبيرها عن الحالة، وعن الرغبة في الغناء للوطن في لحظة نبيلة من لحظات تاريخه. هكذا غنّى أيضًا حسن طلب وعبد المعطي حجازي وفاروق جويدة وفاروق شوشة، وغيرهم من أساطين الشعر. إذا سألتني ماذا تبقى من ثورات الربيع العربي؟ فسوف أقول لك بلا تردد: طاقات الإبداع التي تفجرّت، ولا بدّ أن نعض عليها بالنواجذ، فهي التي سوف تقود هذه الأمة – بعد أن تحل مشاكلها – إلى النهضة والتقدم والمستقبل.

مقالات اخرى للكاتب

آراء
21 أبريل 2015
آراء
27 يناير 2015

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.