لا يسعنا هنا، لضيق الحيّز، معالجة السؤال والنظر في الأجوبة الممكنة عنه، لذا نقصر الكلام على عنصرين من العناصر المندرجة في معوقات الانفتاح ومصاعبه:
أولها، سوء أحوال التعليم في مختلف أطواره، ومن مؤشراته غلبة "ثقافة" الدفتر والحفظ عن ظهر قلب لمضامين المقررات، من دون حرص على تجنب طرائق الاختزال والإدغام والبتر، ولا مراعاة شروط الفهم والمجادلة بالاعتماد على أمهات المراجع وكتب التيسير. ويترتب على هذا الوضع في المحصلة تخريج أفواج تلو أخرى من ضيقي الصدور والرؤى، ومن ذوي العلاقات السطحية بالثقافة والإنسانيات، والميالين إلى الانطواء على الزاد المعرفي الزهيد الأدنى، وبالتالي إلى اتخاذ مواقف الدوغمائية المتشنجة من قضايا الفكر والسياسة وأمور الحياة والدين.
وتبعاً لذلك، فإن نظام التعليم العمومي الذي ترصد له الدولة أضخم ميزانياتها، بات يمنح دبلومات تضاءلت في الغالب عبر السنين قيمتها في سوق التوظيف والشغل، فأمسى وضع جامعاتنا بكل تخصصاتها تقريباً يشكل أبلغ تعبير تركيبي عن صعوبة تلك الحالة المستفحلة عاماً تلو آخر، ساهم في تكريسها وترسيخها مسؤولون متعاقبون وأطر تدريس مقصِّرون متهاونون، وأيضاً الطلبة المستسهلون والانتهازيون. فأمسينا أمام معضلة صلبةِ النشأة، معقدةِ المفاصلِ والخيوطِ، متناسلةِ الآثار والعواقب: فلا القطاع الخاص يقبل توظيف المتخرجين، ولا هؤلاء يبغون بديلاً عن القطاع العمومي لكونه، في ظنهم، الأضمنَ والأريح، ولا الوظيفة العمومية المكتظة تستطيع مالياً استيعاب أفواجهم المتكاثرة سنوياً.
وثانيها، ظاهرة تردي أحوال القراءة والعزوف عنها، ولا يختلف على واقعها المتتبعون والمهتمون، من مؤلفين وطابعين وموزعين وباعة. ظاهرة تعبّر عن فشوها وفداحتها بلاغة الأرقام وحجيّتها في سوق الكتاب من كل الأصناف وفي مختلف الحقول والمواد، حتى إن حملات التحسيس والتدريب التي قد تنظمها موسمياً وفي مناسبات وزارات وبعض المؤسسات والجهات لتبدو هي وشعاراتها "عشق القراءة"، "خذ الكتاب بقوة"، وسوى ذلك، عبارة عن صيحات في وادٍ بلا مردودية ولا تأثير. وثمة مَن يقول إننا دخلنا زمن ما بعد المكتوب والكتاب، أي زمن الوسائطيات المتعددة من السمعي ـ البصري والرقمي وتكنولوجيات التواصل المتطورة. وإن كان فضل هذه الوسائطيات لا ينكر في مجال تحصيل المعلومات وتداولها في وقت سريع قياسي، فإننا لا نتثقف بها ولا ننمي الملكات من ذكاء وخيال وذاكرة وحساسية، والتي في نطاقاتها لا تعويل إلا على الكتاب، ولا غنى عنه ولا بديل، وهو الثابت المؤسس للثقافات الإنسانية عبر كل العصور والأمكنة.
وإذا أضفنا إلى ما سقناه لماماً ظاهرةَ اعتزال شرائح من مثقفينا واختلال صيغ التبادل الثقافي بين العالم العربي وقوى الغرب عموماً، انتهينا إلى رصد صورة غير سارة ولا واعدة. لكن لا مناص من أخذ المصاعب والمعوقات في الحسبان، والصبر في سبر أسبابها حتى يتبيّن السبيل إلى إرساء سياسة الانفتاح الثقافي على قواعد الجودة والجدوى. وفي هذا المسار الشاق، علينا أن نعمل بشعار شي غيفارا: "لنكن واقعيين، فنطالب بالمستحيل"...
(أكاديمي وروائي مغربي)