}

غيبون يجترح حَلاً

غازي أبو عقل 26 أبريل 2016
آراء غيبون يجترح حَلاً
لوحة للفنان بيتر سيكلس (Getty)
اعتاد السوريون في عصر ما بعد الحداثة، مغادرة وطنهم لأسباب شتى من دون عراقيل تُذكر. ومع إعلان وحدة مصر وسورية أخذت العراقيل بالظهور والتزايد مع تغير أفراد السلطة وثبات جوهر الدولة المستبدة، إلى أن انقلب موقف "الحكومة" مع إطلالة عقد الثلاثينيات من القرن الخامس عشر 1430 الهجري، الذي صار " تهجيرياً " حيث فتحت "الحكومة" بوابات تصريف المياه الضاغطة خلف "سد الثورة" وسرعان ما غمرت الموجات الأولى تخوم الدول المجاورة "باستثناء وحيد". وذاق ملايين السوريين متعة التخييم صيفاً وشتاءً. كما استوعبتْ "المناطق الآمنة" أعداداً لا يستهان بها من الناس.

ولما انتشرت أنباء تيسير الحصول على جوازات السفر تدافعت "الرعية" إلى الخروج تأميناً لمستقبل أبنائها، فوصلت الموجة إلى قلب أوروبا.
كانت بدايات "الأزمة" قد شهدت عمليات مهدت لاتساع نطاق التهجير، وتحقيق نوايا الحكومة، عندما اختار من يحملون السلاح "الكلاشن بالأفضلية" أن يتحصنوا في الأماكن المأهولة، ولم يفطنوا إلى كون تكتيكاتهم تقدم الذريعة الأكثر أهمية لكي تطبق الحكومة استراتيجيتها الموضوعة سلفاً، التي أثبتت كفاءتها في زمن مضى. ذلك أن إخراج المسلحين من العمران يقتضي تقويضه بالأسلحة الثقيلة تدعمها الغارات والغازات، وهي أقل تكلفة من المخاطرة بأرواح الجنود الذين تنتظرهم مهام تحرير الأرض المحتلة، بعد تحرير الوطن من ساكنيه.
لم يفهم حمَلةُ الكلاشن استراتيجية الحكومة برغم شرحها لهم عملياً بالذخيرة الحية، والمدهش أن من لم يحملوا السلاح كانوا أقل فهماً لها، لسبب بسيط، فهم انهمكوا في وضع ترتيبات الحصاد قبل أن يحرثوا التربة ومن دون أن يرشوا البذار.


رفض كثيرون تحقيق رغبة الحكومة بتهجير الناس، وتحملوا مصاعب البقاء في بيوتهم، بلا دفء ولا كهرباء وأحياناً بلا ماء، من دون نسيان انهيار القيمة الشرائية للنقود وتفاقم الغلاء. ولما كانت الحكومة لا تحب من يسبح في غير تيارها، ابتكرت سلسلة من الإجراءات التي لا مثيل لها على هذا الكوكب. فزرعت الحواجز بكثافة، وضاعفت الاعتقال الكيفي وإخفاء المعتقلين نهائياً، ناسية أنها مسؤولة عن سلامة ضيوف سجونها المجهولي العديد، كما عديد سجونها.

لم تفاجأ الحكومة من بلوغ أعداد المهجرين أكثر من نصف عديد السكان قبل "الأزمة" لأنها كانت قد استعدت للأمر، فشرعت باستجلاب مواطنين شرفاء، مما وراء النهر لملء الفراغ ولموازنة كثافة ساكني المخيمات على تخوم الوطن سابقاً.

هكذا وجد المهجرون أنفسَهم في بيئات مألوفة لكنها غير أليفة، حيث كانوا يتوقعون أن يُعايشوا جزءاً من الشعب الواحد في بلدين بشكل خاص، لولا أن أفسد عليهم توقعاتهم جبران باسيل ومَن علَّمه الدبلوماسية.



في مملكة سيرا

بعد أن وجد المهَجَّرون من سورية أنفسَهم في بيئات غير أليفة، وجدتُ أنا ضالتي في مملكة سيرا التي يحكمها الملك غيبون الأول بيد من حديد، حكماً مستبداً وغير عادل حتماً، لتنافر فطري بين المفهومين "الاستبداد والعدل".

في هذه المملكة من الأمور "الخيالية" ما تمنيتُ لو كانت واقعًا اليوم، كما أن فيها من الأمور المماثلة لواقعنا الراهن، ما تمنيت لو أنها بقيت في دنيا الخيال الفني على المسرح.
تقع مملكة سيرا في واحدة من المسرحيات الرحبانية؛ "ناطورة المفاتيح" التي عُرضت في دمشق في 1972.

الهجرة إلى مملكة من أعمال الواقع الافتراضي قد تثير السخرية، لكن ما العمل والواقع الواقعي يضيق عليك ويضعك أمام الهجرة إلى ألمانيا، أو البقاء في "تقاطع نيران" البساطير واللحى؟
أتاح لي تجسيد مملكة سيرا مسرحيًا، ترف مضاهاتها بواقع سورية اليوم، ففيها نكتشف مملكة همُّها الدوران حول محورها، الملك غيبون الأول، المستبد واهب الموت أكثر من الحياة، والمهووس بالسلطة، والقابع بين الحاشية والحرس. بينما يحاول أفراد "الرعية "التعايش مع الظلم والاضطهاد. كما نجد بين الرعية من يجرب إقناع الملك بتخفيف قبضته على حياتهم. ويبعثون أيقونتهم "زاد الخير" لتغني له، وتذكره بأن الحب وسيلة إلى حياة سعيدة للجميع. لكن غيبون ينهمك في القمع والاعتقال والاغتيال. وحين ظن الناس أنه استنفد أساليب الظلم، خرج عليهم فجأة بفرمان يجعله "شريكَ النص" في ما يملكه أي شخص من الرعية. كان هذا الأمر أفظع من أن يقبله أحد، فتقرر الرعية كلها الرحيل عن المملكة.


رمزية الرحيل الجماعي تشير إلى أن العصيان المدني بتجلياته كلها، من الامتناع عن تسديد الضرائب، والتهرب من خدمة الاستبداد في قواته المسلحة بشكل خاص، ينبغي لها إحداث الأثر المطلوب في تعديل سلوك المستبد. فهل أوصل الرحيلُ رعية مملكة سيرا إلى تحقيق مطالبهم؟
يمهد الفصلُ الثاني درب زحف مملكة سيرا إلى الأفق المسدود، الذي يهدد بانهيارها عبر أحداث تبدأ بعودة الملكة من زيارة أبويها، صخر الأول ملك رود وأمها جلبهار.

عندما أمر الملك غيبون بإقامة حفل استقبال "شعبي" للملكة، وباشر قائد الحرس بدعوة "الرعية" لم يجد إلا زاد الخير ليسألها غاضباً أين الناس؟ ويوقن من ردها أنهم رحلوا كرفوف السُنونو وهي تغادر سطوح القرميد، فيهددها بسحبهم من بيوتهم: "حاج تهددهم، صاروا أبعد من التهديد. ضهروا برات الخوف، لا بينطالوا ولا بيرجعوا". يُقال إن أول فضائل الربيع العربي: "طلوع الرعية برات الخوف".

أكانت ناطورة المفاتيح تتوقع أو تتنبأ بما سوف يفعله السوريون بعد أربعة عقود، حين واجهوا القصف الهمجي وتخلي العالم "المتحضر" عنهم، بنداء "مالنا غيرك يا الله"؟
ثار مواطنو مملكة سيرا، في المسرحية، وأعلنوا العصيان المدني يوم أعلن غيبون فرمان حصة الملك. أما في الواقع، فإن سكان مملكة سيريا لم يتحركوا يوم انتقلتْ ملكيتُهم جميعاً -بالتوريث – إلى خليفة فاتك المتسلط. ولو قلدَ السوريون السيريين وأعلنوا العصيان المدني مثلاً، لكانوا عجّلوا في اندلاع المجزرة عشر سنوات، ولكانوا اليوم في مرحلة جديدة، لكن ناطورة المفاتيح غُيّبت وشهدتْ دمشق "صح النوم" بحضور الوريث والحاشية والحرس.

كلما اختليتُ بناطورة المفاتيح، في السنوات القليلة المنصرمة، كنت أفكر في وجوه التماثل بين مملكتي سيرا وسيريا، وهي موجودة فعلاً، لكنني أكتفي بوجه بارز من ملامح التناقض بين الواقع والمسرحية، تجلى في موقف غيبون "سيرا" الذي نجح علاجه من داء العنف، فتحول إلى ملك دستوري. أما ملك سيريا، فهو يتشبث بالكرسي كما غيبون الفصل الأول من المسرحية.
هل يستشرف الفنُ المستقبل؟ ربما.

يبدو أنني وجدت أخيراً من شاهد المسرحية، وذلك أن الصحافي عبد الوهاب بدرخان وضع عنواناً لمقاله الأسبوعي في جريدة الحياة مؤخرًا : "أميركا تختار رحيل الشعب السوري بدل رحيل الأسد".
فهل شاهدت الولايات المتحدة ناطورة المفاتيح واستخلصت منها الدرس الذي أقامت عليه سياستها حيال مملكة سيريا..؟

مقالات اخرى للكاتب

آراء
26 أبريل 2016

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.