}

علي حرب والحقيقة

بدر الحمري 16 أغسطس 2017
آراء علي حرب والحقيقة
لوحة للفنان الفلسطيني زهدي قادري

 

ما نعيشه ونكتبه ونقرأه اليوم أجده فرصة لإعادة النظر في مسمى مفكر عربي! من يكون؟ وما هي أدواره في الحياة العربية؟ ليس لأن الوطن العربي أخلف موعده مرة أخرى مع النهضة ولكن من منطلق المسؤولية التاريخية التي تحتم علينا أن نطرح على المفكر العربي بعض الأسئلة، تحدد هويته وملامحه ومسيره إلينا.

إن المفكر عندما ينطلق من نصوص العالم بخلفية إنسانية كونية ثابتة، يفعل ذلك من منطلق أنه مفكر، لا لأن قيم الديمقراطية والتسامح والتعايش تدعوه إلى التفكير، بل لأن المرجعية الكونية تدعوه إلى أن يستشكل مفاهيم الديمقراطية والتسامح والتعايش، ومن خلال هذا الاستشكال يُرسخ كينونته كفعل للتفكير. لكن هل يقتضي فعل التفكير التجرد من كلّ تاريخ ذاتي لذاته المفكرة؟

وماذا عن المفكر العربي؟ هل يجب عليه بالضرورة التجرد من ثقافته ولغته ومصيره المشترك مع الآخر حتى يصبح مفكراً عالمياً؟ وهل ينبغي أن يخوض في قضايا العرب السياسية والأدبية والثقافية والاقتصادية حتى يصبح مفكراً عربياً؟ أم يجب عليه أن يطعن في القيم الدينية الجماعية حتى ينال شهرته أو جائزته العالمية؟ وما جدوى التفكير اليوم إن كانت التقنية الرقمية ومعها النيوليبرالية التي أسقطت الإنسان في التسليع والتشييء وكشف السوءة، بل ساهمت في القضاء على "الأنا أفكر" في وجود الإنسان، فحلّ محله "أنا أستهلك إذن أنا موجود" في تدمير سلبي لكوجيطو أبي الفلسفة الحديثة، ومن هذا التدمير أصبحت قيمة الشخص تتشكل انطلاقاً من قدرته على الاستهلاك، وفي أن يكون لك سهم في كل اتجاه رغباتي، من المحيط إلى الخليج.

أم أن المفكر العربي يجب أن يفكر في قضايا مشتركة إنسانية، يخوض غمار بلاغتها وسياستها وأدبها وفلسفتها؟ وإلى أية حدود يمكنُ أن يشارك في هذه القضايا العالمية المشتركة؟ وفي ماذا يلتقي المفكر العربي مع المفكر الغربي؟ ولماذا كل هذا التهافت على التفكير الغربي كونه المبدع والمطلق والخلاق؟ أليس بيننا مفكر عربي له نفس القدرة على السؤال والنقد والتحليل كما لهم القدرة على التفكيك والحفر والتأويل؟ أليست لدينا مشاريع عربية لغوية وفلسفية وأدبية وعلمية كما لديهم، صحيح أنها لا ترقى إلى مستوى تطلعات المنافسة الكونية، لكن هذا لا يمنع من تجديدها وتطويرها وتشجيعها، وتمويلها مادياً وإعلامياً ونفسياً. هل للمفكر العربي استقلالية فكرية وأيديولوجية واضحة لمجمل ما يكتبه؟ أم أنه يكتب وكأنه لا يكتب، مجرد من التجريد، وطافح بالتناقضات، رياح العرب في جهة، وهو في جهة أخرى؟

المؤكد أننا أمام قلق هوياتي لتشكل عولمة المفكر العربي اليوم، أي المفكر العربي الذي له انتماء غربي، وشعور بعيد عن وجوده الذاتي والعيني، فضلا عن ذاك الذي يعيش في بلد عربي، لكنه يفكر في إشكالات كندا أو أميركا أو السويد، أو لعله يفكر في مشاكل الصين، لأن الارتباط الذي سيصبح له هنا هو ارتباط باللغة فقط، دون الحديث عن المفكر الذي يكتب باللغات الأجنبية إلى الشعوب العربية التي تنتشر فيها الأمية والجهل والتخلف، وكأن – هذا المسكين - يخاطب المواطن العربي من وراء حجاب.

وتبقى علاقة المفكر العربي بالحقيقة من أصعب الإشكالات التي يمكنُ فهمها؛ بمعنى أن معناه الوجودي ينكشف من خلال تفكيره في الحقيقة، لكن على أي منوال أو منهج أو مدرسة أو انتماء حضاري؟

يشير علي حرب في كتابه الأخير "الإرهاب وصناعه"، المليء بالمغاطات والأحكام المتسرعة، إلى أنّ "علاقتنا بالحقيقة هي محل التباس وازدواج أو تعارض وتناقض. وتلك هي المفارقة" (ص: 17). الملاحظ أن علي حرب في تشخيصه لعلاقة العرب بالحقيقة يحاول أن ينطلق من تصور غربي يمنح للمفكر صفة "الفيلسوف الطبيب" الذي أشار إليه كثير من فلاسفة القرن الماضي، أي: أن الفيلسوف طبيب الحضارة الإنسانية، طبيب العقل والمجتمع والإنسان، مع العلم أن مهام الطبيب تتلخص أساساً في التشخيص والعلاج! أما الشفاء فله أبعاد روحية أكبر منها بيولوجية!

لكن علي حرب في قوله السابق جمع بين الطب والمنطق والتفلسف، الأول يتمثل في قوله "ازدواج"، والثاني في "تعارض وتناقض" والثالث في مفهومي الـ"التباس" و"الحقيقة"، فهل للمفكر – الفيلسوف العربي القدرة الكاملة على الجمع بين كل هذه المهمات في ذات واحدة؟ لو كان الأمر كذلك، فلماذا نعيش هذا الدمار والخراب والتشتت العربي الممنهج؟ إن هذا السؤال يمنحنا شرعية طرح سؤال آخر مضمر فيه بشكل أو بآخر، وهو: ما دور المفكر العربي اليوم؟ وعندما نقول اليوم فلا نعني اللحظة التي نعيشها الآن، ولكن الزمن المعاصر لآمالنا وآلامنا، الزمن الذي أصبح فيه الإبداع العربي جغرافيا بعيدة عن أي تصور واع يمكنُ أن يتأسس في زمن النهضة العربية (التائهة) قبل قرن من الزمن، وأصبحت فيه ملكات المثقف العربي لا تقوى على التحليل إلاّ بالقدر الذي يوصلها إلى تقاعد مريح بعيداً عن ضجيج العالم المعاصر.

إن الأفكار هي ظل مشاعرنا: هي دائماً أشد غموضاً، وأشدّ فراغاً، وأشد بساطة منها (نيتشه في العلم الجذل)، ودون هذه الأفكار لا يمكنُ الحديث عن مفكر، سواء كان عربياً أو ألمانياً. أما العقول المفكرة الحرة تأخذ حريتها من العلم الصحيح، العلم الحيّ، وهذا الأخير لا يمكنُ تحصيله بالقطيعة مع التراث (عبد الله العروي)، ولا بتقليد الأطروحات الغربية بل بنقدها وتمحيصها وفحصها وتبيان مراعاتها لمجالنا التداولي، لأن هذا سيمنح للشجرة جمالها الظاهر لكن جذورها الضاربة في الأرض منعدمة، فارغة، بلا تاريخ أو قلب.


*أستاذ فلسفة من المغرب

مقالات اخرى للكاتب

آراء
16 أغسطس 2017

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.