لا أتذكر، الآن، انطباعي عما قرأته، أول مرة، للكاتب المغربي محمد شكري، كان ذلك مع صدور مجموعته القصصية "مجنون الورد"، عن دار الآداب في بيروت أواخر سبعينات القرن الماضي لكنه، على الأغلب، لم يكن انطباعا قويا فلم تكن تلك القصص، ذات النفس الواقعي، مما يثير، وقتها، شغفنا، نحن فتيان الحداثة العربية وأغرارها الذين كنا مولعين بقصص تقطع مع التيار التقليدي في السرد وتؤسس لكتابة لا تتقدم الينا بمادتها فقط، بل، وكذلك، بأسلوبها، بلغتها، بشغوراتها وانقطاعاتها، بخلخلة بنيتها السردية، كتابة فيها من التقطع والهشاشة أكثر ما فيها من التواصل والتماسك ، كتابة نكدة، منغِّصة، تكافح ضد المتعة السهلة والتدفق والسلاسة ولم تكن قصص محمد شكري التي تنهل، كما اتذكر الآن، من حياة واقعية حتى الثمالة، المجردة، تقريبا، من الصنيع الشكلي والبنائي والشعرية اللغوية مما يقع في هذه الخانة. كانت قصصاً سهلة، وتلقيها أسهل، وكنا نأخذ أنفسنا بالشدة والعسر والصعوبة والنكد. سيغيب اسم محمد شكري عن ذهني نحو عشر سنين أخرى، ستتغير، في الأثناء، نسبياً، ذائقتي الأدبية وتتصالح معاييري ،نسبيا أيضاً، مع أشكال مختلفة للكتابة الشعرية والسردية. هكذا سأتلقى كتاب شكري "الخبز الحافي" الذي أصدرته دار الساقي في لندن بفرحة من يقع على لقية وهو، بالفعل، لقية في حقل الكتابة السردية العربية التي أخذت، تحت سطوة الحداثة والتجريب، تتشابه الى حد الملل وتضمر فيها عروق الحياة حتى الجفاف، وسيصنع هذا الكتاب الفريد، صوتاً وموضوعاً، الملامح الاساسية وربما النهائية التي ستستقر عليها صورة محمد شكري في أذهان المثقفين والقراء على السواء. كان "الخبز الحافي" مفاجئاً بكل المقاييس ولم يكن يتعلق الأمر بأسلوب الكتابة، بل بعالمها، ولا أقول بمادتها. كان حافياً جداً إلا من روحه نصف المقدسة نصف المدنَّسة . فهنا عالم قاس وفظ وعدائي وهنا كتابة جريئة، مباشرة، وجارحة كأن الكتاب مكتوب بالسكين لا بالقلم. سكين تكشط وتغوص في أحشاء عالم قاتم ولا تتلكأ عند أطرافه وحواشيه كأننا أمام هنري ميللر عربي، هنري ميللر الذي فتننا بمداراته السوداء صار لدينا، ابتداء، من "الخبز الحافي" هنري ميللرنا القديس، المدنس، الخاطىء،البريء،العيّار، والنمرود ابن قاع الحياة وتحايلها على العيش الصرف الذي لا تطاله اليد. توالت اعمال شكري بعد "الخبز الحافي" على نحو متقطع كان الكاتب الذي جعلت منه حياته الشقية علماً في دنيا الكتابة العربية بين ليلة وضحاها ينوء تحت عبء الشهرة المفاجئة، ولا يعرف كيف يمسك بالقلم مرة أخرى، لا يعرف كيف يمسك بخيط الحكاية مجدداً. فالشهرة التي رفعته عالياً علقته، في الوقت نفسه، على عودها هذا، ما دفعه للصمت زمناً طويلاً، كان، خلال ذلك، يتحول الى أيقونة، محجٍّ، مَعْلمٍ من معالم المدينة التي اصطاد أحشاءها برمية شباك واحدة، ولكن كان في تلك الشباك الكثير مما يمكن تمحيصه وفرز غثه من ثمينه. فعاد اليها مرة أخرى، وكانت "زمن الاخطاء" نقلة أخرى في سيرة الشخص والمدينة التي أخذت تتوارى تحت غمر التحولات التي طرأت عليها مذ عادت الى السيادة المغربية وانتهى زمنها الكوزموبوليتي المفتوح على أفق متنوع من البشر واللغات والثقافات والمسرات والآلام. صارت طنجة تلك ذكرى، جحيماً للبعض، فردوساً مفقوداً للبعض الآخر وعند شكري، الكاتب، كانت مزيجاً من الجحيم والفردوس وسيتأكد هذا في "زمن الأخطاء" أو، بحسب عنوان آخر لها، "الشطار". لكن كتابه الخبز الحافي ظل، وحده، يرسم اسمه وسمته ويأسره كل ما كتب شكري بعد ذلك كان تتمة وتنويعا على نفس العالم، وهو عالم، في الكتابة، غير قابل للإستنفاد ثم جاء كتابه الثالث في السياق نفسه "وجوه" لكنه لم يكن عودة الى طنجة الاولى، تلك التي قدمها لنا في الخبز الحافي وانما وقفة حزينة، نوستالجية أمام مصائر شخوصها. كأنَّ" وجوه" كان ختام الثلاثية الطنجية، وختام كتابته السردية، اذ لم يقدم بعدها، حسب علمي، كتاباً سردياً واحداً بل اشتغل على مراسلاته مع الناقد المغربي المعروف محمد برادة الذي لعب دورا نقديا مهما في حياة شكري الكتابية، كما يتضح من المراسلات التي ضمها كتاب بعنوان ورد ورماد قرأت معظم كتابات شكري في السرد والصور القلمية التي رسمها لكتاب عالميين التقاهم في طنجة. لم التق شكري، رغم زياراتي المتكررة الى المغرب وكتاباتي العديدة عنه، الا قبل عامين من رحيله، أثناء انعقاد مؤتمر لاتحاد كتاب المغرب في الرباط . كانت زيارة طنجة ولقاء محمد شكري فهيا، نوعاً من السياحة الثقافية التي حاولت تجنبها، ولولا دعوة حسن نجمي لي لحضور مؤتمر الاتحاد والعلاقة التصالحية التي نشأت بين شكري والأطر الثقافية المغربية لما كنا التقيت شكري. كنا ضيفين على المؤتمر، وضيوف مؤتمرات حركية من هذا النوع لا يفعلون شيئا سوى الجلوس في بهو الفندق واحتساء فناجين من القهوة لا حصر لها، واطلاق حبل النميمة المنعشة على الغارب. هكذا استمتعت بلقاء محمد شكري، حصرياً، فمعظم أعضاء المؤتمر كانوا مشغولين في الأنشطة التنظيمية التي لم تكن تعني لنا، شكري وأنا، شيئاً، أقول استمتعت بلقاء محمد شكري لأن شخص هذا الكاتب لا يقل فرادة عن كتابته، بل أزعم أنه أغنى من كتابته وأكثر عمقا ومعرفة. يتوقع من يقرأ كتابات شكري أن يكون أمام كاتب ليس لديه سوى الحكايات التي رواها في كتبه ليكتشف أنه أمام مثقف عميق ومتنوع المعارف، ينقلك من ديستويفسكي الى تنيسي وليامز، ومن المتنبي وأبو العلاء المعري الى شعراء الحداثة العربية. كان البعد الشعري في أحاديثه واضحاً جداً لدرجة يبدو، لمن لا يعرفه، شاعراً وليس كاتب سرد. لا أتذكر أننا تحدثنا عن روائي أو قاص عربي. كان مأخوذاً بالحديث عن الشعر والشعراء.
قضيت ثلاثة أيام مع شكري في الفندق، نلتقي على الافطار في نحو العاشرة صباحاً ونبقى الى نحو منتصف الليل، لا يقطع ذلك سوى هجعة بعد الظهر. كان شكري يكتفي من افطار الصباح بفنجان من القهوة، وربما كسرة خبز، ليُخرج، بعد ذلك، من حقيبة الكتف الجلدية التي لا تفارقة مؤونته من الويسكي ورشفة وراء رشفة وسيكارة تلو أخرى يواصل جلسته في ركن الفندق نفسه، وتتفتح خزائن ذاكرته وقريحته وحافظته، بحديث لا يُمل. ذلك كان أول، وآخر، لقاء بيننا. كنا تواعدنا أن نلتقي يوماً ما في طنجة ولم يأت ذلك اليوم، لأن السرطان، طاعون العصر وسيفه الحاصد، كان سباقاً. أحببت شكري الشخص كما أحببت شكري الكاتب. كنت أخشى أن تفارق الصورة اطارها، أن ينطبق عليه القول المأثور: تَسْمَعُ بالمُعيديّ خيرٌ من أن تراه. لكن هذا، لحسن الحظ، لم يحصل.