}

إعادة التفكير في مبادئ وقيم الأنوار

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 21 نوفمبر 2020
آراء إعادة التفكير في مبادئ وقيم الأنوار
عمل فني للرسام البولندي بافيل كوكزينسكي

أولــيـــــــات
نتصوَّر أن أي محاولة لإعادة التفكير اليوم في مبادئ وقيم الأنوار، وفي طرق مواصلة إعادة بنائها في المحيط الثقافي العربي، يستدعي الانتباه إلى ثلاثة مؤشرات كبرى. يتعلق المؤشر الأول بالمرجعية النظرية والتاريخية التي تبلورت وتطورت هذه القيم في إطارها، ضمن صيرورة تاريخية نظرية معقَّدة. ونقصد بذلك صيرورة التاريخ السياسي الأوروبي الحديث والمعاصر، في شقه النظري والفلسفي على وجه الخصوص، وفي تمظهراته التاريخية والدينية والسياسية المتعددة والمتنوعة، وكذا في مستوى الثورات العلمية التي واكبته، وانعكست على آثارها في كثير من تجلياته. لا يعني الاستئناس برصيد هذه التجربة في التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، أننا نروم استنساخها أو تحويلها إلى نموذج كوني مغلق، إن الاستئناس المقصود هنا، يُفْضِي إلى ضرورة استخلاص أهم المعطيات التي أفرزتها صيرورتها التاريخية وأهلتها للمساهمة في بناء أرصدة نظرية وتاريخية، مؤسِّسة لكثيرٍ من أَوْجُه وتجليات الفكر الحديث والمعاصر.
أما المؤشر الثاني، فيتعلق بالمحصّلات الكبرى لنوعية التفاعل الحاصل في ثقافتنا السياسية النهضوية، مع إشكالات ومفاهيم وقيم فلسفات التنوير. وإذا كنا نعي أن تفاعل ثقافتنا مع فلسفة الأنوار استغرق ما يقرب من قرنين، وأنه ما يزال متواصلًا إلى يومنا هذا، أدركنا أهمية المعطيات المترتبة على التفاعل المذكور. ونحن نفترض أن فكرنا اليوم، يعي أهمية الأنوار وأدوارها في التاريخ، ويعي في الوقت نفسه حدودها.. ويُمَكِّنُنا الوعي العربي الجديد بأهمية الأنوار وبحدودها في الآن نفسه، من التخلص من طرق التفكير بالمثال، أي بنموذج الأنوار كما تبلور في التاريخ الأوروبي، لنتجه نحو آليات أخرى في النظر، تسمح لنا بتوسيع صور استلهامنا لمختلف مكاسبها كما انتقلت إلى ثقافتنا، وكما تمت في أنماط التلقي الأخرى داخل القارة الأوروبية وفي آسيا، الأمر الذي يتيح لنا إمكانية الإحاطة بعوائقها ومنجزاتها، ومختلف صور التحول والتطور التي لحقتها.
يتصل المؤشر الثالث بمجال المتغيرات التي ما فتئت تصنع اليوم؛ سياقات جديدة للتفكير في أسئلة التنوير وضرورتها في الحاضر العربي. فلم يعد هناك من يجادل في كون التحولات التي يعرفها العالم، في موضوع الموقف من أشكال التوظيف التي تُمَارَس لتحويل المُقَدَّس إلى أداة من أدوات الحرب، تدفع إلى مزيد من معاينة الجهود الفكرية الجديدة، التي تواكب ثورات التنوير وثورات المعرفة في عصرنا، لاستثمار مآثرها والتعلُّم، من عوائقها وصعوباتها، في عالم يتجه للقطع مع تصورات ومواقف معينة، من مسألة حضور المقدس في المجال العام، حيث يعرف المهتمُّون بالفلسفة السياسية والأخلاقية المعاصرة، أن بعض أعلام الفكر الأخلاقي والسياسي المعاصر، لا يحملون حماسة الأنوار الرامية إلى استبعاد إمكانية حضور الدين في المجال العام، وذلك انطلاقًا من وعيهم بضرورة التمييز بين علمنة الدولة وعلمنة المجتمع. وضمن هذا السياق، المُسْتَوْعِب لجوانب من متغيرات عالمنا، يعلنون رفضهم سواء لمسألة تقديس الدولة أو بناء لاهوت سياسي، مع ضرورة قبول صور التنوُّع والتعدُّد في العقائد داخل المجتمعات المعاصرة. ويمكن أن نتبيَّن في مثل هذه المواقف، ما يفيد نوعًا من تطوير أدبيات التنوير في الموضوع نفسه، وجعلها أكثر قربًا من متغيرات عالمنا، وأكثر بعدًا عن لغة القطع والإطلاق والإقصاء.


تساعدنا المؤشرات التي رسمنا في الفقرات السابقة، على الاقتراب من مطلب التفكير في إعادة بناء بعض مقدمات الأنوار وقيمها، في ضوء التحولات الجارية في عالمنا. لكن لا بد من الإقرار أولًا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار، ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، والتي تبلورت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، ثم تطورت بعد ذلك. بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها بعد ذلك، وطيلة القرنين الماضيين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها الفكري والاجتماعي امتدادات، ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، إلا أن كل ما جرى مكَّن المشروع الأنواري من مواصلة رسم حدوده وإعادة رسمها، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه النظري، وَمَنَحَه تماسكًا وصلابة أكثر.

معركة إبداع التنوير المكافئ لتطلعات مجتمعنا، تزداد أهمية وراهنية،
كلما فكرنا في التغيير وشروطه



نسي كثير من الذين يتحدثون اليوم عن إخفاق مشروع التنوير في مجتمعاتنا، أن جهود رواد الإصلاح والنهضة، الذين عملوا على غرس قيم العقل والنقد والحرية والتقدم في ثقافتنا، لم تكن نظرية خالصة، بل إنها كانت وما تزال منذ بداياتها الأولى وإلى يومنا هذا، أشبه ما تكون بعملية في المواجهة، مواجهةَ سقفٍ في النظر واللغة، ومواجهة تاريخ من الاستبداد، وتاريخ من الهيمنة النصية.. لهذا اختلطت وتداخلت مهامهم، وذلك رغم كل الجهود المضنية التي بذلوا، في باب دعم وتعزيز منطق العقلانية ولغتها في ثقافتنا. ولعلهم نسوا أيضًا، أن التوجهات النظرية الجديدة التي ترتبط بما نسميه عقلانية وعي الذات، ونقصد به العقلانية التاريخية والنقدية، التي ما فتئت تتّسع وتتطوَّر في فكرنا منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، تعد في العمق مُحصلة لمختلف صُوَّر التمرين والتمرس، التي مارسها الجيل الأول والثاني من النهضويين العرب، منذ أواسط ونهايات القرن التاسع عشر، زمن بداية التفاعل المنتج مع روح الأزمنة الحديثة.

تحتاج المجتمعات العربية وهي تواصل تطلُّعها إلى بناء مجتمع جديد، إلى جبهة مسلحة بمبادئ الفكر المعاصر ومقدماته، وفي قلب هذه المبادئ مكاسب فلسفة الأنوار، جبهة قادرة على إعادة بناء المجتمع والفكر والتاريخ مجددًا. ونحن نعتقد أنّه لن تكون هناك مردودية، لتحركات الأمس واليوم، إذا لم تصنع الحدود التي تُرَكِّب القطائع المطلوبة وبلا تردُّدٍ ولا مخاتلة، مع مختلف أوجه التقليد والاستبداد ومظاهرهما في مجتمعنا، الأمر الذي يفيد أنّ معاركنا من أجل الأنوار والتنوير ما تزال متواصلة.
نتبين حاجة مجتمعنا إلى الجبهة المذكورة في صور تزايد مظاهر التطرف في مجتمعاتنا، وقد تشابكت جملة من العوامل في توليدها واستمرارها. ولهذا السبب نتصوَّر أن معارك مواجهتها ينبغي أن تكون متنوعة بتنوُّع الأدوار التي تمارس في واقعنا. وكلما ازداد عنف هذه الحركات في محيطنا الاجتماعي والسياسي، ازدادت الحاجة إلى تطوير آليات المواجهة، بهدف توسيع مساحات التنوير والانفتاح في ثقافتنا ومجتمعنا، الأمر الذي يقلص من أدوار الفكر الوثوقي، وأدوار الفقهاء الذين يتمتعون في حاضرنا بامتيازات الكهنوت، امتيازات مانحي صكوك الغفران، كما يقلِّص من مردودية أدعية وكرامات الأولياء، ويكشف في الآن نفسه، أقنعة المشرفين على إعداد فتاوى التكفير والجهاد.

 

في المواجهة بالتنوير
يطرح مشكل تنامي إسلام التطرف في واقعنا مطلب المواجهة بالتنوير، لكي لا تُحَوِّلَ جماعاتٌ معينة التجربة الروحية في التاريخ الإسلامي إلى تجربة متحجرة مغلقة، ونظام نصي مُعلَّق وجامد. إن التجربة الروحية في الإسلام كما نتصوَّر، تتجاوز الأحكام النمطية المحفوظة في تراث متعدِّد الروافد، تراث لا يعدو أن يكون جزءًا من تاريخ لم ينته بعد. لهذا السبب نرى أن عودة المحفوظات التقليدية، بالصورة التي تتمظهر بها اليوم في ثقافتنا وفي مجالنا التربوي والسياسي، سببه عدم قدرتنا على إنجاز ما يسعف بتطوير نظرتنا للدين والثقافة والسياسة في مجتمعاتنا. إن فشل مشاريع الإصلاح الديني والإصلاح التربوي والثقافي، وبروز أشكال من التأسلم المختلطة، من قَبِيل إسلام الأنظمة السياسية السائدة في أغلب الأقطار العربية، والإسلام الشعبي الطقوسي والمظهري، وإسلام الزوايا، يضعنا أمام شبكة معقَّدة من التصورات والعقائد والممارسات، شبكة تحتاج إلى كثير من الفرز والضبط والترتيب، لرسم ملامح التقارب والتباعد والاختلاط الحاصل في بنياتها، وهذه مسؤولية تيارات فكر التنوير في ثقافتنا المعاصرة، مسؤولية التشخيص والمواجهة بالنقد.
لا تنفصل معارك المجال الثقافي والديني، الحاصلة في مجتمعاتنا اليوم، عن مشروع ترسيخ مقدمات الأنوار وقيمها في فكرنا. وضمن هذا السياق، نؤكد أن انتشار دعاوى تيارات التطرُّف، ودعاوى تيارات التكفير والعنف في ثقافتنا ومجتمعنا، يمنحنا مناسبة تاريخية جديدة، لإطلاق مجابهات نقدية يكون بإمكانها أن تَكشف وتُبرز فقر ومحدودية وغُرْبَة التصورات المتصلة بهذه التيارات، عن مختلف التطلعات التي نرسم لمستقبلنا، الأمر الذي يتيح لنا بناء الفكر المبدع، أي إنشاء خيارات مطابقة لتطلعاتنا في النهضة والتقدم..
نتصور أنه لا يمكِن تحقيق التغيير السياسي في المجتمعات العربية، دون حصول تغيير ثقافي يُمَكِّنُه من الروافع التي تجعله أمرًا ممكن الحصول. إن معركة إبداع التنوير المكافئ لتطلعات مجتمعنا، تزداد أهمية وراهنية، كلما فكرنا في التغيير وشروطه. يعود السبب في ذلك، إلى استمرار هيمنة التقليد على فضاءات السياسة والثقافة في مجتمعنا، وتصاعُد حضور التيارات التي تنسب نفسها إلى حركة الإسلام السياسي، وهي الحركات التي وسَّعَت صور حضور تصوُّرات أخرى للإسلام في مجتمعنا، وذلك بجانب الصور المواكبة لتاريخه.
وهنا لابد من التوضيح بأن قيم الإسلام، كما تبلورت في التاريخ، لا علاقة بينها وبين ما هو شائع عنها اليوم من أفكار، أقل ما يمكن أن توصف به هو غربتها عن التاريخ وعن الإنسان. فالإسلام في تاريخه النصي والحدثي أكثر من الأحكام والفتاوى المحافظة الْمُعَمَّمَة اليوم، بواسطة أدوات وقنوات الفضاء الافتراضي، إنه في روحه العامة عبارة عن جهد في النظر وفي التاريخ مشدود إلى المطلق، ولهذا السبب نحن لا نتصوَّر الإسلام من دون اجتهاد ومن دون تجديد.

تحتاج المجتمعات العربية وهي تواصل تطلُّعها إلى بناء مجتمع جديد، إلى جبهة مسلحة بمبادئ الفكر المعاصر ومقدماته، وفي قلب هذه المبادئ مكاسب فلسفة الأنوار، جبهة قادرة على إعادة بناء المجتمع والفكر والتاريخ مجددًا



ترتبط حاجتنا إلى التنوير بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بسؤال الحداثة في فكرنا وفي كيفيات تعاملنا مع مبادئها الكبرى، ومع مختلف التجارب التي أبدعت في التاريخ. وإذا ما كنا نعرف بأن المبدأ الأكبر الذي وجه فكر الأنوار، يتمثل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، والسعي لإبراز قدرته على تعقل ذاته ومصيره، بهدف فك مغالق ومجاهل الكون والحياة، فإنه لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمية هذا المبدأ، الذي يمنح العقل البشري مكان الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤولية صناعة حاضره ومستقبله. ولعلنا نزداد تشبثًا بهذا المبدأ، عندما نعاين في حاضرنا كثيرًا من مظاهر تحقير الإنسان والتنكيل به، فندرك بصورة أفضل، أهمية الانخراط في تعزيز قيم التنوير المفتوحة والمتحوِّلة في حياتنا. وندرك في الآن نفسه، أن حاجتنا اليوم لهذه القيم، لا تمليها شروط خارجية، ولا تمليها إرادةُ نقلٍ تكتفي بنسخ الجاهز من النماذج التنويرية كما تبلورت في التاريخ، بل إن حاجتنا الفعلية لهذه القيم، تحددها بكثير من القوة شروط حياتنا الواقعية والفعلية، حيث يصبح توسيع مجال العقل والنقد، مناسبة للمساهمة في عمليات إعادة بناء القيم والمبادئ، التي تتيح لنا الخروج من مآزق القراءات المحافظة والمغلقة لتاريخنا وتراثنا، وهو تاريخ نعتقد أننا لم نتمكن بعد من تشريحه ونقده، تمهيدًا لإعادة بنائه بتجاوزه.


ترتبط حاجتنا إلى التنوير بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بسؤال الحداثة في فكرنا وفي كيفيات تعاملنا مع مبادئها الكبرى، ومع مختلف التجارب التي أبدعت في التاريخ.



وإذا كنا نسلم بأن فكر الأنوار دَاخِلَ المشروع  الحداثي، لا يمتلك تصورات دقيقة وواضحة في مسألة الموقف من الدين والعقائد، ومختلف ما يمكن إدراجه في باب الروحانيات، وأن كثيرًا من الأدبيات المرتبطة به، تستوعب تصورات عامة وميكانيكية، وأن النصوص الراديكالية في سِجِلِّه رَكَّبَت بدورها تصورات قطعية مماثلة في فهمها لكثير من معطيات اللاهوت، حيث ظل منطق الخلاص متحكمًا في الرؤيتين معًا، سواء اتخذ صفة الهرطقة المُعْلَنة، أو ركَنَ إلى مسلمات العقائد النصية الآمرة والمغلقة، الأمر الذي يدعونا إلى مزيد من النظر في الموضوع، وذلك في ضوء التحوُّلات المعرفية والْقِيَّمِيَّة الجارية اليوم في عالمنا..
ساهمت الانفجارات التي حصلت مؤخرًا في مجتمعاتنا، في التعجيل بإعلان الدفاع عن جملة من المفاهيم المرتبطة بالعلمانية، من قبيل انتعاش الحديث عن مفردة ضمير في ثقافتنا السياسية، بحكم أنها تُرَكِّب ما يسمح بتجاوز التمييز بين المواطنين على أساس الدين والمعتقد، وذلك اعتمادًا على مبدأ المواطَنة الذي يقرُّ بالمساواة. ولا بد من التوضيح هنا، أن التلويح اليوم بالذات بمفردة الضمير، والمطالبة بضرورة استيعاب منطوقها وروحها في دساتيرنا وسجالاتنا السياسية، يحصل داخل مجتمعاتنا في سياق تاريخي، مرتبط بتحولات جارفةٍ في القيم والثقافات. وإذا كنا نعرف أن المفردة تزكّي خيارًا فلسفيًّا معيّنًا، في النظر إلى الإنسان والتاريخ والمجال السياسي، سندرك أهمية الاستعانة بها في سياق التحولات الجارية اليوم في مجتمعاتنا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.