}

سَبْقُ العرب لعلاج الأوبئة..ردّ على نقاشات "زمن كورونا"

محمد ظهيري 18 أبريل 2020
آراء سَبْقُ العرب لعلاج الأوبئة..ردّ على نقاشات "زمن كورونا"
تصوير أوروبي للطبيب الرازي في جيراردوس كريمونينسيس
تابعت خلال الأسابيع الأخيرة النقاشات الدائرة حول جائحة كورونا وكيفية التوصل إلى لقاح مضاد لها. وما أثارني في كل هذه النقاشات هو أنه بينما حرصت بعض الجرائد الأجنبية وكتاب مقالات الرأي فيها على التذكير بدور العرب والمسلمين في التوصل إلى نتائج طبية استفادت منها البشرية على امتداد قرون واعتمدتها الصين الشعبية لمواجهة جائحة كورونا والتقليل من أضرارها (جريدة "كلارين" الصادرة بالأرجنتين، وأسبوعية "نيوزويك" الصادرة بالولايات المتحدة الأميركية، ثم يومية "أ.ب.س" بإسبانيا) نجد، في المقابل، من الجانب العربي، بعض الأكاديميين العرب في تغريداتهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، تويتر أساسا، الذين عبروا عن إشادتهم بانكباب علماء وأطباء من خمس دول "معظمهم من قوم عيسى وموسى وبوذا" لتطوير لقاح ضد "كوفيد-19" مما سيدخل "الفرحة على الكون" (عربي 21، 31/3/2020؛ القدس العربي، 3/4/2020 وموقع تويتر)، وكأن هذه التغريدات والتعليقات التي تفاعلت معها بالإيجاب تدعونا إلى اليأس من "قوم محمد" لأنه قوم مستهلك لما تنتجه باقي الأقوام وعاجز عن الإنتاج. أي أن هؤلاء يعتبرون "قوم محمد"، والذي يقدر بما يقارب ألفي مليون نسمة، أي ما يفوق ربع ساكنة العالم (7.7 مليون نسمة)، غير قادر على إنتاج معارف طبية وعلمية تعود بالنفع على البشرية.
ولو أني لا أتفق مبدئيا مع هذا التقسيم بين الأقوام لأسباب عرقية أو دينية لإيماني وقناعتي الراسخين أن "قوم محمد" و"قوم عيسى" و"قوم موسى" و"قوم بوذا" سواسية في الكرامة والضمير والحقوق ولو فرقت بينهم، بسبب مكان ولادتهم أو مكان ولادة آبائهم، الألسن التي يتواصلون بها أو الديانات التي يتبعونها أو العادات والتقاليد التي يمارسونها، ولكن، ومن باب المسؤولية العلمية وكذا من باب قناعتي المبدئية، أجدني مضطرا للرد على هذه التصريحات الباطلة والتي أريد بها باطل.

الكيميائي يبحث عن حجر الفلاسفة.. بريشة جوسف رايت من دربي، 1771 

















يمكن أن نتفق مع كل هؤلاء حول الوضع الحالي للعطاء والإنتاج في كل مجالات المعرفة والعلوم بالمنطقة العربية الإسلامية، لكن هذا موضوع آخر وأسبابه ليست لها أية علاقة مباشرة بـ"قوم" دون آخر. وعلى الأقل إلى حدود كتابة هذه السطور لا توجد أية دراسة علمية قادرة على إثبات ذلك. سبب الوضع الحالي الذي يوجد عليه البحث العلمي والإنتاج المعرفي في الدول العربية الإسلامية له علاقة مباشرة بالوضع السياسي في أغلب هذه البلدان والأنظمة الحاكمة فيها، التي تهمش العلماء والمثقفين وتقمع حرية الإبداع والتفكير وتكبح جماح التطور والتقدم وتخصص نسبة ضئيلة من منتوجها الداخلي الخام للبحث العلمي والذي لا يرقى إلى مستوى بعض الدول النامية في أميركا اللاتينية. فأغلب أنظمة البلدان العربية الإسلامية، وعلى امتداد عقود، تبنت ثقافة المناسبات وشجعت التفاهة والميوعة، متبنية فناني الأغنية الساقطة ومثقفي السلطة، وضيقت الخناق على المثقفين الملتزمين بقضايا شعوبهم وأوطانهم والعلماء المتفانين في أبحاثهم خدمة للإنسانية، مما أجبر أغلبهم على الهجرة القسرية خارج المنطقة العربية الإسلامية ليستفيد "أقوام عيسى وموسى وبوذا" من إنتاجاتهم العلمية ومهاراتهم الفكرية وإبداعاتهم المعرفية وحُسن توجيهاتهم لحكامة أحسن.

لكن، ما لا يمكننا الاتفاق عليه هو نعت "قوم محمد" بالتأخر العلمي وعجزه عن مسايرة "أقوام عيسى وموسى وبوذا"، حسب تسمية هؤلاء، في تطوير العلوم لمجابهة الآفات التي تعانيها البشرية. خصوصا وأن كلمة "علم" بكل مشتقاتها وردت في الكتاب الذي يتبعه "قوم محمد" (القرآن الكريم) 779 مرة، أي بمعدل سبع مرات في كل سورة. وكذلك لأن العلوم والأدوية التي تستعلما "أقوام عيسى وموسى وبوذا" وباقي الأقوام لمجابهة "كوفيد-19" هي من إبداع عربي إسلامي محض. وأقصد: "الصابون" و"الكحول" ثم " الحجر الصحي"، وغيره من التدابير المتخذة من قبل منظمة الصحة العالمية للقضاء على جائحة كورونا.
وهنا سأضطر للعودة إلى أسباب النزول لتوضيح ما أقصده من هذا المقال المرتجل.
فمنذ اكتشاف المرض في ديسمبر/كانون الأول 2019 في مدينة ووهان وسط الصين، وتصنيف منظمة الصحة العالمية له، يوم 11 مارس/آذار، كجائحة عالمية تحت اسم "كوفيد-19"، نصحت كل من المنظمة العالمية للصحة والحكومة الصينية الحفاظ على مستوى جيد من النظافة الصحية، مثل "غسل اليدين بالصابون بشكل منتظم" و"عدم لمس الفم أو الأنف أو العين باليدين"، و"ارتداء أقنعة وقائية أو أقنعة جراحية" و"استعمال مطهرات اليد (خليط صابون وكحول)"، لتقرر بعدها الحكومة المركزية الصينية "إغلاق مدينة ووهان" ابتداء من يوم 23 يناير/كانون الثاني. أي أنها فرضت على مدينة بأكملها يبلغ عدد ساكنتها 12 مليون نسمة الحجر الصحي. وهو نفس الإجراء الذي ستقوم به فيما بعد كل من إيطاليا والمغرب وإسبانيا لتحذو حذوها دول عدة في كل بقاع العالم، ليصل عدد الذين هم في حالة حجر صحي الآن إلى 2.5 مليون نسمة في كل ربوع العالم.
لنتفق إذاً على أن الخبراء الطبيين لمنظمة الصحة العالمية باتفاق مع سلطات الصحة العامة المحلية والوطنية للدول التي سجل فيها أكبر عدد من حالات المصابين بـ"كوفيد-19"
وضحاياه، نصحوا هذه الدول باتخاذ إجراءات وقائية أخرى مثل: "غسل اليدين بانتظام بالماء والصابون" أو "فركهما بمُطهّر كحولي لقتل الفيروسات التي قد تكون على اليدين" و"الاحتفاظ بمسافة لا تقل عن متر واحد (3 أقدام) بين الأشخاص" و "تجنب لمس العينين والأنف والفم باليدين لأن اليدين تلمسان العديد من الأسطح ويمكنهما أن تلتقطا الفيروسات. وإذا تلوثت اليدان فإنهما قد تنقلان الفيروس إلى العينين أو الأنف أو الفم. ويمكن للفيروس أن يدخل الجسم عن طريق هذه المنافذ". وإضافة إلى كل هذا، كل الدول المعنية بـ"كوفيد-19" "منعت تجمعات الناس" كما "منعت أداء الصلاة الجماعية وأغلقت دور العبادة ومنعت الاحتفالات الدينية"، كما نصحت بـ"استعمال بطائق الائتمان للدفع بدلاً من النقود".
وقد لاحظنا مؤخراً أن الأطباء النفسيين الذين بدأت تستعين بهم منظمة الصحة العالمية والسلطات الصحية للدول التي سجل فيها أكبر عدد من حالات المصابين بـ"كوفيد-19"، ينصحون بـ"عدم الخوف من المرض"، أي "عدم الخوف من فيروس كورونا". وكل هذه التوجيهات يمكن الاطلاع عليها في نصائح "دليل منظمة الصحة العالمية" بشأن مرض فيروس كورونا "كوفيد-19" وعلى المواقع الإلكترونية لوزارات الصحة لأغلبية هذه الدول المعنية بجائحة "كوفيد-19". هذا إضافة إلى دعوتها، في إجراء لاحق، إلى تفعيل قوانينها المحلية لتطبيق "الحجر الصحي" على مواطنيها.
 
















منذ ما يزيد على 14 قرناً
كل هذه الإجراءات الوقائية والاحترازية ليست اجتهاداً من منظمة الصحة العالمية أو بدعة من الدول التي سجل فيها أكبر عدد من حالات المصابين بـ"كوفيد-19"، بل هي تطبيق شبه حرفي لإجراءات وقائية من إبداع عربي إسلامي بامتياز منذ ما يزيد على 14 قرنا، كما سنفصل في الفقرات التالية.

فتركيبة الصابون المستعمل إلى الآن في كل بقاع العالم تم العثور عليها، كما يؤكد ذلك الباحث الأرجنتيني الدكتور حمورابي نافوري، في لوحات عراقية تعود إلى سنة 2800 قبل الميلاد، وهي نفس التركيبة المستعملة في حلب منذ 4000 سنة لإنتاج صابونها الطبيعي المعروف، والذي يعتمد أساسا على زيت الزيتون ومواد أخرى طبيعية تنتجها أراضي بلاد الشام. وعبر بلاد الشام سيصل الصابون الحلبي- العربي، ذو الأصول العراقية، إلى شبه الجزيرة الإيبيرية خلال القرن 11 للميلاد، إبان تألق الحضارة العربية الإسلامية بالأندلس ومنها إلى مملكة قشتالة ابتداء من 1230م، ليتحول بذلك إلى أحد أهم منتوجاتها وأهم صادراتها إلى أميركا وأوروبا. وعبر مملكة قشتالة سيصل إلى فرنسا في حدود سنة 1370م، وهو الصابون المعروف فيها تحت اسم "صابون مرسيليا" “Savon de Marseille” ، ومن فرنسا، بلاد العطور، سينتقل إلى كل دول العالم ليتحول إلى المادة الأساسية الأولى للنظافة في كل البيوت وفي كل الحمامات العمومية والخاصة إلى يومنا هذا.
وأما "الكحول" “Alcohol” فهو مصطلح انتقل إلى باقي اللغات بنفس الحروف، ويعني المستخلص الذي كان أول من اخترعه هو العالم والطبيب المسلم الرازي (250 هـ/ م864-311 هـ/923 م) عن طريق تقطير مواد نشوية وسكرية مختمرة. وكان يستعمله في الصيدلة من أجل استنباط الأدوية المتنوعة، ليتم استعماله فيما بعد كمطهر للجروح وكذلك لتطهير موضع العمليات الجراحية في مستشفى بغداد.
فالمسلمون، منذ القرن التاسع للميلاد، قاموا بإسهامات عدة في علم الكيمياء لتظهر نتائج تألقهم مع جابر بن حيان (101هـ/721م-195هـ/815م) وأبي بكر الرازي (250 هـ/ م864-311 هـ/923 م). وهكذا، ففي القرن العاشر للميلاد سيخترع الرازي "آلة الأنبيق"، وهي جهاز لتقطير السوائل. نستنتج هذا من شرحه المفصل في كتابه "الأنبيق"، حيث يشرح كيفية إجراء عملية تقطير المياه بواسطة "آلة الأنبيق". وهي، في اعتقاد كثير من العلماء، نفس الآلة التي استعملها لاختراع وإنتاج "الكحول" الذي كان يستخدمه الرازي وباقي الأطباء المسلمون كمادة مخدرة، إضافة إلى استعمالها، كما سبق بنا، كمطهر للجروح ولتطهير موضع العمليات الجراحية. ولا تزال الكحول في اللغتين الإسبانية والإنكليزية ولغات أخرى تحمل لفظها العربي الأصلي (Alcohol).
من جهة أخرى، فإن الطبيب والفيلسوف ابن سينا (370 هـ/980 م-427 هـ/1037 م)، المعروف في العالم العربي الإسلامي باسم الشيخ الرئيس وفي الغرب بأمير الأطباء وأبو الطب، كان أول من وضع دليلا للوقاية من الطاعون يتشابه إلى حد كبير والتوجيهات الموجهة حاليا من قبل المنظمة العالمية للصحة للوقاية من "كوفيد-19"، حيث توصل في كتابه "قانون الطب" إلى نتيجة تفيد بأن جميع الأمراض المعدية تنشأ وتنتشر بواسطة مواد صغيرة جدا وغير مرئية بالعين المجردة، أي ما يصطلح عليه اليوم بـ "فيروسات"، وأن أعدادها هائلة وهي تسبب الحمى والموت الأسود (الطاعون). وهذه المواد يمكنها أن تلتصق بالوجه والشعر والملابس.. إلخ. وقد قدم وصفة للوقاية من الطاعون تبدأ بـعدم الخوف منه، أي الخوف من المرض، وتجنب أماكن تجمعات الناس لأن الفيروس ينتقل بين الأشخاص عبر الهواء. كما نصح بأداء فريضة الصلاة في المنازل وإغلاق المساجد والأسواق مؤقتا، وتعقيم النقود بالخل، هذا إضافة إلى تأكيده على كل من يعتني أو يقوم بمعالجة مصاب بالطاعون أن يمضغ أوراق الشيح أو يعقم أنفه بقطن مبلل بالخل. وكأن ابن سينا تنبأ بفيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" منذ عشرة قرون خلت.

وللتذكير، فقد ألّف ابن سينا 200 كتاب في كل التخصصات، في الطب والفلسفة والعلوم الآلية والعلوم النظرية والعلوم العلمية والعلوم الأصلية والرياضيات والموسيقى، كما نظم الشعر. وأشهر قصائده "القصيدة العينية في النفس". ويعد واحداً من الأوائل الذين ألفوا في الطبّ. وأشهر أعماله في الطب كتابه "القانون في الطب"، الذي ظل لسبعة قرون المرجع الرئيسي في علم الطب، حيث ظل المرجع المعتمد لتعليم ولتكوين الأطباء في الجامعات الأوروبية حتى أواسط القرن السابع عشر.
وأما "الحجر الصحي"، والذي لجأت له مجموعة من الدول كواحد من التدابير التي نصحت بها منظمة الصحة العالمية لاحتواء ومنع انتقال الأمراض المعدية، خصوصا بعد تجاوز عدد الوفيات بسبب إصابتهم بفيروس كورونا المستجد "كوفيد-19"، الثلاثة آلاف حالة في حوالي مائة دولة في آسيا وأوروبا وأميركا وأفريقيا، فهو إجراء طبقه الرسول محمد (ص) منذ أكثر من 1445 سنة. فمصادر السيرة النبوية تخبرنا بعدد من الأحاديث النبوية المؤسسة لمبدأ الحجر الصحي، مثل منع الرسول الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون وكذلك منع أهل تلك البلدة من الخروج منها.
نقرأ في صحيح البخاري قصة عمر بن الخطاب (ض)، حين وصل إلى منطقة "سرغ"، في طريقه إلى الشام، بالقرب من اليرموك، حيث لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فطلب رأي المهاجرين الأولين، فاختلفوا، فاستشار الأنصار، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، ثم استشار "من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح"، فدعاهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: "نرى أن ترجع بالناس ولا تُقْدِمَهم على هذا الوباء"، فنادى عمر في الناس "إني مُصَبِّحٌ على ظَهْرٍ فأَصْبِحوا عليه". غير أن أبا عبيدة بن الجراح اعترض معتبرا ذلك "فراراً من قدر الله"، إلى أن جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: "إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، قال: فحمد الله عمر ثم انصرف".

صورة للرازي (840-923) في مختبره في بغداد (getty) 


















تقريرا "نيوزويك" وأ.ب.س":
سبق المسلمين لعلاج الأوبئة
ولعل هذا هو ما دفع بصحيفة "نيوزويك" الأميركية لنشر تقرير في عددها الصادر يوم 17 مارس/آذار الماضي يقر بـ"تأسيس الإسلام لمفهوم الحجر الصحي". والتقرير الموقع من قبل الدكتور كريغ كونسيدين، الأستاذ الباحث بقسم علم الاجتماع في جامعة رايس الأميركية، ألح على كل ما سبق وأشرنا له سابقا، مثل الدعوات المتصاعدة من قبل الأطباء والمنظمات الصحية للبقاء في المنازل والحجر الصحي لمواجهة "كوفيد-19"، وتأكيده على أن "خبراء المناعة مثل الطبيب أنتوني فوتشي والمراسلين الطبيين مثل سانجي غوبتا يؤكدون أن نظافة شخصية جيدة وحجر صحي هما أفضل الوسائل لتطويق "كوفيد-19". كما ذكّر الدكتور كونسيدين بأن النبي محمد كان سباقا إلى كل ذلك، حيث "شجع بقوة الناس على الالتزام بالنظافة الشخصية التي تبقيهم في مأمن من العدوى"، والدليل أحاديثه النبوية الحاثة على النظافة لأن "النظافة من الإيمان"، وأحاديثه الناصحة بغسل اليدين بعد الاستيقاظ من النوم "لأنك لا تعلم أين وضعت يديك خلال نومك"، أو أن "بركة الطعام تكمن في غسل اليدين قبل وبعد الأكل".

تقرير صحيفة "أ.ب.س" الإسبانية المنشور بعددها الصادر يوم 3 أبريل/نيسان الجاري، تحت عنوان "نصائح الرسول لعلاج الجائحة"، أكد بدوره "سبق المسلمين لعلاج الأوبئة وتأسيسهم لمبدأ الحجر الصحي".

وأما اليوم، وحال العرب والمسلمين ليست كما كانت عليه بعهد الرازي وابن سينا، ودائما في سياق الرد على أصحاب التغريدات والتدوينات المشار اليها في بداية هذا المقال، فإن العلماء والأطباء العرب المسلمين ما زالوا، كلما وُفِّرت لهم الإمكانيات واحترمت كرامتهم واعْتُرِف بقدراتهم، يساهمون في تطور الطب وباقي العلوم لإنقاذ البشرية من الأوبئة والأمراض الفتاكة وتسهيل حياتها. فمثلا العالم المغربي، الخبير في علم المناعة، الدكتور منصف محمد السلاوي، مستشار "غلاكسو سميث كلاين" في علم المناعة ورئيس مجلس إدارة اللقاحات بنفس الشركة، ساهم في تطوير 24 لقاحاً، كما أشرف منذ سنوات على بحوث حول لقاح ضد مرض "الإيدز". وقد كان واحداً من العلماء الذين استنجد بهم الرئيس الأميركي ترامب منذ أيام للبحث عن لقاح ضد فيروس كورونا المستجد، حيث أُسندت له مُهمَّة الإشراف رفقة اللجنة العلمية المعينة مؤخرا من قبل الرئيس الأميركي على تطوير لقاح مضاد لـ"كوفيد-19". كذلك الدكتور حنين مصعب، السوري الأصل، والذي شغل لمدة سنوات منصب رئيس قسم الأوبئة في جامعة ميتشغان، يعود له الفضل في تطوير لقاح الإنفلونزا الذي تم الترخيص باستعماله سنة 2003. وبفضل كل هذه اللقاحات تم إنقاذ حياة مئات الآلاف من البشر في كل دول العالم.
وهنا أريد التذكير، لعلاقتها بالموضوع، بالمفاجأة التي كانت تنتظر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال زيارته يوم 9 أبريل/نيسان 2020 للمعهد الاستشفائي الجامعي (إي إتش أو ميديتيرانيه) بمدينة مرسيليا الساحلية، جنوبي فرنسا، بهدف الاطلاع على أبحاث الطبيب والباحث ديدييه راوول، المثير للجدل في الأوساط الطبية في فرنسا بسبب دفاعه عن استخدام مادة "الهيدروكسي كلوروكين" لمعالجة مرضى فيروس كورونا المستجد، وكذا للتعرف على فريق عمله. وقد فاجأته إجابات فريق البحث العامل بالمختبر حين سألهم عن جنسياتهم. فمعظمهم ينحدرون من بلدان عربية إسلامية (المغرب، الجزائر، تونس، لبنان، مالي، السينغال ثم نيجيريا). وفي تجربة أولى قام فريق عمل الدكتور راوول بإجرائها على 24 شخصاً مصابين بفيروس كورونا المستجد مستخدما علاج "الكلورين"، كانت نتائجها إيجابية حيث شفي 75% من المشاركين في هذه التجربة تماما بعد 6 أيام من خضوعهم للعلاج.
ومثل هؤلاء، يمكننا إضافة أسماء مئات العلماء والأطباء والمفكرين والفلاسفة والمثقفين العرب والمسلمين في كل ربوع العالم، كل في مجال تخصصه، يعملون ويكدون ويجتهدون من أجل عالم أفضل لتحقيق ما لم يُسمح لهم به في بلدانهم الأصلية.

ومنذ أن بدأت أولى حالات فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" في الظهور، كان الأطباء العرب أو من أصول عربية من أول المتجندين لإنقاذ حياة الضحايا. الكثير منهم طلبوا الالتحاق بعد إحالتهم منذ سنوات على تقاعد مُستحق. آخرون، بعد سنوات من انتظار معادلة شواهدهم الجامعية كأطباء وممرضين لاجئين في أوروبا وأميركا، تقدموا كمتطوعين. كثير من هؤلاء أدوا حياتهم ثمنا لإنقاذ مرضاهم في إسبانيا وإيطاليا وبريطانيا ودول أخرى. نذكر على سبيل المثال لا الحصر الممرضين والأطباء الذين فقدوا حياتهم بينما كانوا يؤدون مهمتهم النبيلة لإنقاذ حياة آخرين ضحايا "كوفيد-19".  ونذكر منهم في إسبانيا، الطبيب الفلسطيني هشام يوسف؛ وفي إيطاليا، الطبيب الفلسطيني نبيل خير؛ وفي بريطانيا الممرضة من أصول عربية أريما نسرين، والطبيبين السودانيين عادل الطيار وأمجد الحوراني، والطبيب النيجيري ألفا سعادو، والطبيب العراقي حبيب زيدي ثم الطبيب المصري سامي شوشة، وغير هؤلاء كثيرين في أغلب دول العالم.

تعقيم شوارع مدينة بيت لحم في فلسطين (getty) 

















حرية التفكير والخلق هي الأساس
إجمالاً، وعودة إلى سبب كتابة هذا المقال المرتجل، فالرازي وابن سينا، ومنصف محمد السلاوي وحنين مصعب، ليسوا من "أقوام عيسى وموسى وبوذا"، بل هم من "قوم محمد"، أي عرب أو/و مسلمون، لكن انتماءهم لـ"قوم محمد" لم يمنعهم من التنبؤ بفيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" واقتراح حلول للوقاية منه وعلاجه، وفي نفس الآن ابتكار أدويته (الرازي، ابن سينا) التي بفضلها أنقذ الطب حياة ملايين البشر في كل بقاع الكرة الأرضية منذ قرون. كما لم تتردد كل من أريما نسرين وعادل الطيار وأمجد الحوراني وألفا سعادو وحبيب زيدي وسامي شوشة بالانخراط في انقاذ حياة "أقوام عيسى وموسى وبوذا" وباقي الأقوام التي تعيش في البلدان التي كانوا يشتغلون فيها كممرضين وأطباء قبل وفاتهم ضحايا جائحة كورونا.

من المؤسف جدا أن الذين ما زالوا يستعملون مثل هذه المفاهيم من مثل: "قوم محمد"، و"قوم عيسى"، و"قوم موسى" ثم "قوم بوذا"، في القرن 21 يسمّوْن "مثقفين" ولهم إصدارات وكتب وأبحاث ومقالات في مجلات أسبوعية وجرائد يومية ولهم معجبون بهم يتابعونهم على وسائط التواصل الاجتماعي ويتفاعلون مع تغريداتهم وتدويناتهم. واضح جدا أنهم مروا من المدارس والجامعات، حيث حصلوا على شواهد، لكن المدارس والجامعات لم تمر منهم.
كان من الأحرى بهم أن يستثمروا أعمدتهم على الجرائد التي تنشر لهم أو الصفحات المخصصة لهم في مجلاتهم أو تدويناتهم وتغريداتهم على شبكات التواصل الاجتماعي لتحليل الأسباب التي أوصلت العلم والطب ومعهما الثقافة بالعالم العربي إلى المستوى التي هي عليه اليوم بدلا من محاكمتهم للنتائج ووقوفهم عند "وَيْلٌ لِلْمُصَلّين". ثانيا: كان عليهم التذكير بكل ما قدمه العلماء العرب للإنسانية عبر التاريخ كما يشهد بذلك كبار المستشرقين وأشهر الموسوعات العلمية والطبية. وثالثا: كان عليهم، بدلا من جلد الذات والتشفي واستفزاز مشاعر "قوم محمد"، التوجه إلى الحكومات العربية- الإسلامية، باعتبارها المسؤولة عن تسيير الشأن العام في هذه البلدان وعن وضع المخططات الاستراتيجية لكل القطاعات، لحثها على تحمل مسؤوليتها تجاه مواطنيها للرقي بخدمات هذه القطاعات إلى مستويات أحسن، احتراما لنفسها واحتراما لمواطنيها. كما كان عليهم تذكير هذه الحكومات بالاستثمار في الإنسان وفي العلم والتعليم والمعلمين والبحث لدولها عن موقع مشرف في عالم المعرفة البشرية عن طريق تخصيص نسبة محترمة من منتوجها الداخلي الخام للتعليم والبحث العلمي، بدلا من تشجيعها للتفاهة وإفسادها لأذواق شبيبتها، عماد المستقبل، وقمع روح المبادرة والإبداع في أنفسهم ونشر ثقافة التيئيس في أوساطهم. فكل الذين هم في سن الطفولة أو الشباب اليوم بالبلدان العربية يمكنهم أن يكونوا، مستقبلا، علماء في مستوى الرازي وجابر بن حيان وابن سينا والغفيقي والخوارزمي وابن رشد، لو أتيحت لهم نفس الفرص وتوفرت لهم نفس الشروط والإمكانيات وتبنت دولهم سياسات محفزة للإبتكار والإبداع وحرية التفكير والخلق.

[مدريد، 10 أبريل/نيسان 2020]

*الدكتور محمد ظهيري- أستاذ بجامعة كومبلوتينسي في مدريد، وعضو مجلس مدرسة الدكتوراه في المعهد الوطني للغات والثقافات الشرقية بجامعة السوربون باريس- سيتي (USPC)، وعضو المجلس الأكاديمي وهيئة التدريس الدولية لبرنامج الدكتوراه في التنوع الثقافي بجامعة "3 فبراير- بوينوس آيرس" بالأرجنتين.


#فيديو يعرض النسخة الفريدة في العالم لأرجوزة ابن طفيل في الطب، والموجودة بخزانة القرويين بفاس مسجلة تحت رقم 1969م والتي يبلغ عدد أبياتها 7700 بيت:

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.