بربرٌ أقحاح من صنهاجة، ومصامدة، وزناتة، وزيانيين، هم من أنشأوا دولًا إسلامية، وعرَّبوا بلاد المغرب. بربرٌ أقحاح أفذاذ من علماء وفقهاء وأدباء هم من عربوا بلاد المغرب، وهذا بيانه بالدليل والبرهان.
المغنية الأمازيغية فاطمة تبعمرانت خلال احتفال برأس السنة الأمازيغية الجديدة في تزنيت/ المغرب (12/ 1/ 2015/فرانس برس) |
إن نشطاء الأمازيغية من المغرَّرِ بهم من طرف الغلاة والريعيين دأبوا على تقديم العرب كغزاةٍ محتلين سفاحين وغصابين سائبين في الديار البربرية، بينما الواقع المعترف به عند المؤرخين، مسلمين ومستشرقين، هو أن العرب القليلي الأعداد لم يدخلوا بلدان المغرب بصفتهم عربًا، بل حملةَ رسالة اسمها الدعوة المحمدية التوحيدية، حتى أن منهم من يصورهم كسعاة بريد لا غير، أو كمؤطرين عسكريين (كموسى بن نصير، وعقبة بن نافع) للداخلين من البربر في الإسلام أفواجًا أفواجًا، ولما قويَ عود هذا الدين بالبربر، ولو باعتمادهم أول الأمر دعوات الخوارج المساواتية (من إباضية وصفرية). "وحوالي منتصف القرن الثامن ميلادي، كما يسجل جاك لوي ميياج، تم إبعاد العرب عن المغرب لكن القرآن بقي فيه قائمًا" (Le Maroc، ص 23).
وهذا الإقرار قال به أيضًا هنري طيراس، وشارل ـ أندري جوليان، وآخرون. وقد شكل هؤلاء البربر، بإيمانهم القوي، الذراع الجهادي المسلح لفتح الأندلس، بقيادة طارق بن زياد، وتحرير أهاليها الرازحين إذّاك تحت طغيان القوط الهمج ونيرهم. وانعقد إجماع المؤرخين، بمن فيهم مستشرقون، كلڤي بروڤنسال ور. دوزي، على أن البربر، بعتادهم، ومجاهديهم الإثني عشر ألفًا، كانوا هم فاتحو الأندلس؛ أما موسى بن نصير، وسريته القليلة العدد، فلم يقوموا بعمل حربي ذي بال سوى تحصيل غلال القائد طارق بن النفزي زياد...
وبعد ذلك العهد بأربعة عقود ويزيد، تم بالترجي والترغيب استقدام طوابير هائلة من أعراب بني هلال، وبني سليم (وهذا ما يعرف بالتغريبة الهلالية)، وذلك من طرف الخليفة مؤسس الدولة الموحدية، عبد المومن بن علي المصمودي بالتبني، والگومي الزناتي بالنسب، وكانت غايته هي الاستقواء بهم لتمنيع انتصاراته، وترسيخ الأمن، وإدامته في كل ربوع امبراطوريته الفسيحة الممتدة من بلدان المغارب كلها إلى الأندلس، وكذلك للقضاء تمامًا على الخوارج والمهرطقين، أخطرهم تنظيم البرغواطة بتامسنا؛ وهكذا وطَّن ذلك الخليفة المسلم العظيم أولئك الأعراب في السهول الأطلسية الخصيبة، ومكّنهم من حرثها، وحمل السلاح، فكانت هذه القبائل المستقدمَة عامل تعميق تعريب المغرب في جل أطرافه وأكنافه، وقد حذا حذوه الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي المصمودي، بطل معركة الأرك ضد مسيحيي الأندلس في 9 شعبان 591 هـ.
إن أخذ تاريخ القطر المغاربي مأخذ الجد يعلمنا ما يلي: إن العروبة عند المغاربة، عمومًا، لم تكن أبدًا مطلبًا عرقيًا، ولا حتى قوميًا، بل هي تماهٍ مع مرجعية حضارية إسلامية تبنوها مبكرًا، والتحموا حولها، فأنشأوا دولًا، وأبدعوا بلسان تلك المرجعية وتراثها ثقافتهم المميّزة. إن هوية المغرب العربية ـ الإسلامية كانت إلى حد كبير من صنع القبائل البربرية، كما كانت الحال مع الفرس والأتراك والأكراد، وغيرهم في القارة الآسيوية. وكان أن استفرغوا جهودهم ـ فوق كل انتماء سلالي أو عرقي ـ في بناء ما يسميه ابن خلدون الحضارة والعمران والدولة العامة. ومن ثمةَ، كان تنافسهم، مثلًا، في تشييد المدارس والمساجد والمآذن ونشر اللغة العربية والعلوم الإسلامية. وقد ساهم في هذا التنافس، كما نعلم، حتى المتصوفة والزوايا، فكانت هذه الفلول من الأعلام الذين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: عكرمة المحدث، البوصيري الصنهاجي صاحب البردة والهمزية الشهيرتين، وأجروم مؤلف الأجرومية في النحو العربي (المترجمة إلى الفرنسية، والإنكليزية، والألمانية، وهو مغربيًا بمثابة أبي الأسود الدؤلى العربي، وإلى حد ما سيبويه الفارسي)، وابن معطي الزواوي، واضع أول ألفية في النحو العربي، والونشريشي الفقيه والمفتي، والرحالة ابن بطوطة المزاتي الطنجي، والبيذق، وابن عذاري، والجزنائي، وابن غازي، والفشتالي، والأفراني، والزياني، وأكنسوس، وكلهم مؤرخون معروفون في قطرنا وغيره، علاوة على الحسن اليوسي الأديب والفقيه، والمختار السوسي المؤرخ والأديب صاحب سوس العالمة وموسوعة المعسول وإليغ قديمًا وحديثًا، ومبدع قصيدة العصيدة بعربية بليغة شيقة لا يشق لها غبار؛ أما في التصوف فعدّدْ ولا حرج: الشاذلي، والجزولي، وأبو شعيب الدكالي، وابن العريف، وأبو يعزى، والدلائيون، وغيرهم كثير. ومن أراد المزيد ليرجع إلى مؤلف د. محمـد حقي "البربر في الأندلس المسكوتِ عنه، وكذلك مفاخر البربر لمجهول"... ولا يتسع المجال هنا لإيراد أسماء الأعلام المعاصرين والأحياء. وهكذا يقر د. محمد شفيق بنوع من الاعتزاز والفخر بأن الثقافة الإسلامية "بوسعها أن تستعرض بالمئات الأعلام البربرية التي أسهمت أيما إسهام في تنشئتها وتكوينها" (انظر مذكرات من التراث المغربي، مؤلف جماعي، ص106)؛ وإلى قوائم من يسميهم د. شفيق "المتخصصين" في بيداغوجيا اللغة العربية" يضيف حتى ابن منظور، صاحب لسان العرب(!).
وهذا الإقرار حقيق بالاتعاظ وبأكثر من وقفة تأملية واتعاظ تاريخي، لعل زبدتهما إذا ما امتخضت تُظهر جليًا بما لا مراء فيه أن ثقافة البربر، بعيدًا عن أيِّ إحالة إثنية ضيقة، عربية قلبًا وقالبًا ومتنًا ومبنى، وهي ما زالت كذلك إلى اليوم ساريةً متنامية عند بربر هم حقًا أحرار يحملون استعرابهم الثقافي في أسمائهم وإنتاجاتهم الفكرية والبحثية والأدبية بلغة الضاد اللاحمة المشتركة. وفي السياق نفسه، سبق لابن خلدون أن عقد في الباب السادس من المقدمة فصلًا سمّاه "في أن حَمَلَة العلم في الإسلام أكثرهم العجم"، أي من فرس، وأتراك، وكرد، وبربر، وغيرهم، عربيتهم كمنت في لسانهم وثقافتهم وكتاباتهم.
إن أولئك البربر، كسلفهم البعيد والقريب، إنما يعتبرون العربية وثقافتها قوام هويتهم الدينامية المتحركة، بها يُظهرون أن المغرب قياسًا إلى المشرق ليس "كُمَّ اللباس" (حسب تعبيرٍ مغرضٍ للمصري الشامي ابن فضل الله العمري)؛ وبها أيضًا يبرهنون على أن بضاعتهم ليست بضاعة عرب المشرق رُدت إليهم (كما قال متهورًا الصاحب ابن عباد عن العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي)؛ وبها يؤكدون، أخيرًا، وليس آخرًا، أن استعرابهم ليس من شأنه أن يشايع أيديولوجيا القومية العروبية المتعصبة الجامحة ويسقط في أتونها؛ وبكلمة جامعة، إنهم بتلك الدينامية المتحركة ينشئون نبوغهم المغربي، معوّلين على نوابضهم العميقة وقيمهم المضافة. وحتى نصل الماضي بالحاضر هي ذي أسماء تندرج في السياق نفسه، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: محمـد شفيق، والأخضر غزال، وعبد السَّلام ياسين، ومحمـد عابد الجابري، وإدريس السغروشني، وعلي أمليل، والمهدي أخريف، والبشير القمري، وعثمان أشقرا، وسعيد أقضاض، ومحمـد شكري، وأحمد التوفيق، وحسن أوريد، وعبد النبي ذاكر، وجمال حمداوي، ومـحمد زفزاف... وهؤلاء وصنوانهم كُثر، مكونهم البربري في استعرابهم، واستعرابهم في مكونهم ذاك؛ وهويتهم دينامية ارتقائية، وليست من صنف اجتزائي تنصلي، ولا من صنف الأكل من الصحن والبصق فيه، أو التغذي من الغلة وسبِّ الملة، كما هي حال العصائدي الفصامي، ولا من الصنف الحنيني الغنائي الذي يشبه الكلامُ فيه وصف السلطان المنصور الذهبي لبلاد السودان: "هي غريبة لا تثبت إلاّ في الحلم [...]، وهي غيلٌ لا تزحم وعروسة لا تقتحم، وعجماء أبية لا تنقاد، وحسناء عادت بينها عواد..." (هسبريس، 1923، ج3، ص 480). وللحديث بقية أبعثها للعقلاء، ومن ليس في قلوبهم مرضٌ، ومعارفهُم لغو وهباء.