}

عندما تنتقل النظرية من مكان إلى آخر

إدريس الخضراوي إدريس الخضراوي 13 يوليه 2021

                                           

 

تميزت المرحلة البنيوية في فرنسا بخوض عدد من الباحثين تجربة التأسيس العلمي للنظرية الأدبية بروح مفعمة بالوثوق من قدرة هذه التجربة على تحدّي ما يُمكنُ أن يعترضها من مشكلات وتناقضات. وقد بدا متفرّدًا ذلك التوجّه العلمي الذي طبع النظرية الأدبية لدرجة أن باحثًا مثل أنطون كومبانيون أقرّ في مؤلفه "شيطان النظرية" بأن الحقل النقدي الفرنسي لم يسبق أن شهد هذه الفورة، بالقياس إلى الطفرة النقدية والتنظيرية التي تحققت في بلدان أخرى مثل ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية[1]. ويضيف أن التأخر الفرنسي خلال النصف الأول من القرن الماضي، بدا واضحًا مقارنة بما شهده التفكير النظري حول الأدب في نفس الفترة من تطور عميق في إطار النقد الجديد الأميركي الذي اتسم بالنزوع إلى التحليل الشكلاني للأدب مستفيدًا من التحولات الكبرى التي شهدتها اللسانيات وفلسفة اللغة. وما يعزّز هذا الطرح هو أن كتاب "نظرية الأدب"، للباحثين رينيه ويليك وأوستن وارين، وهو من أكثر الأعمال شهرة في حقل النظرية الأدبية، ويَعرفُ انتشارًا وإقبالًا متزايدين بحكم طابعه التركيبي الذي يبسط مفاهيم النظرية والنقد وتاريخ الأدب، كما يعرض لعدد من المناقشات والاتجاهات النقدية التي تَتَناولُ الأدب من الخارج، ومن الداخل كذلك عبر الاهتمام بالأسلوب والصور والأجناس الأدبية، لم يظهر في اللغة الفرنسية إلا سنة 1971، بالقياس إلى ظهوره المبكر في لغات عديدة، واستعماله في كثير من الجامعات، قبل أن يَجدَ طريقه إلى القارئ الفرنسي.

لا شكّ أن بطء الثقافة الفرنسية في استثمار المكاسب التي حققتها الدراسات الأدبية في ألمانيا وبريطانيا وأميركا منذ النصف الأول من القرن الماضي، والتقاعس عن الاطلاع على ما في تلك الإبدالات من إمكانات نقدية ونظرية من شأنها الانعكاس تجديديًا على النقد والأدب، لا يناظره من حيث الدلالة على التمركز والانغلاق اللذين طبعا التقليد الفرنسي سوى ذلك التفاوت في التفاعل مع الكشوفات النظرية والمنهجية التي حققتها الإسهامات التي عرفت في الفضاء الأنجلو أميركي باسم FRENCH THEORY. وفي كتابه "النظرية الفرنسية" يشرح فرانسوا كوسى كيف أنّ أعمال فلاسفة من تيار ما بعد البنيوية من طراز جاك دريدا، جون بودريار، جاك لاكان، جيل دولوز، فليكس كواتاري، ميشيل فوكو وجوليا كريستيفا، أحدثت باختراقها الجامعة الأميركية رجّة قوية في الحقل الثقافي الأميركي[2]. وهكذا، بدل المتح من التراث الأنجلو أميركي، انتبه عدد من النقاد الأميركيين إلى الأهمية النظرية والمنهجية التي يكتسيها الفكر الفرنسي ما بعد البنيوي في إعادة التفكير في قضايا اللغة والهوية والذات الإنسانية والتاريخ. وعليه، أدّى استقبال رموز النظرية من خلال العمل الذي اطلعت به شعب الآداب، والتفاعل الحواري مع مفاهيمها وافتراضاتها، وطرح رؤى نقدية جديدة تُضيفُ إلى اجتهادات النظرية الفرنسية إضافةً تُغيّرُ شكلها أو تنزعُ عنها الطابع المحلي، إلى إحداث نقلة كبيرة في ميدان الدراسات الأدبية بظهور تيارات جديدة مثل "الدراسات الثقافية" و"دراسات ما بعد الاستعمار" و"التعددية الثقافية" و"الدراسات النسوية". لذلك يقتضي التعرف إلى بدايات التفاعل مع الفكر الفرنسي ما بعد البنيوي، بحسب كوسى، مراجعة بعض أساليب القراءة الأميركية للمفكرين الفرنسيين الذين ينضوون ضمن تيار ما بعد البنيوية، مما أفسح المجال ليس فقط لانسلاخ النظرية عن سياقها الأصلي بما في ذلك الشروط المتعلقة بإنتاجها وتلقيها، وإعادة إدراجها في سياق جديد بجعل هؤلاء المفكرين يلعبون دورًا حاسمًا في كثير من الأحيان في النقاشات الاجتماعية والسياسية في أميركا المعاصرة، وإنّما أيضًا في إعطائها أبعادًا جديدة بعدما تراجع حضورها في سياقها الأصلي، وباتت مجرد تمرين يتدرب الطلاب على امتلاك كفاياته. هذا التشخيص قدّمه تزفيتان تودوروف في كتاب بعنوان: الأدب في خطر[3]. ورغم أن تودوروف يرسم إطارًا محدّدًا لما نبّه عليه؛ أي تعليم الأدب في المدارس الثانوية، فإن كتابه يمثل، بحسب فانسون كوفمان[4]، تعبيرًا صريحًا عن إرادة الدفاع عن فكرة مختلفة عن الأدب تجد سندها في المسافة التي حرص على اتخاذها من سنوات الفورة النظرية التي امتدت من 1960 إلى 1970.



مسارات جديدة

لنقل إن التفاعل الحواري مع النظرية الفرنسية المنبوذة في وسطها في مسعى لتأويلها انطلاقًا من الأفق الخاص للثقافة الأميركية، بالإضافة إلى مراجعة افتراضات الماركسية وأسسها مراجعة عميقة أدت بالمادية والمثالية إلى أن تتبادلا المواقع، يُظهِرُ أَهميةَ التمييز الذي شدّد عليه هومي بابا بين ما يسميه تاريخ النظرية المؤسساتي وقدرتها المفاهيمية على التطور والتغيّر[5]. ومعنى هذا، أن التمسّك بفكرة انغلاق النظرية، يؤدي دائمًا إلى الجمود والتقوقع والانعزال. والحال أن إخضاع النظرية للترجمة، وقراءتها قراءة مغايرة قمينة بفهم التوتر القائم في صلبها بين احتوائها المؤسساتي وقدرتها على المراجعة، لهو السبيل الأنجع لجعل النظرية قادرة على فتح منافذ إلى مسارات جديدة لفهم موضوعها.

لقد أسهم نشاط النظرية خارج فرنسا، وفك ارتباطها بالمهاد الوطني، بالإضافة إلى القراءة العميقة التي خضعت لها، ليس فقط في تزويد الباحثين والمثقفين الأميركيين بالأساس المنهجي والنظري الذي مكنهم من بلورة تفكير جذري مُختلف في الإشكالات والقضايا الكبرى المطروحة على مجتمعهم منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وإنما أدى، كذلك، إلى مدّ النظرية بقوة جديدة للقيام بقراءة مُدققة ومُبتكرة تكشف عن احتمالات المعنى المترسّب في النّصوص. ومن المُؤكد أن الاهتمام بفكر ما بعد البنيوية خلال مُنتصف السبعينيات، قد أحدث هزّات عميقة داخل المُؤسّسة الأكاديمية ما أدّى بها إلى التمرّد على الحدود المنهجية المغلقة متأثرة في ذلك ليس فقط بالمنافذ التي فتحها إلى مسارات مبتكرة في القراءة والتأويل منظرون جدد جمعوا بين الفكرين الأميركي والأوروبي مثل بول دي مان وهلس ملر، وإنما أيضًا بالنقد الذي وجهوه لافتراضات النقاد التقليديين عن الأدب ومناهج دراسته. لقد شهدت هذه الفترة نقاشًا واسعًا وحادّا عُرفَ بحروب النظرية. أما المُدافعون عن نظرية أدبية جديدة فقد وجدوا في ميدان ما بعد البنيوية المضادّ للرؤية الشمولية، الشرط الأساس لتكوين النظرية الجديدة، "على الطريقة ما بعد الحداثية المتمثلة في فضح كل محاولة للكلام على الأصول والجماعات والمشاريع التاريخية المحدّدة"[6].

وعليه، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تكون القراءات التي أنجزها إدوارد سعيد من بين الأمثلة القوية الدالة على ضرب من التملك انطوت عليه علاقة الباحثين الأميركيين بالنظرية الفرنسية، والذي استند إلى فهم النظرية والاختيار منها والتطبيق على ممارسات ثقافية مختلفة. فسواء نظرنا إلى "الاستشراق" ذلك الكتاب النقدي الرائد الذي حقق انتشارًا واسعًا وحضورًا رفيعًا في لغات متعددة، أو إلى كتابي: "العالم والنص والناقد" و"الثقافة والإمبريالية"، سوف نلمس أهمية التأويل الإدواردي لمقولات النظرية الفرنسية، وقدرته على إسكانها بيت اللغة الإنكليزية، وبالتالي استثمارها والتفكير من خلالها بشكل نقدي مختلف مكّنه من إعادة النظر في المفهوم المتداول عن الأدب في المؤسّسة الأدبية، ومساءلة مفهوم المعتمد الأدبي بالاستناد إلى ضرب من القراءة، أطلق عليه "القراءة الطباقية" التي تَفتحُ أمام الدراسة المقارنية آفاقًا جديدة لفهم الأعمال الأدبية الكبرى والكشف عن إفصاحاتها، بوضعها في سياق التجاذبات والتوترات التي تطبع العالم المعاصر. ومن المعروف أن مفهوم إدوارد سعيد عن الأدب تميز بالتشديد على جانبين أساسين: أولهما أن الأدب يُوجدُ في العالم ويشتبكُ مع زمنه وأزمنة أخرى، ومن ثم فهو يرتبط أشدّ ما يكون الارتباط بالسياقين الثقافي والتاريخي. وثانيهما أن الممارسة الأدبية لا تنفصلُ عن الحسّ السياسي. وعليه، فإن الدّارس للأدب مهما شدد على استقلالية العمل الفني، وعلى أهمية التحليل الداخلي، فإنه لا يُمكنُ له أن يلغي أثر الحياة والتجربة المعيشة في الوجود الذي يكتسيه الأدب. من هنا طرح سعيد مفهوم "الدنيوية" الذي يعني أن العمل الأدبي يَترسّخُ في العالم وظروفه وصراعاته. ومن ثم فهو يرتبط بالقوة والسلطة، كما يرتبط أيضًا بأشكال مقاومتها والرّد عليها. إن النقد الأدبي بهذا المعنى يكتسي أيضًا بعدًا سياسيًا.

يعدّ فريديريك جيمسون من بين النقاد الذين جدّدوا النظرية الأدبية



تجديد النظرية الأدبيّة

من المؤكّد أن هذا الإنجاز النظري والنقدي الذي يردّ على المقاربات الشكلية التي تفصلُ التفكير في الأدب عن تأثيرات السياسة أو المجتمع لم يكن يقتصر على جهود إدوارد سعيد، بل أسهم فيه أيضًا نقاد آخرون بادروا إلى رفد الدراسات الأدبية برؤى جديدة مستلهمين أدواتهم النقدية والمنهجية من معين النظرية الفرنسية. فالناقد الأميركي فريديريك جيمسون يعدّ من بين النقاد الذين جددوا النظرية الأدبية كما يؤكدُ على ذلك أغلب قرّائه. فمشروعه النقدي والنظري يَتمتعُ بالأصالة والجدة، ويَعودُ ذلك إلى رافدين أساسيين هما: التقليدان الفرنسي والألماني اللذان وفَّرا لأطروحته أدوات ملائمة لمواجهة التقاليد أحادية البعد للمجتمع الأميركي المعاصر. ولا شك أن كتابه "اللاوعي السياسي" يحظى بأهمية خاصة لدى المهتمين بأسئلة النظرية الأدبية والنقد الثقافي، لأن جيمسون وإن كان يَعترفُ بأنه لم يستطع أن يقترح إستطيقا سياسية، فإنه يُدافعُ عن الأهمية التي يكتسيها التأويل السياسي للأدب كإبدال مختلف من شأنه تطوير الدراسات الأدبية وفتح المجال أمام المشتغلين بها لتجاوز المآزق التي تعترضُ عملية تفسير الظواهر الأدبية والاستجابة لحاجات القرّاء المتزايدة إلى معرفة المعاني التي تستبطنها النصوص والممارسات الثقافية[7]. واعتمادًا على منظور تأويلي تاريخي يُنزّلُ السّنن التأويلية منزلة الأداة الإجرائية الملائمة للإمساك بالدلالات التاريخية التي تكتنزها الأعمال الأدبية والثقافية في سياق نظام عالمي جديد سياسيًا واقتصاديًا، يرى جيمسون أن اتصال القارئ بالنص، سواء أكان هذا النص قديمًا أو حديثًا، لا يتم بشكل مباشر، لأن النصوص نتلقاها دائمًا على أساس أنها خضعت لقراءات سابقة. وبالتالي، فإن فهم النص يَتأسّسُ على التأويلات المنجزة أو المتحققة، أو يتم بناء على أعراف القراءة التي تطورت في إطار التقليد الأدبي. وعليه، فما يسترعي الاهتمام في جهود هذا المُنظر هو كونها تُمثلُ جهدًا تركيبيًا يَتمُّ، أولًا، داخل التقليد الماركسي حيث تُعادُ قراءة لوكاش وألتوسير وبلوخ، وثانيًا، دَاخلَ حقل الدراسات الأدبية من خلال استدعاء اتجاهاتها الأساسية كالنقد الشكلاني والنقد الأسطوري وسيمائيات غريماس والشعريين الفرنسيين، بالإضافة إلى ليفي ستروس ولاكان ونقاد ما بعد البنيوية. ومن ثم، فهو يُقيمُ ذلك الجسر الذي لا غنى عنه لتطوير فكرة الاجتماعي في النظرية الأدبية.

في المقابل تَكشفُ بعض الدراسات الحديثة التي ناقشت التلقي الفرنسي لهذه التيارات ذات الخلفية البينتخصصية، أن المنظور السائد إزاءها غالبًا ما اتسم بكثير من التحفظ والريبة. فـ"الدراسات الثقافية"، من وجهة نظر فرنسية، يستحوذُ عليها القصور النظري والاضطراب المنهجي. وهذا الموقف المناهض يتعذرُ فهمه إذا لم يربط بتقليد أدبي وثقافي راسخ في الحياة الأكاديمية يرى إلى فرنسا على أنها الجمهورية العالمية للآداب، ويبوئ تقليدها المنهجي مكانة رفيعة في أي تقييم للنظرية ونتائجها. ويكفي أن نستحضر الكتاب الذي ألفه الباحثان إريك نوفو وأرمون ماتلار بعنوان "مدخل إلى الدراسات الثقافية" (2008) كي تتبدّى، من المنظور الفرنسي نفسه، مظاهر التهافت التي تنطوي عليها تلك الافتراضات. ففي هذا الكتاب، يرى الباحثان أن النظرة الفرنسية للدراسات الثقافية تتسم بالاختزال الشديد، كما أن عدم اكتراث الدارسين الفرنسيين لهذه المساهمة غير مبرّر في مطلع القرن الواحد والعشرين، حيث يَتشكلُ تقليد مختلف في إطار الدراسات الثقافية يمثل مصدر إلهام لكثير من الأبحاث والدراسات التي تتقصّى الوضع الراهن للثقافة[8]. ومن النتائج السلبية لهذا التحفظ من الدراسات الثقافية، تفويت الفرصة على الباحثين للاستفادة من الآفاق التي يفتحها هذا الحقل الواسع متعدد الاهتمامات في دراسة النصوص والخطابات في إطار مفهوم الممارسة الثقافية، خاصة الدراسات التي تتبلور في المجال الأنجلو أميركي وتتميز بالصّدور عن قراءة جديدة وتفكير مختلف بجهود منظري ما بعد البنيوية من طراز رولان بارت وميشيل فوكو ودريدا على سبيل التمثيل.

في كتابه "النظرية الفرنسية" يشرح فرانسوا كوسى كيف أنّ أعمال فلاسفة من تيار ما بعد البنيوية أحدثت باختراقها الجامعة الأميركية رجّة في الحقل الثقافي الأميركي



تفكيك المركزيات الثقافية

لا شك في أن عاملًا سياسيًا يَكمنُ في صميم النظرة المتحيزة ضدّ الإبدالات المتحدّرة من فكر ما بعد الحداثة والتي جعلت من أهدافها الأساسية التركيز على تحليل الشروط التي تُنتَجُ في إطارها المعرفة حول الذات والآخر، وتفكيك المركزيات الثقافية، وفي مقدمتها المركزيات الاستعمارية كما نَجدُ في برنامج دراسات ما بعد الكولونيالية. ومن المعروف أن هذا الحقل النظري ينطوي على قدر كبير من الافتراضات المنهجية والنقدية التي تُسعفُ على إعادة النظر في السّرديات التي كونتها المركزيات الاستعمارية حول الشعوب وثقافاتها، خاصة الشعوب التي تعرّضت للاستعمار، وما تزالُ تُناضلُ ضدّ الهيمنة التي تكتسي أبعادًا أخرى لغوية وثقافية وعرقية. والواقع أن المسكوت عنه في الموقف المتحفظ من دراسات ما بعد الكولونيالية، هو ما يَكشفُ عنه كثير من الباحثين المعاصرين ممن وسعوا البحث في هذا المجال، وفتحوا أمام المشتغلين به منافذ إلى مسارات جديدة في دراسة آداب ما بعد الكولونيالية، خاصّة بعدما انتقل مبحث ما بعد الكولونيالية من مجرّد تناول الأحداث والنصوص تناولًا سطحيًا، ليسلك درب التأسيس المعرفي، والنقد التفكيكي، ذلك الدّرب المتعرّج والمحفوف بالمخاطر. في هذا السياق، يُمكنُ التذكيرُ بأعمال الباحث إيف كلافارون، مؤلف كتاب "الرواية الما بعد كولونيالية"، وهو عمل مرجعي في هذا الباب. ففيه يُشيرُ إلى أن السّؤال حول "ما العمل بالدراسات الما بعد كولونيالية؟" الذي شكل عنوان الندوة التي احتضنتها فرنسا عام 2006 يَعكسُ، بشكل أعمق، الانزعاج السائد في الأوساط الأكاديمية إزاء ما بعد الكولونيالية بوصفها تيارًا بحثيًا متعدد التخصصات[9]. بالإضافة إلى جون مارك مورا، أستاذ الأدب بجامعة باريس ومؤلف كتاب "الآداب الفرنكوفونية ونظرية ما بعد الكولونيالية"[10]. ففي تقديمه لهذا العمل، يؤكد مورا على أننا لم نقدّر هذا الحقل المعرفي حقّ قدره على الرّغم من تزايد عدد الباحثين المهتمين بأدواته وموضوعاته تزايدًا لا ريب فيه. هكذا يجادل هذا الباحث على مسألة مهمة مُفادُها أن الاهتمام اليوم لا ينبغي أن ينصبّ على التساؤل حول الاعتراف بدراسات ما بعد الكولونيالية، بل ينبغي أن يتقصّى ضروب الخفة المقلقة التي تنطوي عليها الأبحاث والدراسات التي تغضّ الطرف عن التاريخ الاستعماري. وعليه، فمن شأن هذا التوجه الذي يحتفي بالأعمال الأدبية التي تَحشدُ الكثير من الحوادث المسجّلة في وثائق الماضي، والتفاصيل الأصيلة حول الحقبة الاستعمارية، أن يَضعَ المركزيات الاستعمارية وجها لوجه أمام ماضيها الاستعماري المثقل بِأنينِ الذاكرات الجريحة.

يَكشفُ لنا التحولُ في المفهوم عن النظرية الأدبية، وفي وضعها وشروط تحققها، وضروب النقل والانتقال التي تُطاولُ مفاهيمها وأدواتها، وأشكال التملّك والتمثل التي تَخضعُ لها افتراضاتها النقدية والمنهجية، أنّها (=أي النظرية الأدبية) ليست هامدة مثل الحجر، وإنما هي تتطور وتغتني وتتجدّد. وهذه الصيرورة التي تسمها، تُؤكدُ حقيقة مفادها أن لا وجود لنظرية نهائية، مكتملة أو ناجزة. فالنظريات الأدبية بطبيعتها متنقّلة وغير ثابتة فهي تتحرّك وتتغير وتتلون، وتتأثر بمسار التاريخ وفكر الإنسان وتؤثر فيهما[11]. وسواء اتخذ هذا التنقّل "شكل الاستفادة الإبداعية أو شكل التقبّل التام لما جاء به الآخر، فإن هذا الانتقال واقع من وقائع الحياة، ووضع يبثّ الحياة في الأنشطة الفكرية"[12]. وعليه، فلا شيء يمنعُ من أن يُعادُ النقاش أو التفكير مستقبلًا في الأسئلة والقضايا التي طُرحت في مراحل سابقة، كما يَدلّ على ذلك وَاقعُ نظرية الأدب اليوم. والأكيد أن النظرية الأدبية أصبحت في الوقت الرّاهن قابلة لفهم مغاير نسبيًا عمّا تقدمه الكتابات والأعمال التي أنتجت خلال الستينيات. أصبح في الإمكان في ضوء الكتابات الجديدة بناء تصورات مغايرة حول نظرية الأدب وموضوعها. وبوسع أي مطّلع على هذه الأعمال الجديدة أن يعرف أن النظرية لما كانت تَظهرُ كي تفصحَ عن موقف نقدي إزاء المقترحات والمناهج السّائدة، بوصفها مقترحات لا نظرية أو لا علمية، فإنها، إذ تفعلُ ذلك بادّعاء أنها الأكمل والأقدر على فهم موضوعها، فإنها تظلّ بحاجة إلى إيديولوجية تضفي المشروعية على ممارستها. وهذا في تقديري هو ما ألمح إليه تيري إيغلتون عندما شدّد على استنتاج مفاده أن الأثر السياسي والإيديولوجي لأي حقبة واقعٌ في صميم النظرية، وهو جزء أساس من تكوينها، ومن ثم لا توجد نظرية أدبية خالصة، فالنظرية التي تَزعُمُ أنها كذلك ليست سوى أسطورة أكاديمية[13]. إن هذا الإلحاح على سياسات النظرية هو سجال مبدئي ضدّ الانعزالية النظرية، وقطع مع المعيارية التي ترافق عادة مثل هذه المزاعم كما يقول هومي بابا[14].


*كاتب من المغرب.

 

مراجع:

 [1] - Antoine Compagnon, Le démon de la théorie, Editions du seuil, Paris 2008, p 9.
[2] - François Cusset, French Theory : Foucault, Derrida, Deleuze, & Cie et les mutations de la vie intellectuelle aux Etats-Unis, éd. La Découverte, Paris, 2003, p12.
[3] - تزفيتان تودوروف، الأدب في خطر، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء 1990.
[4] - Vincent Kaufmann, La faute à Mallarmé L’aventure de la théorie littéraire, Editions du Seuil, Paris2011, p7.
[5] - هومي بابا: موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء 2006، ص85.
[6] - إعجاز أحمد: في النظرية، طبقات، أمم، آداب، ترجمة ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2018، ص65.
[7] - Fredric Jameson, L’inconscient politique, Le récit comme acte socialement symbolique, Traduit de l’anglais par Nicolas Vieillescazes, Editions La découverte, Paris2012, p10.
[8] - Armand Mattelar et Erik Neveu, Introduction aux cultural studies, La Découverte, Paris 2003, p6.
[9] - Yve Clavaron, Poétique du roman postcolonial , Publications de l’université de Sain Étienne, 2011, p19.
[10] - Jean Marc Moura, Littérature francophones et théorie postcoloniale, Collection Quadrige Manuels, PUF, Paris2013, p3.
[11] - أنظر مقدمة محمد عناني للترجمة العربية التي أنجزها لكتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، والصادرة عن دار رؤية بالقاهرة، 2006، ص22.
[12] - إدوارد سعيد: العالم والنص والناقد، ترجمة محمد عصفور، مراجعة وتقديم محمد شاهين، دار الآداب، بيروت 2017، ص317.
[13] - تيري إيغلتون: نظرية الأدب، ترجمة ثائر ديب، دار المدى، دمشق 2006، ص310.
[14] - هومي بابا: موقع الثقافة، م م، ص84.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.