}

القراءة التناصية الثقافية: المفهوم والاشتغال

إدريس الخضراوي إدريس الخضراوي 11 أغسطس 2023
تتقصّد هذه المقالة الاقتراب من "القراءة التناصية الثقافية" التي بلورها الناقد السّعودي معجب العدواني، باعتبارها طريقة للتحليل، أو مقاربة يمكن استثمارها للتفكير في النص الأدبي، أو مجموعة من النصوص، من منظور مغاير يتناول بالدرس مظاهر محدّدة فيها(*).
استند الباحث في سبك مفهوم القراءة التناصية إلى تصوّر عن التناص يعدّه نتاج ما يناهز ثلاثين عامًا قضاها مشتغلًا على هذا المفهوم، كما صرّح في مقدمة كتابه: "القراءة التناصية الثقافية". لذلك، فما يعطي هذه القراءة أهمية من منظور هذه الورقة هو أنها تأتي بعد فترة يكاد فيها مفهوم التناص أن يختفي من التداول بين النقاد والمهتمين بنظرية الأدب، بعد الفورة التي عرفها في أوروبا والغرب مع اكتشاف أعمال الناقد الروسي ميخائيل باختين أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، وامتدت إلى حدود الثمانينيات، وبعد الاستقبال المهم الذي حظي به في العالم العربي خلال العقد الأخير من القرن العشرين، من خلال ما كتبه عدد من النقاد العرب، من بينهم على سبيل التمثيل لا الحصر، محمد مفتاح، صبري حافظ، محمد برادة، فيصل دراج، سعيد يقطين، عبد الله إبراهيم، سعد البازعي... هكذا تأتي دراسة الناقد السعودي معجب العدواني لا من أجل نفح الروح من جديد في جسم هذا المفهوم المحوري في النظرية الأدبية المعاصرة، وإنما أيضًا لتبرز سوء التلقي الذي صاحبه في السّياق العربي، ما جعل إسهامه في توسيع المعرفة بالإبداع الأدبي العربي يبقى محدودًا، رغم الإنتاجية التي يتميز بها حقل التناص، والمساحات التي فتحها في أميركا لقراءات جديدة للأعمال الأدبية والثقافية. وثمة سؤالان نرى أن طرحهما يعدّ ضروريًا في هذه الورقة: ما المقصود بالقراءة التناصية الثقافية؟ وما هي الإضافة التي يُمكنُ أن تقدّمها لقراءة العمل الأدبي؟

في مفهوم القراءة التناصية الثقافية
يعود مفهوم التناصّ، كما هو معروف، إلى الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا التي اهتدت إليه من خلال قراءتها المعمقة لأعمال السيميائي الروسي ميخائيل باختين، الذي كان رائدًا في دراسة الرّواية انطلاقًا من مكون أساس فيها هو اللغة، وخاصة مظهرها الحواري، وطرح مفاهيمه الشهيرة، مثل الحوارية، والتهجين، وتعدد الأصوات، مشدّدًا على حاجة النثر الرّوائي إلى أسلبة جديدة حقيق بها إدراك الخصوصية الأجناسية والخطابية للرواية بوصفها جنسًا أدبيًا ينهض على التعدد اللغوي. فارتكازًا على هذه الكشوفات النقدية اللمّاحة التي اكتشفها أيضًا منظرو جماعة "تيل كيل" عندما ترجمت أعمال باختين بدءًا من السبعينيات، مما جعل منه "أعظم منظر للأدب في القرن العشرين"، كما وصفه تودوروف، بنت كريستيفا في أعمالها، وخاصّة "مدخل إلى علم الدلالة التحليلي"، و"نصّ الرواية"، تصورها للتناص، وذهبت إلى أن "الكلمة الأدبية ليست ذات معنى قار وثابت، وإنما هي تقاطع مساحات نصية، وحوار بين كتابات متعددة: بين الكاتب والمتلقي (أو الشخصية) والسياق الثقافي الراهن، أو البعيد". وبهذا المعنى الذي يتعين فيه التناصّ شكلًا من الحوارية، يبدو أن النص يرتبط أشدّ ما يكون الارتباط بمجموعة واسعة من النّصوص. لذلك نلفي التناص يتصل أيضًا عند كريستيفا بالعيّنات الأيديولوجية، أو الأيديولوجيم عند باختين. وإذا كانت الناقدة البلغارية اجترحت المفهوم وأعطته شرعية التداول في الحقل الأدبي والنقدي، فإنّ مجموعة من النقاد، من طراز رولان بارت، وميشيل ريفاتير، ومارك أنجينو، وأنطوان كومبانيون، وغراهام ألين، ودوغلاس كيلنر، وآخرين، منحوه أبعادًا جديدة تجاوزت الدائرة الأدبية بالمعنى الضيق إلى عالم الثقافة الواسع، خاصّة في مرحلة ما بعد المنعطف اللساني.




في هذا السياق، إذًا، يمكن اعتبار "القراءة الثقافية التناصية" أحد مظاهر هذا التحول الذي شهده مفهوم التناص. فهي تسعى، كما يقول معجب العدواني، إلى الخروج من الدوائر النصية المغلقة إلى مسايرة الإنتاج الثقافي الواسع، ولذلك فهي تطمح إلى الاختلاف عن القراءات التي ظلت حبيسة الإطار البنيوي، ولم تأخذ في الاعتبار التشعبات التي ينطوي عليها التناصّ، خصوصًا في ما يتعلق بالإضاءة على جوانب مختلفة من الظاهرة الأدبية، بما فيها الجوانب المتصلة بالحاضنة الثقافية التي لا يمكن فصل النصوص عنها. وإذا كانت القراءة المغلقة للتناص ظلت تتحرك في نطاق المساحة الضيقة للنصّ منظورًا إليه على أنه مكتف بذاته، وتأثرت في ذلك بالقراءة اللسانية للغة التي ركزت على المنظور التزامني، فإنّ القراءة الثقافية التي تستفيد بدورها من المراجعات العميقة التي طاولت مسألة الإنتاج الأدبي والعلاقة بين النصّ والكاتب والعبقرية، تتغيا إعطاء الأهمية للامتدادات والتقاطعات التي يقيمها النص مع العالم، ومستويات تمثيله لعلائق الهيمنة والنفوذ وإشكاليات الهوية، وبالتالي فهذه القراءة تستفيد من المكاسب التي تحققت للنظرية الأدبية مع دراسات ما بعد الاستعمار، وتيارات ما بعد الحداثة.
تهدف القراءة التناصية الثقافية، من منظور معجب العدواني، "إلى بناء سياقات واسعة للدراسة الأدبية، والتركيز على الأبعاد التاريخية والثقافية للنصوص والقضايا مثل العنصرية، والجندر، والإثنية، والطبقة، في علاقتها بالمنتج الثقافي". ومن ثم، فإن ما يضفي الأهمية على هذه القراءة، سواء من حيث الافتراضات النقدية والمنهجية، أو من حيث الإنصات للنصوص، وتلمس أنساقها الدلالية، هو أنها تتجنّب الوقوع في المشكلات التي واجهتها القراءات السابقة التي لم تتمكن من إقامة جسور بين النص والعالم، ولذلك فهي تحرص على وضع النصوص في السياقات التاريخية والأيديولوجية، مما يسهم في توسيع "الأدبية" بلفت الاهتمام إلى بعدها الثقافي. في هذا السياق، نعتقد أن البعد الثقافي للأدبية التي لطالما جرى التفكير فيها من الزاوية الجاكبسونية، أي باعتبارها ما يجعل من النص نصًا أدبيًا، هو مستوى لا يزال في حاجة للدّرس في الخطاب النّقدي العربي بعد التراكمات المهمة التي تحققت في ما يتصل بوصف الأعمال، سواء على مستوى أبنية النصوص، أو على مستوى الأجناس. وهذا ما قصد إليه الباحث عندما كتب: لقد باتت "البيئات النصية الجديدة، مثل الثقافات الشعبية، وسؤال الهويات، والفنون البصرية كاللوحات التشكيلية والإشهارية والفيلم، والأغنية والبرنامج التلفزيوني، وغير ذلك تمثل حقولًا خصبة للتداول النقدي الذي يمكن أن تغذيه التناصية الثقافية" (العدواني، ص48).
لا شكّ في أن بناء مثل هذا المفهوم الموسع عن الأدب تطلب من الناقد إنجاز عمل تركيبي، ينطلق فيه أولًا من الأراضي التي تبلور فيها مفهوم التناص، والنقاد الذين أسهموا في تطويره، ليستكشف، في مستوى ثان، امتداداته في القراءة الأميركية، قبل أن يتناوله في السياق النقدي العربي من خلال الجهود المختلفة التي فكّرت فيه، سواء فكرنا ها هنا بالجهود التأصيلية التي كان همها هو البحث عن حاضنة تراثية للمفهوم، أو الجهود النقدية الحداثية التي استثمرت التناص في تحليل أعمال أدبية عربية في الشعر والسرد، بما في ذلك القصة والرواية.

يعود مفهوم التناصّ إلى الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا (Getty) 

لذلك، فالقراءة التناصية الثقافية تتأسس على أرضية واسعة من الأعمال والمشاريع النقدية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذه الأعمال تتبنى خلفيات نظرية متعددة، سواء أكانت في دائرة التفكير في التناص، أم في دائرة التفكير بواسطته، وهذا هو ما يفسّر تموقع الناقد في وضعيات مختلفة، فهو تارة يرتدي قبعة نقد النقد فيتأمل كيفيات انتقال المفهوم والشروط التي أحاطت باستقباله عربيًا، والرؤية للعالم التي ينطوي عليها هذا الاستقبال، وتارة أخرى يضع قبعة الشعري، أو محلّل النّصوص، فيتقصّى أعمالًا روائية عربية، أو حكايات شعبية، في مسعى للكشف عن مستويات التناص فيها، كالتناص البنيوي الرأسي، والتناص التناظري الأفقي، والتناص الداخلي العكسي. وهذا المسلك التركيبي في قراءة المفاهيم والاشتغال بها، والذي شدّد عليه إريك أورباخ في معرض دفاعه عن أهمية القراءة الفيلولوجية للأدب العالمي من منظور أوسع، يشكّل في تقديرنا بعدًا منهجيًا في هذه الدراسة.

إنتاجية القراءة التناصية
من البديهي أن التفكير في الرّواية العربية من منظور القراءة التناصية الثقافية يفيد في تحقيق أمر مهمّ يتمثل في كون معجب العدواني بتصوره هذا يطمح إلى الإسهام في توسيع أفق النقد الروائي العربي، وفتحه على ممكنات جديدة تتمثل في مجموعة واسعة من الأبحاث النظرية والنقدية التي ربطت دراسة التناص بجغرافيات نقدية جديدة، وأخرجته من عالم القراءة المغلقة التي ظلّ يتحرّك في دائرتها، مما فوّت على المشتغلين به اكتشاف ضروب التداخل المعقد بين الإبداع الأدبي والسياقات الثقافية، ودور هذه الأخيرة في نقد الأنساق وتفكيكها. وفي هذا الإطار، تتجلى أهمية التيارات النقدية التي استأنفت مشروع ما بعد الحداثة في جانبه النقدي الذي يُسائلُ الحداثة وتنميطاتها، مثل الدّراسات الثقافية، ودراسات ما بعد الكولونيالية، ودراسات العولمة، والدراسات النسوية.
في كتاب "القراءة التناصية الثقافية"، يتناول العدواني بالدّرس مجموعة من الأنواع الأدبية في الثقافة العربية، مثل الرواية، والرحلة، والحكاية الشعبية، والصورة الإشهارية، وأول ما نستنتجه من خلال هذا التبئير للقراءة التناصية الثقافية على هذه الأشكال هو أن الباحث لا يقتصر على دراسة الرواية أو الشعر، وهما نوعان أساسيان في الأدب العربي المعاصر، بل يوسّع المفهوم عن الأدب ليضمّ متونًا أخرى، وهو خيار نظري من شأنه أن يضيء على جوانب مختلفة من الفعالية التي ينطوي عليها مفهوم التناص، والإمكانية التي يتيحها للتفكير في الثقافة بالمعنى العام والواسع، وهذه النقطة كان قد ألمح إليها الناقد المغربي المرحوم بشير القمري في كتابه "شعرية الخطاب الروائي"، عندما تعرّض لمفهوم التناص، وبسط خريطة التفكير فيه في المؤسسة الأدبية الغربية. وإذا كان معجب العدواني انتبه إلى الأهمية التي يكتسيها التفكير في التناص من المنظور النقدي الثقافي، فإن هذه الانعطافة ليس وحده من أسهم فيها، فقد تنبّه بشير القمري في هذه الدراسة اللمّاحة التي صدرت خلال منتصف التسعينيات إلى أن فعالية التناص لا يمكن حصرها في البعد السيميائي للعلائق والتداخلات بين النصوص، وإنما تتعدى ذلك إلى العلائق بين الثقافات، إذ من شأن الاشتغال به أن يفيد في فهم تكوّن الثقافات وسيرورة تطورها وتحولها. وهذه الدّراسة الرائدة التي اتخذت من رواية "الزيني بركات" للروائي المصري جمال الغيطاني متنًا للبحث والدّرس من منظور التناصّ، لم تنل ما تستحقه من الاهتمام رغم أصالتها وجدتها.




يستدعي الناقد في تطبيقاته النقد المقارن، أو الدراسة المقارنة، فإذا أخذنا على سبيل المثال القراءة التي أنجزها لنصّ ابن فضلان "رسالة ابن فضلان"، وهو نصّ شهير في الثقافة العربية يجسّد الرحلة التي قام بها أحمد بن فضلان من بغداد إلى بلاد الترك والصقالبة والروس، لوجدنا الناقد يدرس هذا العمل في علاقته بمجموعة من النصوص والأعمال اللاحقة التي حاورته أو تفاعلت معه، وهي أعمال تنتمي إلى الثقافة الغربية، مثل رواية "أكلة الموتى" لكريتون، والفيلم السينمائي الفنتازي المستمد منه بعنوان: "المحارب الثالث عشر"، وأعمال أخرى استلهمت الرسالة، كلوحة "طقس الجنازة لأحد نبلاء الروس القدماء"، للفنان البولندي الروسي هنري سيميرادسكي (1843 ـ 1902). ويبرز الناقد من خلال القراءة التي تتوقف عند بعدين هما: بعد تتبع الصور وتحولاتها، وبعد الكشف عن التحولات الأجناسية للنصّ الرئيس، ومستويات التطابق بين رسالة ابن فضلان والأعمال المستلهمة، كيف أسهمت هذه الأعمال ما وراء الحدود في حفز القراء الغربيين على العودة إلى رسالة ابن فضلان وإشاعة تداولها بين النخب والعامة. من هذه الزاوية، يتمثل البعد الثقافي لهذه القراءة في الاهتمام بظاهرة التحيز، سواء في صورتها غير الواعية أو الواعية، وهذا ما يبلوره الباحث مستفيدًا من المنظور المقارن بشكل يتبيّن معه كيف أن ابن فضلان وكرايتون بذلا ما يكفي من الجهد لجعل نصيهما بعيدين عن التحيز، إلا أن ثمة جبّة غير مرئية ارتداها الكاتبان، وهي التي عكست ما يسميه الناقد معجب العدواني "التحيز الخفي" غير الواعي. ويعرفه الباحث بأنه التحيز "الذي لا يكاد يشعر به المؤلف ولا القارئ، ولكنه يتبيّن من تتبع سياقات القصّ في كلا العملين" (العدواني: ص155).

تركيب
يمكن أن نستنتج من هذا التفكير في "القراءة التناصية الثقافية" عند معجب العدواني أن أهميتها تكمن في ما يلي:
  • تبيّن القيمة النقدية والإجرائية التي يتمتع بها مفهوم التناص بوصفه مفهومًا مرنًا يتيح بلورة قراءات جديدة من شأنها الكشف عن السياقات الثقافية للنّصوص واختراق شبكاتها.
  • تدلّل على الأهمية التي ينطوي عليها مفهوم التناص من خلال كيفية استخدام المصطلح، وطريقة توظيفه في قراءة الإنتاج الأدبي. لقد مرّ الناقد في بناء مفهومه من ثلاثة أطوار: طور ما قبل التناص، وطور التناص، وطور القراءة التناصية الثقافية. وهذا الطور المهم الذي يمثل تحولًا يستجيب في تقدير الناقد للتطورات التي عرفتها الدراسات الأدبية، ولا سيما في عصر العولمة الذي تتداخل فيه الثقافات ويخضع فيه المفهوم عن الأدب لمراجعات عميقة وجذرية.
  • تؤكد على دور التناص في توسيع المعرفة بمفهوم الأدب، وبمفهوم الرواية التي تتعين بوصفها إطارًا ثقافيًا يحتضن مجموعة من الأشكال التناصية التي تنهض بوظائف محددة.
  • إذا كانت الدراسة تشدّد على أهمية تفعيل "القراءة التناصية الثقافية" بوصفها خيارًا منهجيًا ملائمًا للخروج من دائرة النصية المغلقة إلى دائرة أكثر اتساعًا وشمولًا، فإنها لا تنظر إلى هذا المقترح على أنه نهائي، مكتمل وناجز، بل تعده خطوة أولى، "ولا يزال الطريق طويلًا لصقل التجربة ومساءلتها، بإجراء مزيد من التطبيقات النقدية، واستلهام رؤى أخرى في الدراسات النظرية التي تقدّم في هذا الحقل" (العدواني، ص214).

(*) معجب العدواني: القراءة التناصية الثقافية، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء 2019.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.