}

التذوّق الفني: هل يمكن خداع الجمهور؟

باسم المرعبي 2 أغسطس 2021
آراء التذوّق الفني: هل يمكن خداع الجمهور؟
كولاج بورتريهات امرأة يشكل "لوحة"
ما الذي يجعل من المُشاهد واثقًا من نظرته وحكمه على ما يُعرض أمامه من أعمال فنية، سواء كان انطباعه عنها سلبيًا، أو إيجابيًا؟ والسؤال يمكن أن يُطرح، بصيغة أُخرى، لكن المعنى هو ذاته: هل يمكن أن تتوافر قابلية الحكم على عمل فني لدى الجميع؟ ألا يكون البعض عرضة للتلاعب بسبب من عدم الخبرة، أو التباس الذائقة؟ إذ لا شكّ أن ضعف، أو انعدام الثقافة البصَرية، يؤدي إلى وقوع المُشاهد في فخ أعمال لا صلة لها بالفن، لكنها تُروَّج باسمه. وقد يكون مثل هذا التردد، أو الضعف في حسم الموقف الجمالي، أمام عمل ما، يشمل حتى مَن يمارسون الفن أنفسهم! كمثال ذلك الرسام الذي دُعي للمشاركة في معرض فني في إيطاليا، عبر إرسال لوحة له، ولسبب ما حدا بالقائمين على المعرض إلى تعليق اللوحة بالمقلوب، وقد يكون ذلك، سهوًا أو رؤيةً! لكن المفاجأة أن الرسام ذاته أخذ يعتمد، في ما بعد، الطريقة الإيطالية في عرض لوحته، وحين سُئل عن السبب، أجاب: وهل أنا أكثر فهمًا من الإيطاليين؟! سواء صحت رواية كهذه، أو لا، فإنّ كثيرًا من المشاهدين يمكن أن يكونوا عرضةً لضغوط ما، تنحرف بأذواقهم عن الموقف الجمالي السوي. ومن المؤكّد أنّ العوامل الثقافية والمعرفة والخبرات المختلفة تلعب دورًا كبيرًا، إن لم يكن حاسمًا في تشكيل الذائقة الفنية، فما من منظر نراه إلّا من خلال ثقافتنا، كما يرى أندريه جيد. لهذا فإنّ لغنى المدارك الفنية أهمية كبرى في تقييم الأثر الفني، وبعكسه فإنّ التقليد والتزييف يمكن أن ينطليا على كثير من المشاهدين، وقد يكون الأمر شبيهًا بتقليد الماركات التجارية العالمية الشهيرة، المطلوبة من الجمهور، غير أنّ ثمة من ينأى عنها بحسّه الكاشف، وثمة من يقع في شراكها، أو يرتضيها بديلًا، بإرادته.




إنّ ما استدعاني إلى مناقشة موضوعة إشكالية التذوق الفني هو ما قرأته عن حادثة بقيت تعتمل في ذهني منذ حوالي سنتين، وقت اطلاعي على تفاصيلها، وهي تصلح لاستخلاص أبعاد رمزية بليغة منها، يمكن إسقاطها على تمثلات التلقّي لما هو أدبي وفني. وملخّص الحادثة أن فتى مراهقًا استغل مناسبة انعقاد أحد المعارض الفنية في متحف سان فرانسيسكو للفن الحديث، ووضع، في غفلة من الآخرين، نظارة طبية على أرضية المعرض لرصد ردود فعل الزائرين.

نظارة الفتى "تي. جي. خاتايان" على الأرض

يقول التقرير الذي غطّى الواقعة، و(سرعان ما بدأ الأشخاص يحيطون بالنظارة، ويحافظون على مسافة آمنة من "العمل الفني"، وأخذ بعضهم يلتقط صورًا. وقد تفاوتت ردات الفعل على ذلك). ولا يبدو أن ما قام به الفتى "تي. جي. خاتايان"، وهذا هو اسمه، من دون مغزى مقصود، فقد كان ينطلق في "حركته" هذه عن وعي وحسّ نقدي، وهو ما تشفّ عنه أقواله التي نُقلت عنه بعد كشفه خلفية "الفخ" الذي نصبه لزوار المعرض. ومن بين ما قاله (إن هذه الخدعة أثبتت أن ثقافتنا تتضاءل). يبدو أن هذه هي النقطة الجوهرية في موضوع الذائقة الفنية: تضاؤل واضمحلال الثقافة، فهذه، الأخيرة، بمثابة مرآة داخليه تتفاعل مع ما يتم استقباله من نصوص ومشاهد، وهي المعيار الفاصل، غالبًا، الذي يتم الاحتكام إليه. ومثلما يحدث، عربيًا، في الأدب، كما في حقلي الشعر والرواية، من احتفاء بنتاجات ضعيفة لا تحوز سوية الكتابة العادية، ولو تمّ الاحتكام فيها إلى شواهق الإبداع العالمي، أو حتى المتوسط منه، فلا يعود من حظ لأغلب ما يصدر في الميدانين المذكورين سوى النسيان. من هنا فإنّ المتانة الثقافية التي تصقل بدورها الذائقة الأدبية، أو الفنية، لدى المتلقي، هي ما يعزّز ثقة هذا المتلقي بذائقته وصوابية أحكامه، ليتجاوز بذلك فخاخ كلّ ما هو سقيم وزائف ومُتكلّف في الفن والأدب. ولأجل إثراء معرفة المتلقي ومدّه بمبادئ نظرية تجعله أكثر درايةً وخبرةً للحكم على الأعمال الفنية، نشرت صحيفة "أفتون بلادِت" السويدية، مادة بعنوان "هكذا يمكنك التعرّف على الفن الجيد"، للكاتبة كارولينا موديغ Karolina Modig، وهو ما يُسعف موضوعنا هذا تمامًا.




في ما يلي نص ترجمة المقال:
يبقى الموضوع الذي يثيره سؤال ما هو الفن مادة نقاش لا ينتهي. وقد يستولد في دوره أسئلة أُخرى، تتعلق بكيفية تفكيرنا في ما نرى. ووفقًا لبعض النظريات العلمية، يستند تقييمنا للفن على خمسة جوانب أساسية تحدد ما إذا كنا نعتبر شيئًا ما عملًا فنيًا أم لا. لكن ما هو الفن؟ وهل يمكن تحديد ما هو الجيد، وما هو الرديء؟
يدعي البعض أن الفن هو ما يفعله الفنانون بهاجس داخلي أن يكون كذلك. البعض الآخر يرى أن الفن هو ما يراه المشاهد (أنت وأنا)، ويعتبره فنًا. حتى التخصصات العلمية المتنوعة كعلم النفس، الأعصاب، علم الاجتماع والتسويق، قد تعمّق هذا المجال. منذ سبعينيات القرن الماضي حاول الباحثون بلورة صيغة ما حول المعطيات التي تجعلنا نعتقد بشيء ما على أنه عمل فني، أو ليس كذلك، والأساس الذي بنينا عليه تقييمنا في حال أن انجذبنا إلى العمل، أو لم يحصل مثل هذا الانجذاب.
في عام 2008، نشرت المجلة الأكاديمية "دراسات تجريبية للفنون" ملخصًا لبحث تحت عنوان "إدراك وتقييم الفن المرئي". تجرّأ هذا البحث على اقتراح خمس "قواعد" يبني عليها المشاهد تقييماته للأعمال الفنية، بشكل عام. ليس بالضرورة أن تكون القواعد، أو المبادئ هذه، حاضرة جميعها إزاء العمل الواحد نفسه، لكنّ واحدًا، أو بعضًا منها، ينبغي الاستعانة به دائمًا، لكي نصادق على أن ما نراه هو عمل فني، كما أنها تؤشر أيضًا إلى مدى انجذابنا إليه. وهذه المبادئ هي:
الإحساس: هل أشعر بشيء حيال ما أراه أمامي؟ هل يذكرني العمل بشيء، هل تأثرت به؟ ليس الشعور، سواء كان سلبيًا، أو إيجابيًا، هو ما يؤثر في الدرجة الأساس. من هنا، لا يجب أن يكون الشعور السلبي دافعًا لأن نكره العمل الفني. فما يحسم أفكارنا إزاء أي عمل فني هو ما نشعر به تجاهه، بإطلاق، وبكثافة المشاعر التي يولّدها لدينا عنه.
الجمالي: هل أعتقد أن ما أراه له جاذبية جمالية، أو هو جميل في ذاته؟ بالنسبة للجمهور العريض، غالبًا ما تكون الجاذبية الجمالية مهمة، خاصة حين يتعلق الأمر بما يختاره من أعمال فنية بنيّة إحضارها للمنزل.
المهارة: ما هو تقييمي للحرفية؟ هل أعجبت بموهبة الفنان التقنية؟ هل هناك معرفة، أو موهبة خارقة، تكمن خلف العمل؟ من المؤكّد أنّ المشاعر تصبح أقوى في حال تمكّن الفنان من إنجاز شيء نعجز نحن، أنفسنا، عن القيام به.




التحفيز الفكري: هل يجعلني العمل أفكّر أكثر من المعتاد قليلًا؟ هل يتحدّى إدراكي؟ هل يتقاطع مع الأشكال، أو الأعراف الراسخة؟ هل يتحدى المعايير ويجعلنا نفكر في وضعنا؟ ومن ثمّ يحفز مداركنا، ويحيي أنماط تفكير جديدة؟
الإبداع: هل يُنظر إلى العمل الفني كإبداع جديد وأصيل؟ ثمة اعتبار على جانب عظيم من الأهمية بالنسبة للفنانين الذي لم يلقوا التقييم المستحَق في زمنهم، لكنهم أصبحوا من الكبار، لاحقًا. غالبًا ما يُقال إن الفن الجيد يكمن قليلًا قبل تطور المجتمع، وقبل أن يحفز مداركنا على فهمه وتقديره بما يستحق.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.