في الوقت الذي لا زالت فيه الأنثروبولوجيا العربية تعاني من الهامشية في مجال العلوم الاجتماعية، مشدودة في أحسن الأحوال إلى مظاهر المُقدّس بالأساس، وأحيانًا إلى وضعية المرأة والجندر، وكأنها تفضل أن تظل مطبوعة بالإرث الإثنوغرافي الكولونيالي، يغوص أنثروبولوجيون من قبيل دافيد لو بروطون منذ عقود في قضايا هامشية أو محرجة وأحيانًا قد نعتبرها نافلة أو نعيشها وكأنها من قبيل المعطى اللامفكر فيه. فلقد ارتاد عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا هذا قضايا ظلت حكرًا على الطبّ والفلسفة. فكانت سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الجسد المجال الذي اخترقه بموسوعية تجمع بين كل المعارف، مازجة الفلسفة بالأدب والبحوث الميدانية ونتائجها بنتائج الطب. إنها مقاربات منظورية، تنهل من الفينومينولوجيا (ميرلوبونتي) طابعها التفاعلي، ومن إرث إميل دوركهايم ومارسيل ماوس ذلك الاهتمام المبكر بالجسد وجزئيات الحياة اليومية. وعلى خلاف سوسيولوجيا اليومي، كما بلورها ميشيل مافيزولي بشكل غامض وهلامي، تنحو مقاربات دافيد لو بروطون نحو تأسيس موضوعات الجسد في الترابط التشابكي مع البعد الثقافي والاجتماعي والشخصي كما مع إنتاج المعنى والدلالة، بعيدًا عن أي مركزية غربية، وعبر نقد المقاربات البيولوجية والتطورية والوضعية.
العواطف موضوعا للأنثروبولوجيا
أصدر لو بروطون كتاب "الأهواء العادية: أنثروبولوجيا العواطف" في أواخر القرن الماضي، ولم يحظ حينئذ بما يليق به من اهتمام. ومن بضعة شهور أصدر الكتاب نفسه بتعديلات وتنقيحات وإضافات عديدة وبعنوان جديد سوف يجعلنا نحس وكأنه كتاب جديد: "أنثروبولوجيا العواطف: الوجود عاطفيا في العالم" (2021). يندرج هذا الكتاب إذن في سلسلة كتب يبني بها المؤلف مشروعًا مميزًا في العلوم الاجتماعية، تبدأ بالجسد، و"تنتهي" بالبسمة، مرورًا بالألم والحواس والضحك والمشي. والحقيقة أن ما يؤسسه الرجل هنا هو ذلك الدمج الباهر للسوسيولوجيا بالأنثروبولوجيا من ناحية، والغوص المتأني في جزئيات الحياة والانتباه لقضايا كانت حكرًا على الفلسفة وعلم النفس (الضحك، الحواس، الألم...). من ناحية أخرى تسعى مقاربته إلى أن تتشرب بكل الموارد التي تهم موضوعاته، محافظة على ذلك الخيط الرفيع الذي يجعل من الظواهر الجسدية بناء اجتماعيًا وثقافيًا ورمزيًا، ومؤكدة النسبية الثقافية التي تنزع عنها أي طابع كوني يؤدي حتمًا إلى العرقية والمركزية الغربية.
العواطف ليست حالات مطلقة، ومواد يمكن نقلها من شخص لآخر ومن جماعة لأخرى؛ فهي ليست فقط سيرورات عضوية يملك الجسد سرّها. إنها علاقات. وهي ليست منغلقة في طُويّة عضوية ما، ولا يمكن اختزالها إلى وظيفة لمظاهر الجسد واشتغاله وحركيته في العالم. فهي سواء في شكلها المُضمر أو المحسوس، تترجم نفسها من خلال السلوك والمواقف والوِضعات. وهي تترك صداها في الغير وتؤثر في العالم في حركة دائبة بين معطيات الوضعية الخاصة بالفرد وبين طريقته الخاصة في الاستجابة لها.
كما أن العواطف ليست مواد، أو أشياء مادية قابلة للوصف يمكننا بسهولة أن نعثر على مقابلاتها من ثقافة لأخرى من خلال تفحص المعجم فقط. إنها مواقف وسلوك مؤقت تفصح عن النبرة الجماعية للفرد في علاقة معينة بالعالم. وما يثير تلك العواطف، والطريقة التي تتصادى في بواطنه، وأنماط تعبيرها، لا يمكن تصوره خارج نظام المعنى والقيمة الذي يتحكم في التفاعلات داخل الجماعة. ومن ثمَّ تتوفر كل ثقافة عاطفية بشكل خاص على معجمها وتركيبها وتعابيرها الإيمائية والحركية ووِضعاتها وطرائق انتقالها.
وبما أنه لا وجود للعواطف وتعبيراتها خارج الجسد واللغة، فإن الجسد يغدو فضاء تعبيريًا يعبر عن نبرة الطابع العاطفي للحظة. لذلك بالضبط، تملك العلامات الرمزية المتولّدة عن الإحساس العاطفي الشخصي وظيفة تواصلية. بل لذلك بالضبط لا يمكن للمؤلف أن يقيم ميْزًا بين الإحساس والشعور والعاطفة، لأن أنثروبولوجيا العواطف، انطلاقًا من التحديدات السابقة تستهدف بالأخص العلاقة العاطفية للفرد بالعالم. فالعواطف ليست بهذا المعنى سوى اللحظات الأبرز للأحاسيس والمشاعر.
بالرغم من أن كل الناس يملكون جسدًا يتوفر على الأعضاء نفسها، فإن الجسد في الحياة اليومية والاجتماعية ليس قدَرًا كونيًا. إنه يُبنى ويعاد بناؤه باستمرار في سياقه الاجتماعي والثقافي واللغوي المحلي. لذا ينبغي علينا أن نجعل كل اصطلاح في المعجم العاطفي لمجتمع ما في علاقة مع السياق المحلي لفعالياته الملموسة. وتكمن المهمة هنا في تفادي الخلط بين الكلمات والأشياء، وفي تفادي تطبيع العواطف بنقلها من غير حذر من ثقافة لأخرى من خلال نظام ترجمة يتغافل الشروط الاجتماعية للوجود التي تغلفها. ولأن الأنثروبولوجي يهتم بالمقارنة بين الثقافات، فإن استعمال الاصطلاحات العاطفية يفرض علينا أن نضعها بين مزدوجتين كي نذكّر بأن العواطف بعدٌ اجتماعي وثقافي يتسم بالضبابية والالتباس. فالسجل العاطفي لمجتمع ما يفرض علينا أن نمسك به في الشروط الواقعية التي تطبع تعبيره وفي تطور تلك التعبيرات من فترة تاريخية لأخرى.
العواطف تعبير عن العلاقة بالوجود
كل فكر يكون متشبّعا بالأحاسيس والمشاعر، حتى في الهدوء وأثناء لحظات التفكُّر والتأمل. والعواطف ليست قوى عمياء وغير عقلانية تستحوذ على الفرد من غير إرادته، بل هي من صميم ممارسة الحياة اليومية، فهي في كل لحظة تترجم تأويلات الفرد للأحداث؛ وبذلك فهي تمارس معرفة مستمرة عن محيطها. وهي من ثمَّ تندرج في بداهة فعل العيش والحياة الفردية والجماعية. توفر الحالة العاطفية L’affectivité التوجهات التي تبدو كما لو أنها تعلّق التفاعل الفكري مع الغير، وذلك بمنح الفرد خطاطات للفعل يمكنه على هواه أن يعدّل من تعابيرها في أي وقتٍ وحينٍ، وأن يتحكم أحيانًا فيها كي يظل متوافقًا مع المأمول فيه من الناس الآخرين. وأغلب الأفعال المؤثرة في العالم تنساب هكذا انسيابًا، خالطة بين العاطفة والفكر في حركة واحدة، إلا إذا أدّى مشكل أو حركة أو عسر الاختيار إلى تفكير أعمق، وذلك بواسطة الموازنة بين البراهين والحجج.
تفترض العاطفة شعورًا باطنًا حدسيًا، وإدراكات حسية يصعب وصفها، فهواجس الغيرة لا تشبه في شيء سوْرة الغضب أو الحرج. وطبعًا، فإن المشاعر أو العواطف ليست بتاتًا ظواهر جسمانية أو نفسية خالصة؛ فهي ليست رهينة بالصدفة أو بالمبادرة الفردية. وانبثاقها كما الإحساس بها والتعبير الجسدي عنها أمور تستجيب للمواضعات الاجتماعية ولوضعية الفرد في محيطه أو مجتمعه. تولد العواطف من التقويم الواضح بهذا القدر أو ذاك لحادث أو واقعة يقوم به إنسان ما يتغذى من حساسية خاصة؛ وهي أفكار ذات طابع فاعل، تمتد على مدى نظام من المعنى والقيم لا يكون دومًا واعيًا به. وما دامت تلك العواطف متجذرة في ثقافة عاطفية معينة، فإنها تندرج بعد ذلك في لغة وإشارات وإيماءات تكون مبدئيًا معروفة من لدن أولئك الذين يتقاسمون أصولها الاجتماعي. هكذا تمنح الثقافة العاطفية خطاطات تجربة وفعل ينسج عليها الفرد سلوكه تبعًا لحياته الشخصية وأسلوبه، وبالأخص نوعية تقويمه للوضعية. إنها ثقافة تجعله في علاقة مع العالم والوجود. وإذن فإن العاطفة التي يحسها تترجم الفرد الدلالة التي يمنحها للظروف التي تتصادى في بواطنه. وهي بذلك نشاط للمعرفة، وبناء اجتماعي وثقافي يغدو واقعة شخصية من خلال أسلوبه الخاص. إنها، مثلها مثل الإدراكات الحسية، ذكاء حركي.
العواطف ذات بعد ثقافي وقيمي وليست عالمية
تندرج الأحاسيس أو العواطف إذن في نظام من المعنى والقيم مخصوص بجماعة اجتماعية معينة، وهي تؤكد أسسها والمبادئ التي تنظم الروابط الاجتماعية. ويتم التصريف الاجتماعي والثقافي للأساس البيولوجي الكوني للعواطف تبعًا لصيغ تكون أحيانًا متقاربة، وأحيانًا مطبوعة بالاختلاف بين مكان وآخر من العالم. وإذا كانت المقاربات البيولوجية والعقلانية تعتبر العواطف جوهرًا نفسيًا كونيًا، فإن الأنثروبولوجيا تعتبر أن دائرة العواطف تحيل إلى التربية، وأنها تُكتسب تبعًا للطرائق الخاصة لعملية التنشئة الاجتماعية للطفل، فهي ليست أكثر فطرية من اللغة. فكل كائن بشري يملك عند الولادة القدرة على الدخول في العالم الرمزي لجماعته تبعا لتربيته وما يفعل بها في علاقته بالعالم.
العواطف تنتج أيضًا لغة تواصلية مبنية على طرائق غير اللغة وعلى الجسد وممكناته التواصلية. فنحن هم جسدنا، بمعنى أننا لا نملك جسدًا، والعالم لا يوجد إلا من خلال ما نشعر به منه، إذ هو يجسّد "بدن العالم"، حسب مقولة ميرلوبونتي. إن جسدنة التواصل هي أيضًا مؤشر محسوس للحياة العاطفية الرابطة بين الفرد ومحيطه. كما أن الطابع الطقوسي للبصر في التفاعل البصري، وبانتمائه للثقافة العاطفية، يبيّن البعد الخاصّ بالتماس الجسدي الذي يوحي به. فحين ينظر المرء للآخرين أو يقع عليه نظرهم، فذلك يعني لمسهم رمزيًا، ومن ثمّ ضرورة الحذر والتكتّم التي تحيط مبدئيا بالتفاعلات البصرية في مجتمعاتنا. البصر إذن عبارة عن عملية توازن مع العالم.
هذه القضايا وغيرها تشكل موضوعًا لأنثروبولوجيا يرغب المؤلف بأن يؤسس بها نظرية تسمح بارتياد ما تشجبه الفلسفة القديمة وما تهمشه العقلانية والنظريات البيولوجية والتطورية. وهو إذ ينطلق من إرث ميرلوبونتي في فينومينولوجيا الإدراك، يمنحنا نظرة شمولية لن تسمح لنا فقط بارتياد ما ظللنا نعتقده من باب البديهي غير القابل للتعقّل والتفكير، وإنما تمنحنا أيضًا نظرة جديدة تمكننا من فهم عواطفنا الشخصية، كما العواطف والأهواء في تراثنا الشفهي وأدبنا الشعري والروائي القديم منه والجديد.