}

الحب بوصفه حالة ميتافيزيقية

مها حسن 24 أكتوبر 2022
آراء الحب بوصفه حالة ميتافيزيقية
(سارة شمة)
تصادفني كثير من الحكايات المتناثرة حولي تتعلق بقصص الحب الفاشلة، التي تؤدي إلى كوارث نفسية قد تنتهي أحيانًا بموت صاحبها، أو بالتفكير في الموت. وفي كل مرة، ينتابني الحماس للكتابة لهؤلاء، ثم أتراجع، لما تتطلبه الكتابة في هذا الشأن من صبر وهدوء في مخاطبة الآخر المكلوم، لوضع مشاعره في مكانها الصحيح، وبدلًا من تدمير الذات وإنهاء الحياة، فإن الفهم وحده قد يكون كافيًا لإعادة المرء إلى مكانه السليم، وتصويب مشاعره التي غالبًا لا تكون هذا الحب، إنما أشياء أخرى تختلط عليه، لكنه لا يستطيع فهم ذاته وحده، بل يحتاج إلى وعي وثقافة وخبرة وأصدقاء ومحللين واطلاع على تجارب الآخرين، لفهم ما يحدث له، ولتصويب العلاقة الغامضة، تلك التي تحدث لأحدهم، وتوضيحها.


وهم الحب الموجود في مكان ما
هنالك نوعان أساسيان من المشاكل العاطفية المحيطة بي:
ـ الذين يعيشون مع شريك عاطفي لا يلبي حاجاتهم العاطفية. هؤلاء يرغبون في الانسحاب، بحثًا عن علاقة مختلفة.
ـ الذين يعيشون من دون علاقة، ويبحثون عن الحب، ويحلمون به، ولا يعرفون كيف يتحقق.
في الحالتين، يعاني أغلب هؤلاء من مشكلة التصورات المسبقة عن الحب، وهي قصة معقدة ومركبة تحتاج إلى اشتغالات فردية ليفهم كل شخص موقفه المسبق من الحب..
سأحاول أن أشرح:
غالبًا، وفي المجتمعات المشرقية، التي لم تتح كثيرًا حالة الاختلاط، حيث يكون الفصل دقيقًا وحادًا بين الجنسين، فإن تصورات كل طرف عن الطرف الآخر تكون غير واقعية، مُؤسسة على أفكار جمعية، وهذه الأفكار تختلف من بيئة لأخرى، ومن حقبة لأخرى..
إن جيل السبعينيات مثلًا تأسس عاطفيًا على الأغاني المليئة بالهم والحسرة والفقدان والألم، وهو ما يمكنني أن أدعوه بجيل الراديو وأفلام الأبيض والأسود. وهنالك جيل الدراما العربية، وخاصة المصرية، التي وسّعت قليلًا من مساحة الحب والتعاطي معه، من خلال مسلسلات وأفلام مأخوذة عن روايات عربية وعالمية، فدخلت الدراما في مرحلة أكثر واقعية، عبر مواضيع الغدر والتخلي والحذر من الحب.. ثم يمكن الحديث عن جيل الحياة المدبلجة، لنتحدث لساعات طويلة عن أثر الحكايات المنقولة من ثقافة مختلفة إلى أخرى، وخلق مشاعر خاطئة، بسبب التقليد. المسلسلات التركية المدبلجة إلى العربية مليئة بهذه الأمثلة: التقليد والرغبة في عيش هذا الحب، حتى غدت أسماء أبطال هذه المسلسلات بمثابة أيقونات ومرجعيات عاطفية يحلم كثيرون بعيشها متماهين مع هؤلاء الأبطال..





واليوم، يمكننا الحديث عن الجيل الإلكتروني، الذي صار يصعب إشباعه عاطفيًا، بسبب العلاقات المتاحة والكثيرة والمتعددة، وهذه في اعتقادي أصعب مرحلة نحياها اليوم، لما فيها من تشوش واختلاط المشاعر وفوضى العلاقات..
ضمن جميع تلك المراحل، فإن المشاعر والتصورات العاطفية تحدث لطرف، من دون معرفة حقيقية بالطرف الآخر، بل ضمن مفاهيم جمعية مسبقة، وبالتالي تؤسس بقوة للنظرة الميتافيزيقية الخرافية للحب، فتُظهر الحب كأنه قدر مسبق، أو حدث يقع فجأة: يكون أحدنا في لقاء، أو ربما في الشارع، أو في المواصلات... يلتقي بأحد، يجذبه، ويحدث الحب..
هذا بالتأكيد تشخيص خاطئ لمفهوم الحب، إذ أن ما يحدث بدقة هو التالي:
هذه الأفكار والتصورات المسبقة لدى الشخص تتحرك بلقاء شخص آخر، فيعيش حالة متصورة عن الحب.. لكن هذه الحالة معزولة ومنفصلة عن الشخص الآخر، أي هي فقط تشبث واندماج مع صورة جاهزة تنتظر الشخص الآخر لتضعه فيها، ويمكن أن يحل أي شخص، ضمن مقدار ما من الجاذبية والوهم، ليكون هذا الحبيب المفترض، أي أن أحدهم هنا لا يحب الآخر، بل يسعى لتثبيت الصورة الموجودة سلفًا عن الحبيب، الصورة التي غالبًا لا تتوافق مع هذا الشخص.


الحب حالة بيولوجية/ ميتافيزيقية
في كتابه الفريد والمهم "فن الحب"، يتحدث إريك فروم عن أنواع الحب، ويفصل بدقة مفهوم الحب، ليأخذنا إلى تعاريف جديدة، لنرى بعض الأشكال من الحب، وأهمها، الحب الأمومي، والحب الأبوي.
في كتابه ذاته، يحدثنا فروم عن "قهر الانفصال"، وكذلك عن الرغبة في "الاندماج مع الآخر".
أعتقد أن جوهر البحث عن الحب، وهوس لقاء الحبيب، يكمن هنا، أي في استعادة العلاقة الأولية لتشكل أحدنا في الحياة.
حدث هذا التشكل، عبر الآخر، إذ تكوّن كل منا، في داخل الرحم، وتغذينا ونمونا داخله، ولم نكن وحدنا، ونحن نبدأ بالتكوّن والوجود في الكون..
ثم يحدث الانفصال الرهيب، والرعب من الخروج من أمان العيش داخل الآخر، الرحم الآمن، المانح، المُغذي، الحامي، لتكون مغادرة الرحم، أولى تجارب القهر الإنساني، الذي يشبه الطرد من الجنة، ليبدأ الطفل في الاعتماد على ذاته، ليتعلم تناول الطعام والكلام والمشي..
هذا الرعب من الاستقلال والانفصال عن الآخر الحامي يترك آثاره دائمًا، ويحرك الرغبة الدائمة في الاندماج مع كائن آخر، ليحقق الأمان، ذلك الأمان الذي يتماهى كثيرًا مع أمان الرحم.
من هنا، فإن الحاجة إلى الحب ملحّة لدى أغلب الأشخاص الذين لم يتمكنوا من الفصل بين الحب بوصفه حالة قلق من الوحدة، والخوف من تحمل مسؤولية الحياة، وبينه كحاجة ناضجة لشراكة لا تعتمد على الاندماج.


من الحاجة إلى الحب حتى فهم الحب أو فن الحب
من حقنا كبشر أن نبحث عن هذا الشعور بالأمان، والذي يحتاج إلى الطرف الآخر، لنحياه، ولكن كما قال "أوغسطينوس"، الفيلسوف الروماني: أحب، لكن حذار مما ستحبه. أي علينا التفريق بين حاجتنا المطلقة إلى الحب، وبين وجود الآخر، الذي قد تكون تصوراته عن الحب، مختلفة..




لهذا يكثر الحديث عن "سحر البدايات"، ثم سرعان ما تذوي العلاقة، والسبب صار واضحًا كما أعتقد: هذا السحر قائم على تصور فردي من كل طرف يُسقطه على الطرف الآخر، ومن هنا غالبًا تنشأ المشاكل ويتولد الألم، ويحدث الانفصال: بسبب عدم فهم ما نريده من الآخر بدقة، وما يريده الآخر منا، وتحقيق معادلة منطقية بين هذين الطرفين، أي أنا والشريك...
في أغلب حكايات الحب الرومانسية الحالية، التي تنتمي بذورها إلى عصور سابقة، غير منسجمة مع الزمن الراهن، يُلبس أحد الطرفين صورة للآخر لا تشبهه، ويضعه في قالب ليس له، ومن هنا يظهر الفارق بين الحاجة إلى الحب بشكل مطلق وغير محدد الملامح، وبين الحاجة للشخص الآخر، كما هو، لا كما نريد أو كما نتخيل، لأننا ندخل في لعبة خداع الذات، التي سوف تنكشف سريعًا، ويحدث الألم.
تقول سيدة في إحدى المجموعات المغلقة في وسائل التواصل: "مشتهية أعيش قصة حب". هنا صلب المشكلة، لأن رغبتها محصورة في حالة الحب، وهي مستسلمة للصورة كما هي، من دون محاولة العمل والمعرفة لفهم الطرف الآخر، لتعيش قصتها هي معه، وليس القصص التي سمعتها، أو رأتها، أو قرأت عنها، وتريد أن تحل محل البطلة في الحكاية الموازية.
يجب أن يكون لكل محب حكاية حبه هو، لا أن يحيا ليقلد حكايات الآخرين، التي وصلتنا غالبًا منقوصة، أو مزيفة..
إن الطمأنينة التي يهبها لنا الحب ينبغي أن تكون ناجمة من الفهم، فهم حاجاتنا الفردية المختلفة عن حاجات الآخرين الذين أحببنا قصص حبهم، إذ لا يمكن لأي كائن في الأرض أن يعيش مكان أحد، أو أن يصبح أحدًا آخر.. حتى تنجح حكايتك، يجب أن تنتزعها من صور الآخرين، ولا تدخلها في المقارنة، أو المفاضلة..
لا يعني كل ما سبق، نسف الحب، بل يعني تفكيك المشاعر وفصلها وترتيبها بمعزل عن الآخر، لعدم بخس حق الشريك في العلاقة.
يحتاج الحب، وفق فروم أيضًا، إلى معرفة.
هذه المعرفة تتطلب بداية معرفة الذات، وهذا ما يتحدث عنه فرويد، حين يقول: "إن المرض النفسي يكمن في شيء واحد أساسي هو: فقدان القدرة على الحب بما فيها حب الذات".
في المحصلة، لتحقق رغبتك في الأمان والنشوة والراحة، واسترداد طمأنينة الرحم، عبر الآخر، عليك بذل جهد فهم هذا الآخر، لتقديم حكاية خاصة بكما، لا بالصور الموجودة سلفًا، والتي تخص الآخرين.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.