}

في وداع فؤاد المرعي.. عقليّة منفتحة ومتجدِّدة

أحمد عزيز الحسين 20 نوفمبر 2022
آراء في وداع فؤاد المرعي.. عقليّة منفتحة ومتجدِّدة
فؤاد المرعي (1938 ـ 2022)

رحل عن عالمنا مؤخرًا النّاقد والأستاذ الجامعيّ السّوريّ، فؤاد المرعي (1938 ـ 2022) بعد حياة جامعية ونقديّة حافلة، أمضاها في رحاب كليّة الآداب في جامعة حلب، ألّف خلالها ستّة عشر كتابًا نقديًّا، وترجم ما يزيد على ستّين كتابًا من اللغة الرّوسيّة، كان آخرها رواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، التي صدرت عن دار ذات السّلاسل في الكويت، في ثلاثة أجزاء ضخمة تقع في حوالي 2000 صفحة، كما أشرف على ما يزيد عن 250 أطروحة ماجستير ودكتوراة، و"يحتلّ علم الجمال حيّزًا أساسيًّا من اهتمام الدّكتور فؤاد المرعي الأكاديميّ والثّقافيّ معًا؛ حتّى يصحّ التّوكيد أنّ البطاقة العلميّة له تتحدّد أوّلًا بعلم الجمال، سواء أكان ذلك على صعيد التّرجمة والتّعريب، أم على صعيد الإشراف والتّدريس، أم على صعيد التّأليف تنظيرًا وتطبيقًا. ولعلّنا لا نبالغ إذا ما ذهبنا إلى أنّ هذه الحقول الدّرسيّة قد طُبِعت بطابع الدّراسة الجماليّة، في كثير من جوانبها، من جهة، وطرائق التّحليل والمعالجة من جهة أخرى؛ وهو ما يعني أنّ شخصية الباحث الجماليّ هي الأكثر وضوحًا وطغيانًا في دراسات الدّكتور المرعي الذي يُعَدّ واحدًا من أهمّ المشتغلين بالبحث الجماليّ العربيّ، ولا سيّما السّوريّ منه، في النّصف الثّاني من القرن العشرين"، كما يقول الباحث سعد الدّين كليب.



وفي ظنّي أنّه يمكن تقصّي أهميّة أستاذنا الرّاحل فؤاد المرعي من جملة تجلّيات في شخصيّته العلميّة والأكاديميّة : التّجلّي الأوّل أنّه اخترق الصّورة النّمطيّة القارّة للأستاذ الجامعيّ السّوريّ الذي يقبع في مكتبه، ويلقي محاضرات نظريّة على طلابه، ثمّ ينصرف عائدًا إلى منزله لإعداد محاضراته وبحوثه الأكاديميّة غير مكترثٍ بما خلّفه وراءه من أثر في عقولهم وآليّات تحليلهم وتذوّقهم للأدب والنّصوص؛ إذ كان المرعي من شريحة فعّالة حرصت على الانخراط في الحياة الثّقافيّة والجامعيّة السّوريّة، وشاركت طلّابها في ما ينتجونه من دراسات ونصوص، وحاورتهم حوله بمرونة فائقة، وعقليّة منفتحة ومتجدِّدة، وما أكثرَ المداخلات النّقديّة التي قدّمها أستاذنا الرّاحل في ملتقيات حلب الجامعيّة، وأنشطتها المختلفة، منافحًا عن الحداثيّ والجديد في الأدب والنّقد والفنّ، وقد شاركه في كثير منها أساتذةٌ آخرون، منهم فايز الدّاية، وأستاذنا الرّاحل محمد حمويّة (1934 ـ 2003)، ولا سيّما في عقدي السّبعينيّات والثّمانينيّات من القرن المنصرم؛ ممّا أتيح لي معاصرتُه، والمشاركةُ فيه أحيانًا.




وأمّا التّجلّي الثّاني في شخصيّته فيكمن في أنّه شارك بفاعليّة في الحياة الثّقافيّة والنّقديّة السّوريّة والعربيّة، ولم يكن منعزلًا عمّا كان يدور في خارج أسوار الجامعة من نشاط نقديٍّ وأدبيّ وفنيّ، كما فعل كثير من زملائه في المرحلة نفسها؛ وقد نشر خلال حياته العلميّة مجموعة ترجمات مهمّة، وكتبًا نقديّة، ودراسات أكاديميّة في الدّوريّات السّورية والعربيّة، كما قدّم محاضرات متعدِّدة في الملتقيات النّقديّة التي أقيمت في داخل سورية، فضلًا عن مشاركته في ملتقيات نقديّة عربّية وعالميّة، ولا سيّما في جامعتي إربد، وكامبردج، وغيرهما.




والتّجلّي الثّالث أنّه كان رجلًا منفتحًا على الأطياف الثّقافيّة والأيديولوجيّة كافّة، وقد حظي بتقديرها جميعًا، رغم اختلافه معها في كثير من المفاهيم الثّقافيّة والأيديولوجيّة، ولم نشهد له خلال حياته العلميّة التي امتدّت طوال نصف قرن مواقف ثقافيّة، أو حياتيّة، تجعله موضع كراهية، أو استصغار، من أحد هذه الأطراف، وقد اتفّق الجميع على احترام آرائه ومواقفه، رغم اختلافهم معه في كثير ممّا كان يذهب إليه في حياته العلميّة؛ ولذا لم يُحسَب على (شُلّة) معيَّنة كما يحدث في العادة، بل ظلّ خارج الشّلل والتّصنيفات الثّقافيّة والأيديولوجيّة، رغم أنّه كان يتبنّى المنهج الماركسيّ في آليّتي تدريسه وكتابته معًا.



والتّجلّي الرابع أنّه بذل جهودًا جبّارةً ومضنيةً لجعل نظريّة الأدب والفنّ وعلم الجمال ضمن مفردات المنهاج الدّراسيّ الذي كان يدرُسه طلابُ المرحلة الجامعيّة الأولى، وطلابُ الدّراسات العليا في جامعة حلب قبل أربعة عقود ونيّف، ونحن مدينون له بالفضل لأنّه ساعدنا على امتلاك رؤية جماليّة جديدة للأدب ما كان لها أن تتشكّل لولا روحه الخلّاقة، ومحاضراته النّقديّة الحصيفة التي كشف بها عن بصيرة نقديّة ثاقبة، ووعي نقديّ كبير، ورغبة عارمة في التّغيير، وضرورة أن يغدو علم الجمال أداةً نقديّةً مرهفة، وسلاحًا نقديًّا شفيفًا بأيدينا لكي نستطيع تجاوز المناهج العتيقة، التي كان يُدرَّس بها الأدبُ والفنّ، إلى آفاق جديدة لم تكن متاحة لنا من قبل.
ولم يكن أستاذنا الرّاحل حريصًا في محاضراته على خلق نسخ له، أو مريدين متبنّين لمنهجه النّقديّ؛ بل كان يحرص على الحوار الخلّاق مع طلابه، وكان يناقشهم بحريّة، مؤمنًا بحقّهم في الاختلاف معه حتّى العظم؛ وهكذا أفسح لهم المجالَ كي يكتبوا بحريّة كاملة، وكان يشجِّعهم على الاختلاف معه في القضايا النّقديّة التي يثيرها، ولذلكَ كان من الممكن للطّالب أن يكتب ما يريد في الامتحان، أو في الأطروحة الجامعيّة التي يُعِدُّها، من دون أن يؤثِّر ذلك في الدّرجة التي ينالها لو تجرّأ على مخالفته في الرّأي، أو انتهى إلى نتيجة لا يقرّها هو.




والتّجلي الخامس أنّ الرّاحل كتب في حقول نظريّة متعدِّدة، شملت تاريخ الأدب والنّقد الحديث في سورية والوطن العربيّ، وامتدّت إلى النّقد اليونانيّ القديم، وطالت نظريّة الأدب والفنّ وعلم الجمال، كما شمل اهتمامه اللُّغة والأدب المقارن، فضلًا عن كونه واضع مداميك تدريس علم الجمال الأدبيّ، ونظريّة الأدب والفنّ في سورية، وقد أنجز فيها جميعًا مع مجموعة من طلابه كتبًا ودراسات قيِّمة جديرة بالتّحليل والنّقد، ويكفي أن نشير إلى ما أنجزه تلميذاه سعد الدّين كليب، ومرشد أحمد، وتلاميذ آخرون في حقلي الدّراسات الجماليّة والنّقد الأدبيّ الحديث، لنتأكّد من مدى تأثيره في الحياة الثّقافيّة والجامعيّة السّوريّة.
التّجلّي السّادس أنّه كان شخصيّة اجتماعيّة ناجحة ومتميِّزة وفق كلّ المقاييس، وقد أمسى مكتبه في كليّة الآداب في جامعة حلب مقصدًا للزّوّار، ومحجًّا لطلّاب العلم، يفِدون إليه من داخل سورية وخارجها، ويحظون بالتّكريم والاستقبال الباسم، والضّيافة العربيّة الأصيلة، وما دخلتُ مكتبَه يومًا طوال تتلمُذي عليه إلّا حظيتُ بالاستقبال الحافل والحفاوة اللّائقة، وقد كنتُ حريصًا حين دخولي إلى مكتبه على الخروج بالمقلوب؛ إذ كنت أخرج وظهري إلى الباب، ووجهي إليه، لكي أحتفظ بصورته الباسمة في ذهني، وأقبس منها محبّة العلم والتّفاؤل في حياتي الاجتماعيّة والعلميّة معًا.


* ناقد سوريّ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.