}

"هذا النص مفقود!".. أدباء يتذكرون نصوصهم الضائعة والمحذوفة

صدام الزيدي صدام الزيدي 8 نوفمبر 2022
آراء "هذا النص مفقود!".. أدباء يتذكرون نصوصهم الضائعة والمحذوفة
(Getty Images)



سأل منبر "ضفة ثالثة" عددًا من الأدباء والكتاب العرب، ممن مروا بتجارب ضياع نصوص وكتابات أدبية: ما هو شعورك حيال نص كتبته فكان مصيره الفقد والضياع لسبب ما، أو حيال نصوص كتبتها على أجهزة الحاسوب أو الموبايل أو منصات التواصل وأمست مفقودة بسبب خطأ تقني غير محسوب، وحيال أخرى قمت بحذفها لعدم رضاك عنها، ولِما نحذف ما نكتب؟

ويأتي هذا الملف متماهيًا مع حالة الفقد والتشظي التي يعيشها المبدع العربي اليوم، تحت وطأة الحروب والنزوح وتفشي الأوبئة، واتساع دائرة القلق وتنامي الشعور بالضياع والاغتراب.

هنا الجزء الأول:

شوقي بزيع (شاعر/ لبنان):

المفقودات هي ركن الإبداع الأساسي

لا بد أن أشير بدايةً إلى أن لفظة الفقدان كفكرة الفقدان، تثير في نفسي شجنًا خاصًا ومتميزًا، وهو ما جعلني أستخدمها في غير مقالة وقصيدة. أذكر أنني نشرت قبل سنوات في مجلة الآداب مقالةً بعنوان "الذهبُ الكتابة وبريق الفقدان"، وأيضًا هناك مختارات شعرية صدرت لي عن مؤسسة سلطان العويس في دبي بعنوان "مناديل لرياح الفقدان"، وبالعودة إلى السؤال، يجب أن أميِّز هنا بين الأشياء التي نفقدها رُغمًا عنّا كأن تضيع منّا قصيدة كنا قد احتفظنا بها عبر وسائط التواصل الاجتماعي أو في الأدراج أو في مكانٍ ما، وذهبت أدراج الرياح، وهذا طبعًا يترك مرارةً في داخلنا لأن النص الذي يضيع لا يمكن أن نستعيده، وإذا حاولنا أن نكتبه ثانيةً فلن نعثر عليه، ربما نكتب نصًا مشابهًا لكن ليس النص نفسه. وهنا يمكن أيضًا أن أُطِلّ على مسألة الفقدان من خلال عدم استثمارنا، وخاصةً في مجال الشعر، للأوقات المتاحة لنا للكتابة، فلو كنا قد عقدنا العزم على أن نكتب في لحظةٍ مؤاتية، وفي مكانٍ معين، ثم طرأ علينا شغلٌ داهم صرفَنا عن الكتابة، فنحن حين نعود في اليوم التالي، لن نكتب النص نفسه على الإطلاق، لأن النص يخضع لآليات معينة ولجملة من المصادفات التي لا نستطيع التحكم بها.

شوقي بزيع  


أما في ما يخص ما نحذفه نحن بملء إرادتنا من النصوص أو أجزاء من قصائد، فهذا سبق لي أيضًا أن تحدثت عنه في العديد من نصوصي الشعرية كما في مقالاتي، معتبرًا أن كل نص نكتبه هو أقرب إلى المختارات الشعرية أو النثرية التي نُثبِت فيها على الورق أو على المدونات ما نراه جديرًا بالنشر، والتي نحذف منها ما نراه خلاف ذلك، على أن أحدًا ما لا يمكن أن يؤكد لنا أن ما أثبتناه على الورق أو في المدونات هو أفضل مما حذفناه، ذلك لأن الحقيقة الإبداعية والأدبية هي نسبيّة وحمّالة أوجه، ومن هنا نرى أن بعض الشعراء يحتفظون بمسوّدات قصائدهم ثم يعودون إليها ليستخدموا أجزاء منها في قصائد لاحقة يرون أنها تتناسب مع تلك القصائد، وهنا أيضًا، أعرِّج على بعض الشعراء الذين حذفوا أعمالهم الأولى بعد أن مرّ وقتٌ عليها، ظنًا منهم بأن هذه الأعمال لم تعد تليق بمقامهم الإبداعيّ اللاحق، ومن بين هؤلاء مثلًا، ما فعله أدونيس في ديوانه الأول "قالت الأرض"، أو ما فعله محمود درويش في ديوانه "عصافير بلا أجنحة". أنا لا أذهب إلى هذا الخيار ولا أؤيده، لأنه لكل انسان مساره الطبيعي الذي يتطور لبِنَةً بعد لبِنَة، ونصًا بعد نص، ولا يضيره أن تكون بداياته مرتبكة أو متعثرة ما دامت هذه البدايات بدت بمثابة المغامرة التجريبية الأولى التي قادت فيما بعد إلى مغامراته الناجحة، ولكن بالنهاية، يبقى لكل إنسان الخيار في أن يفعل ما يشاء.

ختامًا أقول إنه ثمة حسرة دائمة تنتابنا إزاء الأشياء التي نفقدها سواءً كانت نصوصًا أو نساءً أو لحظات جميلة أو مدنًا وأماكن، وهذا شأن البشر جميعًا، وهذه الأشياء تتحول شيئًا فشيئًا إلى نوستالجيا متصلة باللغة وبالأدب وبالإبداع، وهذه المفقودات هي ركن الإبداع الأساسي. نحن لا نكتب عن الأوطان بالشكل الذي نتمناه إلا إذا تعرضَت لتهديد، ولا نكتب عن الأماكن إلا إذا خسرناها، ولا نكتب عن النساء إلا إذا فقدناهنّ، ومن هنا أشعر بأن اللغة هي نقيض الحياة، أو تتمُّ على أنقاضها تمامًا، أي أننا كلما كتبنا عن أقنومٍ أو معنى فقدناه في الواقع، هكذا يصبح تراكم الخسارات في الحياة بمثابة تراكم مكاسب على مستوى الإبداع.

حبيب سروري  



حبيب سروري (روائي يمني/ فرنسا):

قصائد ضائعة في عدن!

ليس لي أي تجارب تستحق الذكر في ضياع النصوص، إلا تجربتين قديمتين من أيام دراسة الثانوية في عدَن:

1) أضعتُ قصيدةً كتبتها في سنة أولى ثانوي، وكنتُ بعد ذلك في غاية الكمد والحزن على ضياعها، لدرجة أني كتبت قصيدة بعنوان "مرثية للقصيدة الضائعة" (لعلها كانت حينها من أجمل ما كتبت!).

2) أضعتُ المرثية أيضًا ضمن ملف شخصي اختفى في عدن، بعد سفري للدراسة في فرنسا.

الضياعان معًا كارثة حقيقية توجعني إلى اليوم.

توجعني أكثر كلما مرّ الزمن، لأني لم أعد أتذكر بيتًا منهما، ولأن كل نصوصي ودفاتري ومراسلاتي ونتائجي المدرسية و…، منذ الصغر، موجودة لدي ومؤرشفة (باستثناء الفقيدتين الغاليتين).

قد تستغرب لو أقول لك إنه لا يمر أسبوع واحد، وربما أقل من ذلك، دون أن تعود لي ذكرياتهما المأتمية!…

ربما لن أجد القصيدة الأولى إطلاقًا، لكني أتذكر أني قرأتُ مرثيتها لأستاذٍ أديبٍ قديم (توفي قبل سنين)، أحبها كثيرًا واحتفظ بنسخة منها حينذاك في أرشيف منزله.

من ضمن مشاريعي المستقبلية الذهاب لمنزله، والطلب من أسرته مساعدتي على العثور على "مرثية القصيدة الضائعة". سأجد فيها حتمًا شيئًا من أطلال القصيدة الأولى أيضًا.

صلاح بوسريف  



صلاح بوسريف (شاعر وناقد/ المغرب):

فقدت مقالات وكتابات إعادة كتابتها مستحيلة

كل عمل يصدر، هو ما تبقى من حذف وتمزيق وتشطيب ومحو. لا وجود لمخطوطة نهائية، تأتي كاملة، ليس فيها هذا الحذف والتمزيق والمحو.

طبيعة الكتابة، وهي عكس الشفاهة تمامًا، تقتضي التريث والتراجع، بل المراجعة والتدقيق، وثمة من الكتاب من يستشير غيره فيما يكتبه، ويكون له دور في الحذف والإضافة، أو التشطيب، واقتراح أفكار أو صيغ وتعبيرات، غير ما كان في الكتاب.

شخصيًا، أكتب في دفاتر، أنتقيها بعناية خاصة، خصوصًا ما يكون ورقها جيدًا، ولا تحدث فيه تعثرات في الكتابة أو التشطيب، والحبر يسيل فيه، دون مضاعفات. الكتابة باليد، هي كتابة بالجسد، بالمشاعر والأحاسيس، وهي معاناة الحواس كاملة، وعملها في الكتاب، بكل ما فيه من قضايا وأفكار، ومن لغة وموسيقى وخيال، أو سؤال.

كل ما عندي من دفاتر، أعود لرقنها على الحاسوب الذي أكتب عليه دون أي مشكل، وفي عملية الرقن، تحدث مراجعات أخرى، ويصبح الكتاب المطبوع، غير المخطوط الورقي. حذف وخدوش وتشطيب هنا، وحذف وخدش وزيادات هناك، ما تفرضه الكتابة من تدقيق، ومن طبقات، قبل أن تستقر على طبقة واحدة.

أما ما يتعلق بضياع أعمال ما على الحاسوب، أو على غيره من الحوامل، شخصيًا، أحرص على استعمال ذاكرة خارجية، أربطها بالحاسوب لحفظ كل ما أكتبه، إلى جانب حوامل أخرى، ناهيك عن نوع الحاسوب الذي أعمل عليه، فهو حاسوب الكتابة والطباعة، من النوع الذي لا يخذل مستعمله إلا نادرًا.

ضاعت مني أشياء، هي ما علمتني أن أحمي نفسي من مثل هذه الحوادث المميتة، كون ما يضيع، لا يمكن استعادته، وهذا ما جعلني أن ألتجئ، عبر التجربة، إلى التحايل على هذه التقنيات الحديثة، لأتفادى مثل هذه الصدمات.

لم يحدث أن فقدت كتابًا ما، لكنني فقدت مقالات، وكتابات، اكتشفت أن إعادة كتابتها مستحيلة، فنحن نكتب الفكرة مرة واحدة، ولا يمكن أن نكتبها بنفس تفاصيلها، وبنفس لغتها، وبنفس بنائها، مرةً ثانية، بل نكتب شيئًا آخر، بطريقة، أو بأسلوب آخر.

لذلك، شرعت منذ مدة، أؤمن النص أو العمل على الورق، ثم أرقنه على الحاسوب، وفي حالة وقوع حادثة ما، أو عطل في حامل من الحوامل، يبقى الورق، الحامل الذي لا يضيع، ما لم يمسه ماء.

لا أتصور أن الكتابة على الحاسوب، ستقتل الكتابة بالحبر، أو هكذا أرى علاقتي بالكتابة، فالحبر، كما أتصوره، هو دمي يسيل على الورق، أو ما في هذا الدم من نبض، بغض النظر عن اللون. كما أتصور الكتابة على الورق، في علاقتها بالحبر، هي نفس علاقة الليل بالنهار، يتوالجان، كل منهما هو الآخر، لأنه يحفظه، ويقيه من الضياع والتلاشي، أو الامحاء.

لا أحتمل أن يضيع مني عمل ما، فهو شغل سنوات من العمل، وهو لحظة لن تحدث بنفس الظروف والسياقات التي أملت هذا العمل، وهي غير ما سيملي غيره لاحقًا. أما المحو والإثبات، فهما من صلب الكتابة، وكل عمل يبقى عندنا مدة من الزمن، عند العودة إليه، فنحن نعيد كتابته، بغير ما كتبناه به سابقًا، أو نستغني عنه، وهذا نوع آخر من ضياع الأصل، لا ننتبه إليه.

عبد الرزاق الربيعي  



عبد الرزاق الربيعي (شاعر وكاتب مسرحي عراقي/ عُمان):

اكتويت بمكر التكنولوجيا، لهذا أحفظ نصوصي بصيغ متعددة

يمكنني تفهّم أن يقوم شاعر بتعديل نص ورفع مقاطع ودمج جمل شعرية، فالنص ملك الشاعر، وما يكتبه الآن قد يجد صياغة أفضل له بعد ساعة أو يوم، لكن من الصعب عليّ تقبّل فكرة أن يقوم شاعر، مهما كانت مبرّراته، بإعدام نص كتبه، حذفًا، ورميه في سلّة المهملات!

فالنص، بعد ولادته، يصبح جزءًا من الكيان الشعري، لمنتجه، وحذفه وأد، يحيلنا إلى وأد البنات، الذي كان شائعًا، قبل الإسلام، فهو اعتداء على حياة تتشكّل، ومن الممكن وضعه جانبًا، كما أفعل دومًا، عندما لا أشعر أنني على قناعة كاملة بأن نصًّا ما سيشكّل لي إضافة، فأركنه جانبًا، ثم أعود إليه بعد أيام أو أسابيع أو شهور لأعيد النظر به، وأقترح حلولًا لمشكلة أراها به، أو أضع معالجة لانسداد شريان من شرايينه، وقد لا أجدها، فأركنه مجدّدًا، وهذا يحصل كثيرًا معي، وقد حصل معي أن عدت لنصوص كتبتها قبل سنوات وأعدت كتابتها، كما جرى مع نصّي المسرحي الشعري "كأسك يا سقراط" الذي عدت إليه بعد ربع قرن من كتابته ونشره وعرضه على المسارح لأعيد كتابته، وأنشر النسخة المعدّلة في المجلد الثالث من أعمالي الشعرية الصادرة ببيروت وبغداد- 2022، فخلال ربع قرن جرت تحت جسور التجربة مياه كثيرة، وما دمت منتج النص، لذا أجزت لنفسي إعادة كتابته، وتقديم قراءة جديدة له بوعي شعري جديد، مثلما يجيز المخرج لنفسه إسقاط وعيه ورؤيته على النص الذي ينوي الاشتغال عليه.

أما عن النصوص الورقية المفقودة، فهذه حدثت معي كثيرًا، في تنقلاتي بين بغداد، وعمّان، وصنعاء، ومسقط، وضاعت مسوّدات كثيرة، كنت قد أودعتها في أرشيفي ببغداد، قبل مغادرتها في 1994، وعبثت بها الظروف المناخية، وأسنان الأرضية، والرطوبة، وتقادم الزمن، وانتقالها من مكان إلى آخر، مع الأهل هناك، وتذكّرها يشكّل لي مصدر ألم، فالكلمات تبقى عزيزة مثل ورود قمت بغرسها في تربة روحك.

بالنسبة للملفات الإلكترونية، فقد حدثت معي في بداية التعاطي مع الأجهزة الإلكترونية (الجهاز الثابت، اللاب توب، الآي باد، الهاتف الذكي)، فاكتويت بمكر التكنولوجيا، الذي يحدث مع من لا يحتاط لها، لذا اعتدت أن أحتفظ بأكثر من نسخة من نصوص في (فلاشات) و(سيديات)، وزيادة في الاحتياط، أرسل لنفسي نسخًا منها عبر البريد الإلكتروني، والفقد الذي يحدث معي هو نسيان نص كتبته بين الملفات، وغالبًا ما أشعر بذلك الفقد حين أتذكر جملة شعرية منه، أو حدثًا مشابهًا، فأبحث عنه، حتى أجده، وقد لا أجده!

ريتا الحكيم  



ريتا الحكيم (شاعرة/ سورية):

نحذف لأن النص لا يشبهنا

الأخطاء غير المقصودة غالبًا ما تكون نتائجها كارثية، كأن تضيع منَّا كتاباتٌ اجتهدنا أن تكون ذات قيمة، بكبسة زر خاطئة يختفي ملفُّ لم نكن قد حفظناه.

ما أفقده في حوادث كهذه لا يمكن تعويضه أو إعادة كتابته بنفس الإحساس.. إنه الفقدان المعنوي لحالة شعورية جاءت في لحظة تجلٍّ لن تتكرَّر بنفس الزَّخم فيما إذا حاولت استحضاره من الذَّاكرة، ولن يكون بنفس الجودة والقيمة الأدبية؛ فأنا لا أبحث عن الفكرة بل تأتيني طواعيةً دون أن أسعى إلى جلبها قسرًا.

لم أكن أحفظ ما أكتبه ضمن ملفَّاتٍ والكثير من النصوص تاهت منِّي بسبب عدم التنظيم.. والبحث عنها كان مهمَّةً شاقَّةً بالنسبة لي وخاصَّةً بعد أن اعتزلت الكتابة على الورق بسبب الثورة الرقمية التي كانت وسيلةً أكثر سهولة للتَّدوين.. كانت سيفًا ذا حدَّين، وعدم معرفتي بالتقنيات في البدايات زادتِ الطِّين بلَّة..

أعتقد أنَّ الكثيرين قد تعرَّضوا لمثل هذا الأمر، وإعادة تدوير النصوص المفقودة من الذَّاكرة غير مجديةٍ ولا يُعوَّل عليها.

أما بالنسبة للنصوص التي نحذفها من اللابتوب أو نمزقها من دفاترنا؛ فالأمر مختلف والخسائر لا تكون فادحة أو مزعجة، إذ أن دوافعنا لهذا الإجراء تعود إلى عدم رضانا عمَّا كتبناه أو أنَّنا لا نجد روحنا مستقرة بين السطور؛ فيبدو النَّص دخيلًا على مشاعرنا.. نستبعده كي لا نضيع في زحمة فوضاه.

ما دوَّنته على الورق في عمر مبكِّر كانت هلوسات مراهقةٍ أو ما يشبه المذكَّرات احتفظت بها ليس لقيمتها ولكن لاستعادة لحظاتٍ من زمن مضى خاصَّةً أن الظروف الحياتية اليوم تغيَّرت لأسبابٍ عديدة منها داخلية من حروبٍ وانتفاضاتٍ.. وخارجيَّة تجعل الإنسان زاهدًا في كلِّ شيءٍ.

أوراقٌ كثيرةٌ مكدَّسةٌ في أحد الأدراج كانت عبئًا في مثل هذه الظروف.. كنت أحتفظ بها ولكن شاهدتُ في إحدى الأمسيات برنامجًا عمَّا نطلق عليه اسم "الوسواس القهري" وله عدَّة أشكال واحتفاظي بتلك الأوراق كان واحدًا منها - غير صالحة للنشر وموجودة كتهمةٍ مخبأةٍ أرتديها حين أشاء- حينها قرَّرت التخلُّص منها لتخفيف وزن الذاكرة التي باتت تنوء بثقل محتوياتها.

منذ أعوام مضت وفي عمر صغير كانت لي محاولة في كتابة رواية لم أنهِها، وتركتها مع رفيقاتها من تلك الأوراق تنتظر أن أمسح عنها غبار الانتظار.. حين عدت إليها ذات ضجرٍ كنت أقرأ السطور وأهزأ من سذاجة ما كتبت وأضحك، واقتنعت أن النضج الفكريَّ والخبرة لن تبثَّ الحياة في نصوصٍ هشَّةً؛ فما كان منِّي إلا أن أضرمت فيها نار الإهمال وأصبحت مزقًا مصيرها سلَّة المهملات..

لست نادمةً على ذلك لأنَّ ما قمت به كان بمحض إرادتي وقناعتي ولإيماني بأنَّني قادرة على تقديم الأفضل وكل هذا حدث قبل أن تختمر الأفكار في مخيِّلتي وقبل أن أخوض تجربة النشر الورقي.

السؤال المهم في هذا الاستطلاع هو لماذا نحذف؟

والرَّد عليه ليس فقط عدم رضانا وإنَّما لعدم تمكنِّنا من مواكبة ما يحدث من حولنا من حيث أنَّ هذه النصوص لا تضع الحالة المزرية التي تعيشها معظم البلدان العربية على مشرحة القارئ الواعي والتي تُلزم الكاتب أن يكون له الدَّور الفاعل في نقل ما يحدث بطريقةٍ أو بأخرى وهو لا يملك إلا القلم.. السلاح الوحيد الذي لا يجب أن يتخلَّى عنه ليصوِّر المستجدات، تداعيات الحروب ومشاهدها القاسية والمجاعات.. الحذف هنا هو السعي إلى خلقٍ إبداعيٍّ ليس مُستهلكًا أو مطروقًا.. الحذف هنا هو الانخراط في معاناة المجتمع وما يطرأ عليه من تبدُّلات في ظلِّ ظروفٍ كهذه.. نحذف لعدم نجاحنا في التماهي مع النص بعد الانتهاء منه.. نحذف لأن النص لا يشبهنا ولا يعكس أفكارنا الحقيقية.. نحذف لأن النص يبدو غريبًا ولا يمتُّ لمبادئنا واهتماماتنا بصلةٍ.

سعد الدين شاهين  



سعد الدين شاهين (شاعر فلسطيني/ الأردن):

الحذف غالبًا لصالح جماليات العمل الإبداعي

اللغة العربية من أجمل لغات الأرض وبها من الإغراء ما يسلب قلم الكتاب والأدباء ليسهبوا في إبداعاتهم حد الفيضان اللغوي قبل أن يصلوا الى قفلة أعمالهم أو هدفهم الأخير. وكثيرًا ما تتسم هذه الإسهابات بكونها فائضًا لغويًا قد تحمل سمات الجمال ولكنها لو حذفت من المتن لما أثرت على المعنى ولا أنقصت منه وغالبًا ما يكون التخلص منها لصالح جماليات العمل الإبداعي.

شخصيًا لا أعتبر نفسي استثناءً بل أحيانًا ما أجد نفسي منقادًا للغة وللجمل العنقودية تسحبني إلى غوايتها التي لو فككتها عن بعضها وألقيت بالفائض خارجًا لما تأثر النص.

وهذا ما اكتسبته خلال تجربتي الإبداعية الطويلة وما زلت أذكر وأتعلم من عبارة أفضى إليّ بها الشاعر العربي الكبير محمد الماغوط، رحمه الله، وقد صادقته فترة عمله مديرًا للقسم الثقافي في جريدة الخليج أواخر سبعينيات القرن الماضي حين بحت له بحزني على ديوان شعر كنت قد أحرقته قبل طباعته ولم يكن عهد الكمبيوتر لحفظه موجودًا آنذاك، فقد أحرقته بعد حصول أحداث سياسية وقتها وخوفًا من المساءلات.. إذ قال لي بالحرف: "يا أخي اللغة متوفرة وأنت في البداية والكتابة كالعشب الأخضر على سطح الأرض كلما جززته وشذبته كلما ازداد بهاءً واخضرارًا". هذه العبارة علمتني المراجعة أولًا ثم قص الفائض ورميه وعدم الالتفات له مرةً ثانية، وتبقى اللغة طيعة في يد كاتبها مع أنه ينصاع لغوايتها كثيرًا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.