}

لكننا لم نكتب بعد عن الحرب!

مها حسن 13 فبراير 2022
آراء لكننا لم نكتب بعد عن الحرب!
صدرت عشرات الروايات السورية عن الحرب

لا تكتبوا عن الحرب!

في ملتقى للرواية العربية شاركت فيه في دولة عربية، وقبل أن يحين موعد ندوتي، مع الروائيين، العراقي علي بدر، والمصري محمود الورداني، وفي الاستراحة، سأل أحدهم: ما هي الندوة التالية؟ فأجاب أحد الروائيين، وبشيء من الاستياء، من دون أن ينتبه إلى أنني سأشارك في الندوة: سيتحدثون عن الحرب، أف، مللنا!
اعتذرتُ في بداية مداخلتي عن الضيق الذي نسببه نحن الكتّاب الذين نكتب عن الحرب، هذا الموضوع غير اللطيف وغير المحبب، ولكن على العالم أن يعتذر لنا نحن الكتاب الذين انخرطنا رغمًا عنا في هذه الكتابة، لأننا لسنا مستمتعين حقيقة في ممارسة كتابة الحرب، كما عليه أيضًا أن يعتذر لشعوبنا، عن الحرب التي يموت شعبنا فيها، وأصبح اليوم، لا ناقة له فيها، ولا جمل.
في سياق آخر، رفض أحد الناشرين، وهو يعرفني جيدًا، روايتي التي تتحدث عن الحرب، وقال لي: لقد سئم العالم من روايات الحرب!
اندهشت من كلامه، لأن الحرب لا تزال قائمة في سورية، ولأن الكثير لم يُكتب بعد، ولأنه، وحتى اليوم، لا تزال الروايات تُكتب عن الحروب العالمية، التي انتهت منذ سنوات طويلة جدًا...
شخصيًا، أعرف كثيرًا من الأمثلة عن الكتاب السوريين الذين يؤجلون مشاريعهم الروائية، منتظرين صفاء الصورة، بعد انتهاء الحرب. ومع هذا، فإن العالم لا يريدنا أن نكتب عن الحرب.. كأنه يريدنا فقط أن نعيش هذه الحرب، ومن الأفضل أن نعيشها بصمت، مخافة إزعاجه وهزّ أمنه.


حين يكتبنا الآخرون

علم الثورة السورية خلال مسيرة في روما أحيت الذكرى الثالثة للثورة (15/ 3/ 2014/ Getty)


هذه سينما، كلا هذه ليست سينما.. كنت أردد أمام نفسي، وأنا أتفرج على مسلسل "أرض محرمة"، الذي سبق لمحطة آرت الفرنسية عرضه، والذي تجري أحداثه في سورية.



لم أهتم بالمسلسل حين تم عرضه قبل عام تقريبًا، فأنا لا أحتاج لمعرفة ما يحدث في سورية، عبر الآخرين. في العمق، لم تكن لدي ثقة في الصورة التي يقدمها (الآخر) عن بلدي، ولطالما استفزتني كتب الغربيين وأفلامهم عن الحرب في سورية، من زواياهم الخاصة، القائمة على الانتقائية الدقيقة، لشيطنة الفكرة التي يبغون التركيز عليها، أو لتأليهها..
لكن تكرار اسم المسلسل من قبل أصحابي الفرنسيين وهم يشيدون به، دفعتني لمشاهدته، حتى إن صديقة قابلتها لأول مرة في مناسبة عائلية شهقت وهي تحدثني عن المسلسل، الذي عرّفها لأول مرة، عمّا يحدث في سورية، بعيدًا عن نشرات الأخبار الحمقاء، التي لا يفهم أحدنا منها ما يحدث، وفق وصف السيدة الفرنسية، وقالت لي: لا لا.. لا يمكنك تفويت هذا!
قلت لنفسي: إذن، عليّ مشاهدة هذا العمل.. وبدأت.
لم أتخيل حجم التوتر الذي سأتعرض له، أثناء مشاهدة الحلقات، وبعد الانتهاء من المشاهدة، كأنني أعيش في سورية، ثم أعود إلى فرنسا، ثم أرجع مجددًا، مع شخصيات المسلسل وأحداثه، للعيش في سورية..
منذ الحلقة الأولى، حين وصل أنطوان هابيرت، المهندس المعماري الفرنسي، عبر المخيمات الواقعة على الحدود السورية التركية، إلى الأرض السورية، انتابني احساسان معًا: الخوف والحسد. كان قلبي يهبط من الخوف، وأنا أتتبع أنطوان، متوقعة مصيبة ستحدث له، وأحسده في الوقت نفسه، لأنه يتجول بين السوريين ويراهم: كان السوريون داخل الفيلم أشخاصًا حقيقيين، فالتصوير داخل مخيم اللاجئين، وليس مجرد ديكورات...
وكما توقعت، حدثت المصيبة، حين تبين أن الرجل الذي وثق به أنطوان ليُدخله إلى سورية بأمان كان قد عقد صفقة سرية مع عناصر من جماعة الخلافة الإسلامية، مقابل مبلغ من المال، ليسلّمهم هذا الفرنسي..
لكن الأمر لم يتم.. حين وصلت عناصر من قوات حماية المرأة الكردية، وقُتل المهرّب وعناصر "داعش"، وتم أسرّ الفرنسي، لتبدأ مغامرته الخطيرة داخل الأرض السورية، ويضطر هو ذاته، لحمل السلاح، والقتل..
في المسلسل، هنالك تواجد كبير للأجانب: فرنسيون، بريطانيون، بلجيكيون... وكذلك تواجد متعدد لجهات استخباراتية عالمية..
هذه سينما، كلا هذه ليست سينما.. كان عقلي يتقلّب في التحليل.. فهذا تمثيل من دون شك، لكن الحكايات والأحداث والأمكنة حقيقية بشدة، إلى درجة يكاد أحدنا، حالتي مثلًا، يؤمن أن المسلسل وثائقي، وليس تخييلي، وأن هؤلاء الممثلين هم شخصيات حقيقية، لولا أنني بحثت عنهم في الإنترنت، للتعرف على أسمائهم، وتاريخهم الفني، لأتأكد من أنهم سبق لهم العمل في السينما، وأنهم حقًّا، يمثّلون.
السؤال الذي كان يزعجني مجددًا، لماذا هم؟ لماذا يُرحب بكتابة الأجانب وأفلامهم ووجهات نظرهم في قصتنا، ونُؤثّم نحن السوريين، حين نكتب عن الحرب، التي تجري على أرضنا؟
قبل هذا، تم الاحتفاء في فرنسا بأفلام جرى تصويرها في سورية أثناء الحرب، وكان الإعلام الفرنسي يتابع بشغف تلك الأعمال. وربما هي الحال، في بلاد أخرى، لا أعرف عنها، لأنني أعيش في فرنسا.
السؤال ذاته يتمدد في داخلي: لماذا نحبّ ونقبل أن يكتب الغريب عن حكايتنا، علمًا أننا نعرفها أكثر منه؟
إن مشاهدة هذا المسلسل تجعل أحدنا، السوري خاصة، يؤمن أن هذه الحرب، كما المسلسل تمامًا، هي من صناعة الآخر.. إنها حرب بين أطراف عديدة، ليست سورية، داخل سورية، يتفرج عليها السوري، ويحياها، ويموت فيها...


أين مكاننا، نحن الكتاب السوريين، في هذه الحرب؟
غاضبة، أُخرج رأسي من الشاشة، وأصغي إلى حوارات السوريين في مواقع التواصل، عن الأحداث الأخيرة في سورية.. تختلط الأحداث في داخلي، بين ما يحدث فعلًا، وبين ما يحدث سينمائيًا، أو تخييليًا. أبتسم بألم في سري، وأنا أفكر وأشكك: حتى الأحداث على الأرض، من يضمن لنا أنها ليست فبركات الجهات الكبرى، التي تفرض علينا هذه الحرب، وتقدم لنا المشاهد منتقاة: طائرة تحلّق على الحدود السورية التركية، إنزال جوي، قصف بيت مؤلف من ثلاثة طوابق، مقتل شخصية إرهابية مطلوبة عالميًا.... هذا يشبه كثيرًا ما حدث داخل المسلسل!
يقول لي صديق أحدّثه عن اختلاط السرديات في رأسي، وصعوبة فصل المفبرك عن الحقيقي: على الكاتب أن ينأى بنفسه في الحرب.. عليكِ تأمل المشهد عن بُعد، ووضع عواطفك ومشاعرك جانبًا.. دورك ككاتبة هو الفهم، وليس الانخراط والوقوف مع طرف دون غيره.
مع أنني لا أتبنى كثيرًا مقولات غرامشي حول المثقف العضوي، وأنأى بنفسي عن التورط في تجارب الآخرين، باحثة عن إيماني الشخصي وقناعاتي، حيث تجربتي الزمانية والمكانية، تختلف عما مرّ به أنطونيو غرامشي، إلا أنني، كروائية، أجدني منقادة قليلًا خلف سيرفانتس، فرغم اختلاف الزمان والمكان، ثمة ثوابت تنطبق على كثير من البشر، وبينهم أنا: حلم التدخل في تحقيق العدالة، على طريقة دون كيشوت.




ماذا أستطيع أن أفعل، إذن، قبالة هذه الحرب التي انحرفت عن البذرة التي انطلقت منها أحلام السوريين، وتحولت إلى أرض مصالح للآخرين؟ الجواب بسيط وصعب معًا: الكتابة.
مؤمنة في أعماقي، ربما حالمة وواهمة على طريقة دون كيشوت، بأن المصدر الوحيد للحفاظ على العالم من التشيؤ، التنميط، التفاهة، الوحشية... هو الفن والأدب. إن الفنانين والأدباء والمفكرين وحدهم من يحمون العالم عبر احتجاجهم وشجاعتهم برفضهم الخضوع، وقبول ما يتم تصديره للعالم على أنه الحقيقة.


(فرنسا).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.