}

"المقارنية ونظرية الأدب".. في تفكيك الرؤى المتمركزة أوروبيًا

إدريس الخضراوي إدريس الخضراوي 14 أبريل 2022

 

يعدّ الأدب المقارن، وهو بحسب تعريف هنري ريماك "دراسة الأدب خارج حدود بلد معين ودراسة العلاقات بين الأدب من جهة ومجالات أخرى من المعرفة والاعتقاد مثل الفنون (الجميلة)، والفلسفة، والتاريخ، والعلوم الاجتماعية، والعلوم، والدين، وغير ذلك من جهة أخرى، وباختصار، هو مقارنة أدب بأدب آخر أو آداب أخرى، ومقارنة الأدب بمجالات أخرى من التعبير الإنساني[1]"، من المباحث المهمة في النظرية الأدبية الحديثة. فمنذ نشأته في القرن التاسع عشر، احتلّ الأدب المقارن موقعًا رئيسًا في الحقل الأدبي والثقافي بحكم المنافذ التي فتحتها المقارنية إلى مسارات جديدة لفهم الآداب المختلفة. ورغم الانتقادات التي تعرّض لها منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى حدّ الإعلان عن موته، كما فعل رينيه ويليك، أو القول بموت رؤية معينة للأدب المقارن، كما صرّحت بذلك غاياتاري سبيفاك، فإنه، مع ذلك، ما فتئ يجدّد أدواته وافتراضاته النقدية والمنهجية اعتمادًا على جهود نقاد وباحثين يسعون بلا كلل إلى مجاوزة حدود النظريتين الفرنسية والأميركية، والانتهال من خلفيات فكرية وفلسفية متعددة لتلبية الحاجة الماسّة إلى معرفة غير متحيّزة وموسعة حول الأدب. وما يسجل على هذا المبحث في السياق العربي، شأنه في ذلك شأن النقد الأدبي المعاصر، هو الصعوبات المتولدة عن المثاقفة التي ما فتئ يواجهها، رغم الجهود الكثيرة التي يبذلها الباحثون والدارسون على امتداد العالم العربي. وترتدّ بعض هذه الصعوبات إلى التركيز على النظريتين الفرنسية والأميركية، في مقابل اهتمام أقل بالنظرية السلافية رغم الأهمية اللافتة التي تنطوي عليها جهود المشتغلين بها. وهذا ما انتبه إليه الباحث المغربي، العربي القاسي، حيث اهتم بنقل عمل أساس لأحد أبرز نقاد هذه المدرسة وهو الناقد الروماني أدريان مارينو Adrian Marino الذي يشكّل الاهتمام بتحليل الأدب المقارن والأدب العالمي الشغل الأساس الذي ميز مساره الأكاديمي كما تشهد على ذلك الأعمال العديدة التي ألفها، والمقالات التي كتبها.

وفي هذا السياق، يُشكّلُ كتابه "المقارنية ونظرية الأدب" Comparatisme et théorie de La littérature، العمل الذي اختاره هذا الباحث موضوعًا لأطروحته ترجمة وتقديمًا ودراسة[2]. ولعل ما يعزز قيمة هذا الاختيار وجدّته، فضلًا عن فائدته بالنسبة للدّرس النقدي العربي وهو يكتشف مفكّرًا آخر من شأن طروحاته المتجددة أن تعدّل مجال الأفكار السائدة عن الأدب المقارن، هو أنّ الأعمال الأساسية لمارينو ورغم المكانة التي يتمتع بها هذا الباحث في حقلي الأدب المقارن والأدب العالمي، لا تتوفر في العربية عدا مؤلفه "نقد الأفكار الأدبية" الذي ترجمه الناقد المغربي محمد الرامي، ونشر في القاهرة في المشروع القومي للترجمة سنة 2008، وهو في الأصل، أيضًا، أطروحة لنيل الدكتوراه أنجزها الباحث تحت إشراف المقارني المغربي الدكتور سعيد علوش، مما يؤكّد على أهمية هذا التقليد الذي ترسّخ في الجامعة المغربية والمتمثل، بحسب محمد الرامي، في "إدخال خطاب الترجمة الأدبية إلى مجال البحث الأكاديمي مع معالجة بعض المشكلات التي تطرحها الترجمة، إضافة إلى ردّ الاعتبار إلى دور هذا الخطاب الذي لم يحفل به تاريخ الأفكار الأدبية، حيث لا نجد ولو إشارة واحدة إليه في أدبيات جلّ مؤرخي الأدب، لأنه يقع باستمرار خارج تصانيفهم للأغراض والأنواع والحقب"[3].

من مؤلفات أدريان مارينو  



المدرسة السلافية

ينتمي الناقد الروماني أدريان مارينو، مؤّلف الكتاب موضوع الترجمة، إلى "المدرسة السلافية" التي تحتل مكانة بارزة في الأدب المقارن، وقد تمتعت بنفوذ كبيرٍ على المستوى العالمي منذ أواسط الخمسينيات حيث استطاعت اعتمادًا على نظرية الأدب المادية الجدلية والمادية التاريخية والنقدية أن توطّن أسس درس مقارن أصيل يختلف عن المدارس والتيارات المقارنية الأخرى كالمدرسة الفرنسية التي تستند إلى المنهج التاريخي الوضعي في الدراسة الأدبية، والمدرسة الأميركية التي تولدت من رحم التفاعل بين الأدب المقارن والنقد الجديد. وكما يقول الباحث في أطروحته "فأعلام هذه التجربة الأدبية المقارنة الرائدة أمثال فيسلوفسكي، وفيكتور مكسيموفيتش جيرمونسكي، ونيوبا كويفا، وايونيو أوريزين، وينا غيورغي، وهينريك ماركييفيتش، واستيفان زويتر، وروبرت فايمان، وفينغرا شرزيدر، وأدريان مارينو، وألكسندر إيما.. إلخ يقفون جميعًا على أرضية الفلسفة الماركسية... وعليه، فقد كان من الطبيعي عندهم، بناء على هذا التوجه الفلسفي الاجتماعي الذي نذر نفسه لمحاربة الفوارق الطبقية في المجتمعات البشرية، أن يقولوا بمساواة الثقافات والآداب ولا يستنكفوا عن مقارنة الآداب الصغرى المغمورة بالآداب الأوروبية العظيمة العريقة مقارنة الند للند" (الأطروحة، ص1).

يبسطُ أدريان مارينو في كتابه "المقارنية ونظرية الأدب" الصادر عن المطبوعات الجامعية الفرنسية (1988)، وهو امتداد لكتابه: "إتيامبل أو المقارنية المناضلة" (1982)، الأسس والمرتكزات التي تقوم عليها نظريته في الأدب المقارن، تلك النظرية التي تطمح لأن تكون "شعرية داخلية" ذات أبعاد كونية وشاملة، وتمثل في الوقت نفسه ليس فقط مجاوزة للمقارنية التقليدية التي تقصي الآداب الواقعة خارج المجال الأوروبي مسنودة بالتحصّن وراء الخصوصيات القومية والهويات المتمركزة التي يعتبرها الباحث كوام أنطوي أبياه Kwame Anthony Appiah هويات "زائفة" أو "كاذبة"، وإنما أيضًا مراجعة نقدية للأسس النظرية للأدب المقارن. وعلى هذا الأساس يمكن قراءة هذا المؤلّف بوصفه "بيانًا" قويًا، لا يشهد على أهمية الأدب المقارن وحسب، وإنما على أهمية المقارنية أيضًا بوصفها مقاربة نقدية أساسية وحاسمة في أي محاولة للتفكير بطريقة منهجية ونقدية.

ومن المعروف أنّ مارينو استفاد في تشييد هذه النظرية من جهود معلّمه روني إتيامبل والذي عرف بكونه من أشدّ المدافعين عن "المقارنية المناضلة" Comparatisme militante التي تشدد على الانفتاح المزدوج الذي يؤدي إلى استكشاف التطابق بين أدب بلدان الشرق وأدب بلدان الغرب. يمكن فهم المقارنية المناضلة من منظور "المقاومة الثقافية" الذي نظّر له المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابيه "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية"، وأيضًا من تبصراته العميقة لعمل كل من فوكو وإريك يورباخ اللذين رأى فيهما "فهمًا عالميًا وتعاطفيًا للثقافة"، ومن ثم فهو يصرّ على البعد الأساس للمقارنية الذي يتمثل في المضي قدمًا باتجاه لغة وأدب آخر بمزيج من الانفصال والكرم، القرب والبعد[4]. ومن إيجابيات هذا الموقف الذي يفكّر انطلاقًا منه عديد من النقاد الذين استفادوا من منجزه من طراز ميشيل دوش، وسوزان مارشان، وهومي بابا، وغاياتاري سبيفاك، وأشيل مبيمبي، وإيف كلافارون، وريبيكا والكوفيش وآخرين، هو النظر إلى ثقافة المرء من مسافة بعيدة.  

والحقّ أن مارينو في هذا المؤلف الذي يمكن وصفه بأنه عمل راهن، لا لأن ما يثير الاهتمام فيه هو الإجابات التي قدّمها عن الأسئلة النظرية التي يطرحها المهتمون بالأدب المقارن، وإنما أيضًا بسبب القضايا الموضوعية التي أثارها وخاصّة ما يتعلّق بالحاجة إلى نظرة متكافئة للثقافات تتحرر من المركزية الأوروبية التي تجرّد الآداب الصغرى من القيمة الأدبية، يستدعي تاريخ النظرية الأدبية منذ مطلع الألفية الثانية مع التيارات الرئيسية التي غيرت مسار الدراسات الأدبية كالشكلانية الروسية والبنيوية ونظريات ما بعد البنيوية التي جعلت من فكر الاختلاف نقطة الارتكاز التي تقوم عليها جهودها الهادفة إلى التفكير في مجموعة من الأسئلة، بما في ذلك سؤال ما الأدب. وفي هذا السياق يُمكنُ التفكير بأعمال كلّ من دريدا وجيل دولوز ورولان بارت وفيليب سولرس وآخرين.

لا شكّ في أن اختيار الباحث العربي القاسي لهذا الموضوع ينطوي على أهمية خاصّة، نظرًا للاهتمام المتزايد بالأدب المقارن منذ مطلع الألفية الثالثة بعد أن هبّت على ميدانه رياح الدراسات الثقافية والدراسات الثقافية المقارنة ودراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات المناطق ودراسات العولمة، مما فرض على المشتغلين به- وهم بحسب آن توميش[5] لا ينتمون فقط إلى المناطق المرتبطة بأصول الأدب المقارن (أوروبا، والغرب) بل ينحدرون من جغرافيات أخرى كالهند والصين- العمل على مراجعة الافتراضات السّابقة التي من فرط استحكام النزعة المركزية الأوروبية بها، تجاهل الأدب المقارن كثيرًا من الثقافات والآداب في لغات مختلفة، وظلت ممارسته بمنأى عن الأدب العالمي بالمعنى الإنساني. وكتاب مارينو الذي وصفه النقاد بأنه عمل مستفز، بل وربما بيان من أجل نهج أكثر حرية، وأكثر انفتاحًا، وأكثر إيمانًا بالمقارنية وبالأدب في حدّ ذاته، يَضعُ الأسس التي يُمكنُ أن تقف عليها المقارنية الجديدة، خاصة فيما يتعلق بضرورة أن لا يظل الأدب المقارن مشدودًا إلى المركزية الأوروبية، وأن يبدي اهتمامًا كاملًا بالآداب الشرقية وآداب العالم الثالث، وأيضًا فيما يخص الحاجة الماسة لأن يتحول الأدب المقارن إلى شعرية مقارنية.

لقد صار هدف الباحثين المقارنين هو بناء نظرية شمولية تكون قادرة على البرهنة على الظواهر العامة، وبهذا الشكل ينهض الأدب المقارن على أسس جديدة بحيث لا يكون موضوعه آداب العالم بأكملها وحسب، بل أيضًا أن ينطلق من الوعي بكون القيمة الأدبية ليست حكرًا على مجموعة محددة من اللغات، وإنما هي كامنة في مختلف اللغات، وأن المهمة الرئيسية للمقارنية هي تلمّس القيمة الأدبية والكشف عنها في الآداب المختلفة شرقيها وغربيها. إن القيام بهذا العمل، يتطلب إعطاء المقارنة أبعادها الكاملة كما يشدّد على هذه المسألة الباحث الفرنسي وليام ماركس من حيث المكان بتوسيع مساحته الجغرافية، وأيضًا من حيث الزمان بمحض الاهتمام للثقافات المختلفة، بما في ذلك الثقافات القديمة[6].

أشار الباحث الأميركي روجر ألن إلى أن نجيب محفوظ عندما نال جائزة نوبل للآداب سنة 1988 وصفه نقاد غربيون بأنه يمثل بالنسبة للقاهرة ما يمثله شارل ديكنز لإنكلترا وبلزاك لفرنسا 



نعتقد أن المفهوم عن الأدب المقارن المؤسّس على رؤية متمركزة أوروبيًا بات يمثل تحديًا حقيقيًا بالنسبة لأي محاولة تتغيا فهم الآداب، سواء على مستوى تنوعها وتعددها، أو على مستوى الثوابت المشتركة. ولا شكّ في أن هذا التحدّي يزداد تعقيدًا إذا علمنا أن المواقع التي نشأ في حضنها الأدب المقارن، أي أوروبا والغرب، هي التي يواجه فيها من المشكلات ما يهدّد وجوده، خاصّة في هذا العصر الذي يزداد صدره ضيقًا بالعلوم الإنسانية، وبالآداب على وجه التحديد. يمكن ها هنا أن نقدم مثالًا يبرز المحدودية والاختزال اللذين يتسم بهما التفكير في الآداب من منظور التـأثير والتأثر. نستمد المثال من الرواية العربية حيث يمثل نجيب محفوظ بوصفه روائيًا عالميًا حالة خاصّة. ولقد أشار الباحث الأميركي روجر ألن في مقالة بعنوان: "المعركة في السوق: الرواية العربية في سياق عالمي"، إلى أن نجيب محفوظ عندما نال جائزة نوبل للآداب سنة 1988 وصفه نقاد غربيون بأنه يمثل بالنسبة للقاهرة ما يمثله شارل ديكنز لإنكلترا وبلزاك لفرنسا، بمعنى أنّ أدب محفوظ يتمثل بشكل أعمق، من وجهة نظر غربية، تقاليد الكتابة الروائية الواقعية التي تندرج ضمنها أعمال هذين الكاتبين، أي ديكنز وبلزاك. والأطروحة نفسها يكررها ناقد بريطاني هو جون أبديك عندما يقارن بين نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف. أعمال نجيب محفوظ، حسب أبدايك، استطاعت أن تعبر الحدود القومية إلى القارئ الغربي لأنه يكتب ضمن جماليات الرواية الواقعية، وهو الأمر الذي لا ينطبق على عبد الرحمن منيف لأن رواياته يغلب عليها الطابع المحلي. في هذا السياق يتساءل روجر ألن وهو من مترجمي محفوظ إلى الإنكليزية: هل فوز صاحب "أولاد حارتنا" يعود بالأساس إلى كونه يكتب على طريقة بلزاك وديكنز؟ أليس في هذا الوصف اختزالًا لتجربة الأدب العربي المعاصر؟ ألا يعني هذا أن الطريق نحو العالمية لا يمكن قطعه، إلا بالكتابة ضمن تقاليد الرواية كما تتحقق في الرواية الغربية؟

هكذا تُفرِغُ نظرية التأثير والتأثر تتويج محفوظ من القيمة، لتجعل منه كاتبًا مدينًا للغرب. وهذه الرؤية التي ترسخها المؤسسة الأدبية الغربية هي التي يجري الركون إليها في تقييم الآداب الصغرى.

يمكن للمتتبع لشؤون الأدب المقارن أن يتبين الجهد الذي يبذل لتفكيك الرؤى المتمركزة. فإذا كان أدريان مارينو يؤكد أن مفهوم الأدب العالمي كان محصورًا جدًا في الأدب الغربي والنظرية الأدبية الغربية، ويجب أن ندمج المنظورات الشرقية والعربية والأفريقية في المفهوم أيضًا، فإن باحثين معاصرين يستحكم بهم الهاجس ذاته الذي يرمي إلى تفكيك الهويات المنغلقة التي تتحصّن وراء النماذج الموروثة عن الأزمنة الغابرة والأفكار المؤسسة، سعيًا لفهم الهويات من منظور يتعين فيه التراث الثقافي بوصفه متاحًا للجميع. ومن الأمثلة التي يمكن الإشارة إليها جهود الباحث كوام أنطوني أبياه في كتابه "إعادة التفكير في الهويات"[7] حيث يتحدى فكرة الحضارة أو الثقافة الغربية أو المسيحية أو حتى الأوروبية. فمن منظوره تعدّ هذه التسمية مجرد تمثيلات أيديولوجية. سواء تمت معارضة الغرب بالشرق أو بالإسلام، فإن أشكال التعيين التي تترتب على هذه التسميات ستؤدي دائمًا إلى العنف والصدام. ولتعزيز هذا المنظور يشير أبياه إلى الأندلس العربية أو الإسلامية، حيث يشترك المسلمون والمسيحيون واليهود في الحياة الفكرية والثقافية نفسها. وعليه، يستنتج أنه من غير الشرعي للأوروبيين والغربيين المطالبة بالحصرية للتراث اليوناني الروماني، الذي يزعمون أنه يشكل هويتهم الخاصة، لأن العرب لعبوا دورًا حاسمًا في انتقاله في العصور الوسطى. وما يشدد عليه أنطوني أبياه سبق أن ألمح إليه الباحث اللبناني جورج زيناتي عندما كتب: "ونحن نعرف أن بيت الحكمة كان الجسر الذي مرّت عليه الثقافة اليونانية وكل علومها، لتنطلق من بعدها حركة نهضة واسعة امتدت إلى كلّ أرجاء العالم الإسلامي. ويمكن أن نقول إن اللغة العربية أصبحت اللغة العالمية شبه الوحيدة للثقافة والعلوم، وأنه خلال خمسة قرون على الأقل، أي منذ أول فيلسوف عربي (الكندي)، وإلى ما بعد وفاة ابن رشد، معظم ما كان يصنّف في كلّ العلوم، كان نتاجًا عربيًا، حتى في الفنون"[8]. وفي السياق هذا أيضًا يقول المقارني وليام ماركس: "لدينا نزعة كبيرة جدًا للشعور بأننا نشكّلُ مركز العالم، كما أننا نَميلُ إلى الاعتقاد بأننا في قلب التاريخ. ولكن عندما يكون شيء ما غريبًا جدًا، فإننا لا نفهمه وحسب، بل إننا في كثير من الأحيان لا نراه. في بعض الأحيان أيضًا، تكون هذه الغيرية مضمرة، كامنة، فنستوعب الموضوع دون بذل الجهد للنظر إلى ما يخفيه من أصالة وغموض. الغيرية ليست معطاة على الفور. إنها تتطلب بذل الجهد. ولتحقيق ذلك علينا أن نجد نقاط التقاطع، والموضوعات الراهنة التي تجعل من الممكن فهم هذه الأعمال الأقل شهرة. هذا هو الأدب المقارن: إظهار أن مفهومنا للأدب ليس هو المفهوم الوحيد الموجود، وفهم أن أمامنا الكثير لنتعلمه من المواجهة مع نصوص أخرى، وثقافات أخرى. ينبغي أن ننزع قناع الألفة عن ذواتنا".   

يتحدى الباحث كوام أنطوني أبياه في كتابه "إعادة التفكير في الهويات" فكرة الحضارة أو الثقافة الغربية أو المسيحية أو حتى الأوروبية، فمن منظوره تعدّ هذه التسمية مجرد تمثيلات أيديولوجية



رغم المقاومة التي يتعرّض لها هذا التوجّه الذي يتميز بالأبعاد الإنسانية الكونية المؤسسة على الحوار والتبادل والتفاعل بين الثقافات، فإنّ رسوخه في الدّرس الأكاديمي ما فتئ يتعزّز بالجهود التي تبذلها مجموعة من الباحثين والكتاب. ويكفي أن نحيل ها هنا على البيان الذي أصدره 44 كاتبًا فرانكوفونيًا سنة 2007 بعنوان "أدب- عالم"، وهو بيان يستفيد مما دعاه فرانسوا ليوني منذ 2003 "الأفق عبر الوطني للدراسات الفرنسية"، ويستثمر متنًا واسعًا من الدراسات الفرنسية التي تتحرر من مسألة الحدود الوطنية، وتعترف بالأبعاد عبر الثقافية للفرانكفونية كما أنها تقطع مع الارتهان للمتروبول السابق، حتى تتبدّى لنا أكثر من علامة تدلّ على المسار المختلف الذي يشقه الأدب المقارن لدرس الآداب القومية والتفكير فيها ضمن مفهوم الأدب العالمي الذي يوحد بين الشرق والغرب.

إن وضع كتاب "المقارنية ونظرية الأدب" في السياق الخاصّ بنظرية الأدب الغربية خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، خاصّة في فرنسا، التي كانت تودّع في هذه المرحلة سنوات الفورة البنيوية إلى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، من شأنه أن يمكّن من التعرّف على الصعوبات التي واجهها الخطاب النظري الذي يستمدّ خلفيته من فكر الاختلاف. لا شكّ في أن افتراضات أدريان مارينو التي تمثل نقطة جوهرية في المناقشات، خاصّة في المجال الأنجلوفوني، حول ما بعد الكولونيالية والتعددية الثقافية، وأيضًا حول الأبعاد الثقافية للرهانات السياسية المعاصرة، كانت معروفة في فرنسا منذ النصف الثاني من القرن الماضي، إذا فكّرنا ها هنا في الأعمال التي شكّلت منطلقا للفكر ما بعد الكولونيالي، خاصّة أعمال سارتر وفانون وإيمي سيزير، التي كانت تنطوي على رؤية نقدية للمركزية الغربية، لكنّ النظر إليها في ضوء مآلات النظرية الفرنسية التي ظلّت مهملة في السياق المحلي قبل أن يتلقفها المثقفون الأميركيون، كلّ ذلك يدلل بقوة على الأهمية النظرية والنقدية التي يكتسيها مشروع أدريان مارينو، وهو مشروع يحمل صاحبه هاجس تجديد الأدب المقارن، وتحريره من أصفاد النزعة القومية.

[للبحث صلة]



هوامش:

[1] . سيزر دومينغيز، هاون سوسي، داريو فيلانويفا، تقديم الأدب المقارن، اتجاهات وتطبيقات جديدة، ترجمة فؤاد عبد المطلب، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 451، أغسطس 2017، ص35.
[2]. نوقشت هذه الأطروحة من قبل لجنة علمية تكونت من الأساتذة عبد النبي ذاكر وحسن الطالب مشرفين، وأحمد الأشهب ومحمد بازي وكاتب هذه المقالة أعضاء، بتاريخ 30-10-2021 بكلية الآداب، جامعة ابن زهر بأكادير، وقد تحصّل الباحث على الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع التنويه والتوصية بطبع الأطروحة.
[3] . من مقدمة محمد الرامي للترجمة التي أنجزها لكتاب نقد الأفكار الأدبية لأدريان مارينو والصادر عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة سنة 2008. لم يمهل الموت الباحث محمد الرامي، الذي رحل قبل أن يسعد بقيمة عمله الذي يضيف لبنة للدرس النقدي العربي، وقد نشر العمل باقتراح من الباحث المغربي الدكتور سعيد علوش الذي أشرف على رسالة الباحث.
[4] . Alexandre Geffen, L’idée de la littérature De l’art pour l’art aux écritures d’invention, Les essais, Editions Corti, Paris 2021, p.92.
[5] . Anne Tomiche, « Le comparatisme comme approche  critique », in TOMICHE
 Anne (dir.), Le Comparatisme comme approche critique, Tome 3, Objets, méthodes et pratiques comparatistes, Editions Classiques Garnier, Paris 2017, p.10.

[6] . La lecture comme expérience de l’altérité, Entretien avec William Marx, In Sciences Humaines, Hors-Série : Les Essentiels, juin/ Juillet, 2021, pp.91-95.
[7] . Kwame Anthony Appiah, Repenser l’identité ces mensonges qui unissent, Traduit de l’anglais par Nicolas Richard, Editions Grasset, Paris 2021.
[8] . واقع الترجمة العربية وأداؤها، حوار مع جورج زيناتي، مجلة العربية والترجمة، السنة الرابعة، العددان 7 و8، خريف 2011/ شتاء 2012، ص170-171.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.