}

رسالة في الثورة والطوفان

نبيل سليمان 15 أكتوبر 2023
آراء رسالة في الثورة والطوفان
مظاهرات تضامنية مع غزّة (Getty)
العزيز الطاهر لبيب: أخيرًا أدركتك الرواية، بعد أن لم يعد الرحيل إليها وقفًا على شاعر، أو فنان تشكيلي، أو ناقدة. وكما تعلم: إن لم يكن الرحيل، فهو الزواج من اثنتين، أو اثنين، أو أكثر: هي والشعر، أو هي والنقد والفكر...
أقبلتُ على روايتك لهفانًا، لأنني مشتاق لك. لم نلتقِ منذ سنوات: في بيروت (مقهى تاء مربوطة)، أم في طائرة ومطار...؟ ولا أخفيك أن العنوان أجفلني بقدر ما أثار فضولي: "في انتظار خبر إن". كما أجفلني المدخل الذي مسحتْ سخريته بالأرض عتاةَ المؤتمرات (السياسية، الفكرية...). لكن الرواية سرعان ما سبتني فيما أنت تكتب/ تحيا بيروت العقد الأول من هذا القرن، والذي تتوّج بالثورة التونسية التي طالما انتظرتها وكتبتَ وعملتَ من أجلها.
أكتب إليك عزيزي على إيقاع ما سمّته حماس "طوفان الأقصى"، وما سماه توماس فريدمان زلزال حماس. لذلك أرجو أن تعذرني لأنني سأتوقف عند ما جاء في روايتك عن الثورة، ثم سأصل بينه وبين طوفان/ زلزال الأقصى، وفي الآن نفسه، سيكون في ذلك كثير وهام يتصل بالثورة السورية/ الزلزال السوري 2011.
في الرواية أن ثورة تونس جاءت في لحظة غفلة من الزمن. وفيها من الحوار بين الراوي والأستاذ، ما يبدأ من بول فاليري: الثورة هي لحظة نهدٍ تعرى بين قميصين، ثم يتواصل بين المتحاورين وثالثتهما امرأة: الثورة الحقيقية ناهد، كما هي في الرسوم والتماثيل، واحتجاج المرأة: تركتم الثورة وتعلقتم في النهود.
من قول الراوي ـ أم قولك؟ ـ : ثورة تونس كلمة رقيقة في جملة ركيكة، إلى قول الراوي ـ أم قولك؟ ـ في لقاء الشاعر: بعد الثورة التحف كثيرون بعلم البلاد، والتحف آخرون بزي أفغاني، أو ما شابهه. وكذلك: لا ثورة من دون قطيعة. سوى أن الأسئلة ستلاقيك هنا ملاقاة الحراب، كلما اتصل الأمر بسورية وزلزالها وثورتها: عن أية قطيعةٍ تتحدث؟ تراها القطيعة مع النظام الحاكم، أم قطيعة أدونيس التي جعله فقهاءٌ بسببها خائنًا طائفيًا ونكرةً...؟ ولماذا تحكم روايتك بأن المرأة آخر معاقل الثورات، مقابل ذكورية الثورة التي زلزلت تونس؟
في هذا كله يا عزيزي، وفي الرواية مثله كثير، ما يحاسب عليه عندنا من نصّب نفسه قيّومًا على الثورة وعلى اللغة، محرمًا المجاز، فالمجاز بحسبانه ليس إلا هربًا من الأسماء الحسنى التي يطلقها أو يباركها.
يقول الشاعر في لقائكما في مقهى أفركا (أفريقيا) في شارع الحبيب بورقيبة: كل الثورات أكلت أولادها. الخوف أن تأكلهم باكرًا. ويقول: ثورات العرب تترصدها دائمًا ماضويتان: واحدة سياسية، والأخرى دينية، وفيهما خميرة انتكاستهما. وعندما يقول الشاعر إنه يتمنى للثورة التونسية أن تكون نقية، يقول الراوي ـ أم هو قولك؟ ـ لا وجود لثورة نقية. أقصى نقائها أن تكون بأدنى تكلفة. ويقول/ تقول: في الثورة يفرز المجتمع أنبل ما فيه، وكذلك أسوأ ما فيه. ولولا هذه الجدلية الصعبة لنجحت كل الثورات. ويقول/ تقول: الثورة صيرورة طويلة. خوفي أن نكون قمنا بثورة لا نعرف ما نفعل فيها.



يرى شاعرك أن الثورة في الأصل حب. ويكتب إهداءً على نسخة من كتاب له إلى قارئة: الثورة كالحب، لا يكفي أن نشعلها. يجب أن نعرف كيف نحافظ عليها. لك يا عزيزي أن تقارن بين هذا الشاعر في روايتك، ـ وقد عقّب الراوي/ عقّبتَ عليه: السلطة لا تتحمل الحب ـ وبين شاعر آخر في رواية أخرى، هو أداة مخابراتية في السعي من أجل ابتداع إله جديد لطائفة، ولهذا الحديث صلة في مقام آخر.

يا الطاهر العزيز:
انتهيت من قراءة روايتك في دبي ليل الجمعة. وفي صباح السبت زلزلت غزة زلزالها. زلزلت فلسطين زلزالها وأخرجت أثقالها. طوفان الأقصى هو، وهذا عز الدين القسام ابن مدينة جبلة، حيًّا يقاتل.
أنا، بمعنى ما، ابن مدينة جبلة. فبين البودي الجبلية ـ قريتي ـ وجبلة البحرية عشرون كيلومترًا. ومنذ ستينيات القرن الماضي، عندما بدأت وأهلي نقيم في جبلة، بالإضافة إلى البودي، كان عز الدين القسام يتراءى لي: فتى يسبح في البحر، لا بد أنه كان يسبح مثل أي جبلاوي، أو شابًا/ شيخًا يطير من الأزهر إلى جامع السلطان إبراهيم في جبلة إلى الحفة من ريف اللاذقية... ومن مدرسة إلى محاربة الاستعمار الفرنسي إلى... فلسطين: إلى حيفا، أو يعبد، أو جنين، أو جامع، أو معركة ضد الإنكليز... إلى بلدة الشيخ المهجرّة منذ 1948: هذا هو ضريح عز الدين القسام الذي حاول الإسرائيلي المتحضّر نبش قبره منذ سبع سنوات، ثم منذ سنة.

الطاهر لبيب 

وهذه كتائب عز الدين القسام، وهذا هو المخرج السوري هيثم حقي يخرج مسلسل عز الدين القسام عام 1981، وهذا هو الممثل السوري أسعد فضة يمثّل دور الشيخ، وأحمد دحبور يكتب أغاني المسلسل... أين أنت يا أحمد لتشهد طوفان غزة وزلزالها؟
الرحمة للصديق الراحل محمود ناجي سعيد القسام الذي عطرتْ صداقتَنا قرابتُه للقسّام الأكبر الشيخ عز الدين. والآن، إليك ما كتب طلعت إسماعيل في صحيفة "الشروق" المصرية يوم 9/10/2023: "وبعد خمسين عامًا على زلزال السادس من أكتوبر 1973، قال جنرال إسرائيلي آخر قبل طوفان السابع من أكتوبر بأيام قليلة: اذهبوا للعيد. لن تنشب عمليات كبيرة. وما أشبه الليلة بالبارحة".
في يوم زلزال السادس من أكتوبر، كتبت أسأل عما تبقى منه بعد خمسين عامًا؟ وأسأل: لماذا لم يكتب عنه رواية أي من كبار المبدعين المصريين يومئذٍ: نجيب محفوظ، أو يوسف إدريس، أو يحيى حقي، أو توفيق الحكيم أو...؟ وافترضت أنهم لم يكتبوا ربما لأن النصر سُرق، وأُجهض، ولذلك يا صديقي كتبت منذ عام 1977 الرواية التي ستبحر عكس تيار المدائح، وبسببها فُصلت من اتحاد الكتاب حتى عام 1983، ومُنعت الرواية في سورية حتى عام 1995: إنها "جرماتي أو ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب". ولكن ما قيمة هذا كله الآن، بينما غزة في بحران الإبادة، والياس خوري يجدد آيات محمود درويش: عابرون في كلام عابر؟
ما في روايتك عن بيروت حرب 1982 هو ذا: عابرون في كلام عابر. أعجبني ما قاله الإعلامي الفلسطيني الذي لا يعجبني (جمال الريان): طوفان الأقصى زلزال تعادل قوته التدميرية 10 درجات على ريختر.
في اليوم التالي، عزمت على أن أكتب إلى من لا أعرفه من الفلسطينيين:
الروائي الأسير باسم خندقجي. لا، سأكتب لمن رحلوا: أحمد دحبور، مريد البرغوثي...
لا، سأكتب لصديقاتي وأصدقائي: سحر خليفة، وزياد خداش، ومحمد حافظ يعقوب، وحزام حبايب، ويحيى يخلف، وإبراهيم نصر الله، ونعمت خالد، وبديعة زيدان، و....
ولكني لم أكتب، بل أرسلت بالواتس إلى عشرات مما تداولته وسائل التواصل ـ بالمناسبة ليس لي صفحة على فيسبوك، وأوله: صورة شيرين أبو عاقلة مبتسمةً وعليها عبارة:
آن لك أن تبتسمي. لكن نيروز مالك، الكاتب الكردي السوري، وصديقي منذ أقمت في حلب عام 1972، كتب لي: "أراك متحمسًا يا صديقي بغزوة حماس الجديدة. عقلية القبيلة والثأر القبلي لن تؤتي بنتائج، وإن أتت، لن تكونَ سوى لأيام. أتدري؟ أنا أفكر بخوف وقلق لنتائج الغزوة الحمساوية. سيدفع الغزاويون الثمن غاليًا. عقلية القبيلة والثأر والغزوات المقدسة لن تجدي نفعًا في هذا العصر يا صديقي. حمى الله أهالي غزة".
بالطبع، أومض لي ما كتبه أدونيس فجر الثورة/ الزلزلة السورية، معترضًا على الخروج من الجوامع وما أدراك، مما جرّ عليه نقمة الناقمين. وقررت يا صديقي ألا أدع منغصًا ينغص عليّ فرحتي بإذلال الوحش الإسرائيلي.
لم أكن في كتاباتي، ولا في حياتي، يومًا، إلا في منازلةٍ مع أي استبداد، دينيًا كان أم علمانيًا، قوميًا كان أم... وفي زمننا يتحدد الديني في حزب الله، وفي حماس، وفي الإخوان المسلمين، أو المسيحيين، أو العلويين، أو...
ولكن ذلك لن يحرمني فرحتي بالنصر الفلسطيني. فكرت في أنّه النصر الغامض، أو الملغّم، النصر الأكثر... ليكن، المهم أنه قد تبين أن الوحش الإسرائيلي ليس قدرًا مقدرًا، بل من الممكن أن يُهزم، كما في حرب 6 أكتوبر 1973 لولا...، وكما في حرب 1982، أو حرب 2006، لولا... والمهم أن ذلك أعادني إلى روايتك: "في انتظار خبر إن".





في ركن من مقهى مع رسام لبناني، يسمع الراوي هذا الحوار بين اثنين عن حرب 2006:
ـ هذه هزيمة مجيدة.
ـ بل هو أول نصر عربي بغير الكلام.
ـ لا أحب خطاب المنتصرين.
ـ هو أسوأ ما في النصر.
عندئذٍ التفت إلى الرسام هذا الراوي التونسي الذي لا يحمل اسمًا في الرواية، ربما لأنه أنت، وقال:
ـ يبدو نصركم معضلة.
ـ استبطنّا الهزائم ففاجأنا النصر.
ـ لذلك نجادل فيه. يربكنا النصر أكثر ممّا تربكنا الهزيمة. لا نعرف ما نفعل به.
أقول يا عزيزي: لذلك لم نعرف ما نفعل بنصر حرب أكتوبر 1973، فتركناه يُسرق ويُجهض، ولذلك كتبت بعد رواية "جرماتي" رواية "المسلة"، وبفضل القاهرة وبيروت نُشرتا، الأولى عام 1977، والثانية عام 1980، وظلتا ممنوعتين في سورية قرابة العقدين.
في روايتك يعود الراوي من تونس بعدما غادر بيروت إليها إبّان الحرب. وفي ندوة في أوتيل البريستول عن "المقاومة العراقية ضد الاحتلال" نشب جدال بين كاتب علماني الفكر، يساري النزعة، هادئ، قليل الكلام، وآخر كثير الظهور التلفزيوني، محلل سياسي متحمس الكلام والحركات وقد خاطبه الكاتب: أنت لست إنسانًا. أنت أيديولوجيا. لك أن تفرح بنصرٍ هدّم بلدًا منتصرًا. انتفض الآخر مادًا يديه نحو الأول كما لو كان يريد خنقه:
ـ أنت ضد المقاومة. أعرف ذلك.
ـ أنا مع المقاومة ضد عدوي. وضدها ضدي.
ـ لا أدري ما يفعل أمثالك في هذه البلد.
عندئذٍ قال مشارك في الندوة، وهو بعثي تونسي قومي: نحن يا أخي نبحث عن نصر ولو على شبح عدو، وأنتم تختلفون في نصر على إسرائيل!
وأختم بما قال الراوي عن معشوقته: في تعليقها على الحرب دائمًا جمعٌ بين النصر، وحزن الطريق إليه.
سأقول لك، أو تقول لي، أو يقول أحدنا لآخر، ويقول آخر لأحدنا: لا يزال الوقت مبكرًا. الحرب في أولها. والوحش الإسرائيلي جريح...

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.