}

لو كان هتلر هو المنتصر في الحرب العالمية الثانية

دلال البزري دلال البزري 25 أكتوبر 2023
آراء لو كان هتلر هو المنتصر في الحرب العالمية الثانية
(Getty)

نهاية القرن ما قبل الماضي. القدس تضجّ بالحجاج المسيحيين من مختلف المذاهب، كاثوليك، أرثوذكس، موارنة، أقباط، أرمن، حبشيين، بروتستانت وكل متفرعاتهم، لوثريين، كالفينيين، إنجيليين. قبل عشر سنوات من أول هجرة يهودية منظّمة إلى فلسطين، وتحديدًا عام 1868، تحطّ سفينة في ميناء يافا، وينزل منها الألماني كريستوف هوفمان، الزعيم الروحي لجماعة "المعبد" الإنجيلية الألمانية، والتي لا علاقة لها بجماعة تحمل الاسم نفسه، "فرسان المعبد"، خاضت الحروب الصليبية على دفعات منذ سبعة قرون.

يرافق كريستوف هوفمان خمسة آلاف من أنصاره، رجالًا ونساء. جاؤوا إلى فلسطين بعد هزيمة جماعتهم في ألمانيا، حيث لم يتمكنوا من إقناع كنيستهم بضرورة استقلالها عبر إصلاحها من الداخل. وكان من نتيجة هذه الخيبة إعلانهم بأن العالم يسير نحو الضياع، وبأن المسيح سيعود إلينا لإنقاذه، وأن السبيل الوحيد لملاقاته هو العودة إلى الجذور المسيحية، هو السفر إلى القدس، بالقرب من قبر المسيح، لأنه سيظهر هناك. وشعارهم: "نحن نعمل على جمع شعب الله في القدس".

والوضع في فلسطين يسمح له بذلك تمامًا. عليه التوجه إلى السلطة الحاكمة لهذه البقعة. ففلسطين، كما كانت تسمَّى آنذاك، محافظة خاضعة للدولة العثمانية الآخذة بالتآكل منذ مئة عام. وها هي تقدم عروضًا ببيع "أراضيها" إلى الأوروبيين، خصوصًا الألمان، حلفاءها التقليديين في حروبها الكثيرة. كان على شاري هذه الأراضي أن يطلب الجنسية العثمانية، فينالها. لكن هوفمان رفض هذه الجنسية، ولجأ إلى حيلة "الشاري الشبح"، فتملّك بداية أرضًا في يافا، يقيم فيها مستوطنته، التي يسمّيها "مزرعة".

هكذا استقرت جماعة المعبد في هذه المدينة الساحلية الفلسطينية. ومن المزارع التي أنشأها أعضاؤها، بدأت تنتج الحليب ومشتقاته. وبفضل شرائهم المزيد من الأراضي، توسعوا. وخدَمتهم الوسائل الزراعية الحديثة، فحرثوا الأراضي، وأنتجوا الصابون والزيتون وزيته، والبرتقال اليافاوي، الذي اشتهر عالميًا. وبنوا المدارس والمستشفيات والفنادق والمصارف، ونظموا عربات الأحصنة بين مستوطناتهم التي توسعت، في حيفا والقدس وبيت لحم وسارونا. وبعض هذه المستوطنات تحمل أسماء ألمانية مثل: فالنها، فيلمها، فالدهايم... وفي حيفا، أقاموا الأحياء بتخطيط مدني حديث، وقسموها إلى أحياء: "الأدنى"، الذي تسكنه المصانع وورش الحرف والمؤسسات الرسمية، والحيّ "الوسط"، حيث الفنادق والأنزال (جمع نُزُل). والحيّ "االمركزي"، حيث يقيم الفلاحون والحرفيون. والحيّ الأخير، "الجنوبي" على سفح جبل الكرمل، المخصَّص لبيوت أصحاب المزارع.

هكذا سارت الحياة، ولم تعكرها الموجة الأولى من الهجرة اليهودية المنظَّمة، بعد هجرة جماعة المعبد بعشر سنوات. في مزارعهم، أو مستوطناتهم، أنشأوا مخازن متفرقة، تاجروا بالأدوات الكهربائية المنزلية، ومواد البناء والآلات الزراعية. أحيانًا، يوزعونها مجانا على العرب واليهود، فيبْنون بذلك علاقات ودية معهم.

لكن الحرب العالمية الأولى (1914) بدأت تنخر بتلك العلاقة. جماعة المعبد كانوا مع بلادهم ألمانيا، حليفة العثمانيين. وتجنَّدوا من أجلها وشاركوا في ساحة المعركة. وفي نهاية هذه الحرب، مع انتقال حكم فلسطين من العثمانيين إلى البريطانيين، كانت حملة على الألمان وجماعة المعبد، وإجراءات لترحيلهم إلى مصر، وحبسهم في معسكرات اعتقال.

كريستوف هوفمان، منظّر "حق الألمان بتأسيس دولة" إضافية لهم، تعويضًا عن خساراتهم في الحرب العالمية الأولى


ولكن بعد ثلاث سنوات على نهاية الحرب، سمحت لهم السلطات البريطانية بالعودة إلى فلسطين؛ ضعفاء صحيح، ولكنهم مصرِّون على إعادة إحياء مستوطناتهم. وقد بدأ المهاجرون اليهود ينافسونهم بإنشاء مثلها، وأحيانًا على أنقاض بعضها. وزاد إحساسهم بالخطر اليهودي، واستغناء هؤلاء عن "حداثتهم"، وحلول الحداثة البريطانية مكانها، بعد خروجها منتصرة في هذه الحرب.

بين الحربين العالميتين، كانت هدنة هشة. أو بذور النهاية لوجود جماعة المعبد في فلسطين. والحرب العالمية الثانية كانت الخاتمة.

عندما بلغ هتلر الحكم، وقبيل إندلاع الحرب نفسها، أسسّست جماعة المعبد في حيفا الفرع الفلسطيني للحزب النازي. ومعه ملحقات جماهيرية، مثل: "الشبيبة الهتلرية"، و"منظمة العمل النازي"، و"عصبة الشابات الألمانيات". والجميع يحيّي الجميع بالوقْفة الهتلرية المعروفة، رافعًا ذراعه اليمنى إلى فوق، باسطًا يده، وصارخًا "هاي هتلر!". ويعبّرون عن حبهم للنازية، بأشكال أخرى: يرفعون العلم والدرع النازيَين، والصليب المعقوف، على شرفاتهم وعرباتهم، وأثناء مسيراتهم في القدس... فجماعة المعبد التي كانت تريد "أن تبني مملكة الله على الأرض"، صار شعارها "الدم، الأرض والعرق، هم ثلاث هبات من الله".

وعندما اندلعت الحرب عام 1939، ذهب شباب جماعة المعبد إلى ألمانيا وشاركوا بها. وفي نهاية الحرب وهزيمة ألمانيا، بدأت الأصوات ترتفع، تطالب البريطانيين بطردهم من فلسطين. ترافقها حملات مقاطعة منتجاتهم، واغتيال أعضاء بارزين منهم على يد "الهاغانا".

فكان لا بد من الذي حصل بعد ذلك. الانتداب البريطاني، وبعد طرده عددًا من جماعة المعبد إلى أستراليا أثناء الحرب، يقرر إجلاء جزء منهم إلى ألمانيا، في إطار تبادل أسرى يهود، أو فلسطينيين سجناء وقعوا تحت الإحتلال الألماني. ثم إبعاد المتبقين ونفيهم إلى قبرص. فصودرت أملاكهم لصالح الدولة الاسرائيلية الناشئة، ولم يبق في فلسطين بعد ذلك أي واحد من المعبد.

الجماعة أعادت تأسيس نفسها بعيد ذلك في ألمانيا وأستراليا. وفي عام 1962، دفعت لها إسرائيل تعويضًا ماليًا بقيمة 54 مليون دولار (ما يزيد عن مئة مليون دولار في هذه الأيام).

الآن أحفاد جماعة الهيكل يعيشون في أستراليا وألمانيا. وبعضهم زار إسرائيل بحثًا عن الأحياء والبيوت التي عمَّرها أجدادهم. وعادوا منها متأثرين بهندستها وجماليتها وظلال أشجارها، وربما أيضا متحسّرين على هزيمة أولئك الأجداد.

والسؤال يطرح نفسه بنفسه: ماذا لو ربح هتلر الحرب العالمية الثانية؟ هل ستكون فلسطين من نصيب اليهود أيضًا؟ أم من نصيب جماعة المعبد، ومعهم ألمانيا كلها؟ فلسطين بصفتها غنيمة المنتصر في الحرب العالمية الثانية؟ وهل يكون جماعة المعبد ساعتها من رواد البروباغندا المصرّة على "أن هذه الأرض، فلسطين، هي أرض الله. وبما أننا ننتظر الله عليها، فهي ملكنا"؟ حقنا الديني، الأخلاقي، التاريخي؟ وقد سبقنا إليها الصليبيون، وكان سَميَّتنا "فرسان المعبد"، على رأسهم؟ ويكون كريستوف هوفمان هو رائد هذا الهبوط الألماني على أرض فلسطين، بدل تيودور هرتزل، مؤسس فكرة الصهيونية الحديثة؟ كريستوف هوفمان، منظّر "حق الألمان بتأسيس دولة" إضافية لهم، تعويضًا عن خساراتهم في الحرب العالمية الأولى، وتتويجًا لانتصارهم في الثانية؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.