}

الاغتراب في نصوص حيدر حيدر ("الزمن الموحش" أنموذجًا)


تكاد موضوعة الاغتراب أن تكون ثيمة محورية لما أنتجه الكاتب حيدر حيدر (1936-2023) من نصوص قصصية أو روائية، وتتجلّى واضحةً في نتاجه القصصيّ والرّوائيّ كله، وإذا كانت شخصية أبو علي شاهين في روايته القصيرة (الفهد) قد ردّت على اغترابها في الريف بمواجهة الشريحة الإقطاعية، وحاولت تغيير واقعها من خلال (التمرُّد) على مستلبيها وحلفائهم؛ فقد انكفأت شخصياته الباقية على أنفسها في مجمل نصوصه الأخرى، ولاذت بدواخلها هربًا من المواجهة؛ بعد أن أدركت أنّ تغيير واقعها أمسى في حكم المستحيل بعد أن أبعِدَتْ عن صنع القرار وهُمِّشتْ، وأمستْ عاجزةً عن إحداث تغيير جذريّ فيه، وقد زجّ صاحب (وليمة لأعشاب البحر) أبطاله في حيّز المدينة، ووضع يديه على مسوّغ العطب والفجيعة في حياتهم، وجعل هؤلاء الأبطال يُخفقون في العثور على ذواتهم، ولاحق مصائرهم الشخصية، محاولًا ربطها بالحيِّز الذي تحركوا فيه، ويتبدى ذلك واضحًا في روايته الثانية (الزمن الموحش، 1973)، التي يعرض فيها بإفاضة يوميات لمجموعة من المثقفين راصدًا أزماتهم، ومتحدِّثًا عن تطلعاتهم وأحلامهم. ويبدو من خلال الافتتاحية السردية للرواية أنّ هؤلاء المثقفين مأزومون جميعًا، بحيث نمضي مع الرواية حتى نهايتها بدون أن نعثر على المسوِّغات المقنعة التي تجعلهم كذلك، وتكتفي الرواية بذكر بعض العبارات القصيرة في متنها الحكائيّ، محيلة السبب في أزماتهم إلى كونهم ريفيين يعيشون في حيّزٍ مكانيٍّ معادٍ لم يفسح لهم المجال لتحقيق ذواتهم كما يطمحون. 

والمدينة في الرواية ذات وجود كابوسيّ ممطوط وثقيل، لا يتمّ الهرب أو التّخلُّص منه إلا من خلال الغرق في تعاطي الكحول واللهاث خلف الفتيات الجميلات، بغضّ النّظر عن أيّ نوع من أنواع المشاركة، وأي نوع من أنواع الحياة الوجدانية أو العاطفية التي يمكن أن تعيشها المرأة المدينية. وتلجأ الرواية إلى التّنويع في نغمات هجائها للمدينة، ولا تكتفي بالنظر إليها من وجهة نظر الرِّيفيين الوافدين إليها الذين يمارسون انتقامهم منها من خلال إسرافهم في ممارسة الجنس مع نسوتها، أو بالأحرى من خلال اغتصاب هاته النّسوة، على غرار ما صوّرته رائعة الطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، الذي جعل بطله مصطفى سعيد يردّ على الغزو الإنكليزي لبلده السودان بالغزو الجنسيّ للنساء الإنكليزيات، وهذا ما فعلته بعض شخصيات (الزمن الموحش) كشبلي عبد الله، وسامر البدوي، فضلًا عن تحوُّل الممارسة الجنسيّة القائمة على رضى الطرف الآخر إلى اغتصاب بحت قام به ضابط المخابرات وائل الأسديّ غير مرّة مع اللاتي كنَّ يفدْن إليه طمعًا في نيل حظوة، ولكنّ الضابط لم يكن يقبل بالمشاركة الطبيعية بين الرجل والمرأة، وإنما كانت الممارسة تتحوّل إلى اغتصاب شديد القسوة والفظاظة.
وفضلًا عن ذلك هناك نظرة بعض الدمشقيين إلى دمشق ممن هزمتهم التحولات السياسية والاجتماعية الجديدة في سورية، وحولتهم إلى كائنات مُهمَّشة على مختلف الصُّعُد بعد أن كانوا سادة مهيمنين في المجالات كافة، ولم يعد لديهم ما يفعلونه سوى تمرير الأيّام والتّردُّد على الخمّارات، لكي تمتصَّ الخمرُ ما لحق بهم من خسارات شاملة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجسدية والنفسية أيضًا. فهؤلاء الذين فقدوا امتيازاتهم، التي كانت لهم في أيام عزّهم، قدّمتهم الرواية من خلال نموذج رئيس يمثله (أيوب السرحان) زوج (أمينة) الذي تعمّدت الرواية تجريده من فعاليته في مجتمعها التخييليّ، وأفقدته القدرة على الممارسة الجنسية السوية أيضًا، وجعلته مستسلمًا لكلّ ما يجري حوله، إذ تخونه زوجته بشكل علنيّ بدون أن يبالي، وتتركه بدون أن يبالي، والدور الوحيد الذي جعلته الرواية ينهض به هو الشذوذ الجنسيّ، والغرق في الخمر.

شخصيات (الزمن الموحش) أخفقت بطريقة أو بأخرى في إقامة التفاعل الإيجابي المنشود مع حيّزها المديني الذي وفدتْ إليه؛ إذ حكمتها في علاقتها به رؤاها المسبقة، وظروفها التّعسة؛ ولذلك عادته وحمّلته أوزار ما عانته

والقارئ للوصف المشهدي في الرواية يلحظ أنه يغلب عليه ذلك التدفق القادم من الأعماق، والمتماهي مع ما يبوح به الإنسان لنفسه، وكل شيء فيه يأتي من الداخل، ويصبغ المرئيات والمشاهد المختلفة بصبغته الخاصة، خلافًا لما تكون عليه الأمور، حين تنطلق رؤيتنا للعالم من الكيفية التي يكون عليها، لا من الموقع المصطبِغ بنظرتنا الذاتية إلى الموضوع المرئيّ نفسه، وهذا يعني في جملة ما يعنيه أن شخصيات (الزمن الموحش) أخفقت بطريقة أو بأخرى في إقامة التفاعل الإيجابي المنشود مع حيّزها المديني الذي وفدتْ إليه؛ إذ حكمتها في علاقتها به رؤاها المسبقة، وظروفها التّعسة؛ ولذلك عادته وحمّلته أوزار ما عانته، وقد اتّسمت نظرتها إلى هذا الحيّز بأمرين أساسيين: يتمثل الأوّل في العدائية المسبَقة، والعجز عن إقامة الحوار معه، ويتمثل الثاني بالموقف الأيديولوجيّ الذي صبغ كل شيء بصبغته، فلم ينج منه الوصف المشهدي الذي يُفتَرَض أن يكون وصفًا حيًّا لواقع حيٍّ، ومع ذلك جاء في الرواية على قدر كبير من الذهنية والانقطاع عن التوضُّع الواقعي.

وقد قسّم صاحب (التموُّجات) روايته إلى خمسة فصول، وجعل كل فصل أجزاء فرعية تحمل أرقامًا، وصدّر الرواية بقصيدة تشاؤمية تحمل عنوان (مراسيم دفن)، وختمها بملاحق شعرية يتحدث أحدها عن هزيمة حزيران (يونيو). وقد لاحق بين القصيدة والملاحق تجربة شخصياته في مدينة دمشق، وكيف كانت نماذج خرعة معطوبة من الداخل، وغير منتجة ولا مناضلة، ولذا عاشت حياتها على هامش المدينة، ولم تفلح في إقامة علاقة حميمة معها، وكانت شخصيات قلقلة رافضة تقف ضد التيار، ولكنها لا تملك فعلا إيجابيًّا في مواجهته؛ لذلك تكتفي بخوض معركتها معه على المستوى الذاتي، ولا تنتقل بهذه المعركة إلى المستوى الخارجيّ، مع ما له من أثر مباشر في تكوين ذواتها.

وقد بدا لنا السارد المشارك (شبلي عبد الله) في القسمين الأول والثاني منها مشدودًا إلى عالمه القديم وغير قادر على التفاعل مع حيّزه الجديد، وحاول النفاذ إلى دواخل الشخصيات وتعريتها، كما تعرّف إلى زوايا المدينة وخباياها. غير أن الفصول الثلاثة الأخيرة تعرّي كل شيء؛ إذ ينتهي العالم البائد تحت ضربات إسرائيل، وينهار البيت الطينيّ، وهكذا يغدو التقديم محاولة لتشخيص زمن انتهى، أما المراثي والمذكرات فهي إعلان عن نهاية ذلك الزمن وموته، وهكذا فإنّ (الزمن الموحش) ما هو إلا زمن ميت، جاء التقديم (مراسيم دفن) لإعلان نهايته، في حين أنّ المراثي تعلن مواراة هذا الزمن قبره، وما نهاية النص بعد حصول الهزيمة سوى إعلان عن النهاية التي تأتي المراثي لنعيها.

إنّ النص، كما رأينا، يعلن نهاية مدينة ومجتمع بكامله، ونهاية شخصيات لم تفلح في التناسج مع حيزها المديني. وقد عكست هذه الرؤية للمدينة العالم نفسها على بنية الشكل الروائي، فأدت إلى خلخلته، كما يقول شكري عزيز ماضي، إذ ليس في الرواية أحداث مفصلية هامة، وإنما هناك مشاهد ومقتطفات من حياة هؤلاء المثقفين، وقد أفضت اللغة الشعرية وانعدام الحدث الروائي إلى الابتعاد الكامل عن العالم، والغرق في أبراج الحلم الذاتي.

وقد خلق صاحب (حكايا النورس المهاجر) في روايته واقعًا تنبع ضرورته وقوانينه وغاياته منه وحده، وأوجد له تكنيكًا روائيًّا يكشف عن بنية روائية سائبة تتّسق مع موضوعه، وتجسّد ثيمته الحكائية، واستخدم في متنه الروائيّ أقلّ حجم ممكن من الحياة الخارجية بغية بعث أعنف حركة ممكنة في الحياة الداخلية لشخصياته، وكانت له عينان ذكيتان ونافذتان رأى بهما الأشياء رؤية جديدة، وخلقها خلقًا جديدًا يتّسق مع الثيمة التي اختارها محورًا لنصّه، وهي آلية إبداعية تحتاج إلى متلقٍّ مغاير للمتلقي التقليدي كي يتواصل معها، وهو أمر لم يتحقق في نصّ طليعيّ نهض على التذهين والتجريب الفني، وحاول الغوص إلى أعماق شخصياته، ونبش ما في دواخلها من مشاعر وإحباطات، ولذا فإن هذا النص لم يحقق المتعة للقارئ العادي عند صدوره، وظلّ عصيًا على القارئ العاديّ، وكان بحاجة إلى متلقٍّ آخر لا يسعى وراء التشويق، والمتعة السهلة، والبهارات السردية اللذيذة، ويملك القدرة على التواصل مع نصّ أدبي تجاوز زمنه، وكان عملا روائيّا حداثيًّا تابع الاتجاه التجريبي الذي انتهجه كتاب آخرون قبله، منهم جورج سالم في روايته (في المنفى)، وهاني الراهب في (المهزومون)، وحليم بركات في (ستة أيام) وهو اتجاه مهم، وإن كان لم يلق ما يستحقه من دراسة وبحث على المستويين المحليّ والعربيّ أيضًا.

* ناقد سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.