}

في رحيل آلان تورين: عودة الذات الفردية

إسكندر حبش إسكندر حبش 13 يونيو 2023
آراء في رحيل آلان تورين: عودة الذات الفردية
آلان تورين في منزله بباريس (Getty, 19/4/2017)

قرن شبه كامل اجتازه عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين (مواليد 1925)، الذي وافته المنيّة نهار الجمعة الفائت. قرن "بأكمله" (لكنه في العمق يُشكل عصورًا متعددة ومتنوعة)، لم يتوقف فيه عن قراءته ومساءلته، لجميع الأحداث المختلفة التي مرّت عليه، والتي بدّلت الكثير من مفاهيمنا وعاداتنا وفكرنا، أي تبدّلت فيه حياتنا في الحقيقة، بيد أن تورين بقي مخلصًا لعمله في متابعة نظرياته حول العمل والقضايا الاجتماعية وتطويره.

يُعد تورين واحدًا من مثقفي اليسار إلا أنه كان يحظى بتقدير اليمين بشكل كبير، فقد وقع مجموعة وفيرة من الأعمال التي وصفت ديناميكيات التغيير الاجتماعي خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما لحقها. وبرحيله، تُطوى صفحة فعلية من صفحات علم الاجتماع، التي عرف فيها المفكر الراحل كيف يصوغ أسئلته الدائمة التي حاولت أن تكون محركًا لمجتمع متحرك أصلًا. هنا، في هذه المقالة، محاولة لقراءة أبرز الأفكار التي عمل عليها. 

*****

أدت ستينيات القرن الماضي، التي عرفت ذروتها الرمزية في العام 1968 بكلّ ما حملته من حراك وأحداث وتغيّرات وتحولات، إلى زعزعة نُظم الحياة السياسية التقليدية. في الفترة السابقة عليها، تركزت السلطة في الدولة، إذ ناضلت الأحزاب السياسية، التي تمثل الأيديولوجيات المختلفة، من أجل التغلب عليها، وذلك بمساعدة الجمعيات الاقتصادية أو النقابات العمالية أحيانًا. لكن مع انفجار "ثمانية وستين" تشظت هذه السلطة وفقدت الأحزاب هيمنتها وكشف المجتمع عن نفسه باسم فرد يرغب في الهروب من فخاخ نظام محكوم عليه بالانسداد والاستبداد.

أمام ذلك، كان لا بدّ من طريقة جديدة في النظر إلى السياسة التي بدأت تتبدى وتتموضع؛ من هنا حاول عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين أن يعيد التفكير بكلّ ما حصل. قادته تأملاته إلى أن يصبح المنظر الأساسي لتلك الفترة، إذ حاول أن يقرأ عودة الذات الفردية، هذا الفرد الذي أعيد استثماره بوفرة في ما وراء القيود السياسية التي كانت سائدة في الماضي وبكونه ممثلًا لمصيره من خلال الحقوق الاجتماعية والدينية التي تخصه، لذلك مال تورين إلى جعل هذه "الحركات الاجتماعية الجديدة" مراحل شكل جديد من مجتمع وجد حريته أخيرًا.

كان ذلك في ستينيات القرن العشرين. وبالطبع لم يتوقف تورين عند نتائجه المستخلصة حينها، إذ عمل في كتبه، التي صدرت مع نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين، على إعادة طرح السؤال حول موضوع الفرد: أين هو اليوم؟ من هنا بدت هذه الكتب الأخيرة وكأنها محاولة للقيام بجردة ما لتلك الحالات المتبدلة لكن بنظرة موجهة إلى المستقبل. على الأقل هذا ما نراه يُشكل جوهر كتابه "التفكير بطريقة مختلفة" (2007)، إذ شكلت تحليلاته مساهمة مهمة في النقاش السياسي وفي تطوره في "هذا العالم المعذب". يلاحظ تورين فيه، وبانزعاج، أن فترة الستينيات، وعلى الرغم من وعودها، لم تقطع حقًا مع الفترة التي تلت الحرب [العالمية] مباشرة، بل على العكس من ذلك؛ فعلى حدّ تعبيره إن "الخطاب التفسيري السائد" (وفق حرفية كلماته)، المليء "ببنيوية ذات مكوِّن ماركسي قوي، قد أدّى إلى استمرار رؤية سياسية سبق أن تمّ تناولها في الصراع الطبقي وعلى حتمية خانقة، ما شكل نوعًا من عقيدة غطت جميع العلوم الإنسانية"؛ وقد تزاوج فيها هذا "الخطاب اليساري الكلاسيكي، من دون إحراج، مع الاندفاع الليبرالي الذي فرض نفسه تدريجيًا على المستوى الاقتصادي".

برحيل آلان تورين، تُطوى صفحة فعلية من صفحات علم الاجتماع، التي عرف فيها المفكر الراحل كيف يصوغ أسئلته التي حاولت أن تكون محركًا لمجتمع متحرك أصلًا

تحرير الذات

بالنسبة إلى تورين، يعود الأمر إلى إعادة إطلاق النضال من أجل تحرير الذات من القيود التي ما زالت تضطهده. يجب أن يفقد الفرد مكانته بشكل نهائي كموضوع خاضع لقوى تتجاوزه من أجل السيطرة عليه في النهاية، ليضطلع بحقوقه الأساسية في مناخ من الكونية. ويضيف أيضًا أن إعادة اختراع الذات هذه يجب أن تكسر ويلات وخراب التشاركية وتتغلب على مآزق التعددية الثقافية، من خلال التخلي عن قيود اللغة الثورية التي تنتهي بتكرار نفسها بلا كلل؛ يجب عليها أن تتخلى عن الإغراء المنتشر في كل مكان بأن تكون ضحية اليوم وتكريس المسؤولية الفردية المعاد اكتشافها، التي تشكل خميرة الحرية الحقيقية.

لا يمكن لأي روح ليبرالية إلا أن تصفق لهذا الخطاب، المثقل بالرياح "المتفائلة والمنعشة". هو "خطاب شجاع" ضمن ذلك السياق الذي يتم تسليط الضوء فيه بشكل متزايد على العوامل التي تحدد مسار الحياة، وفق تعبيره أيضًا. لكنها عوامل لا ينقصها الغموض، في حين أن الفرد، في ارتفاعه غير المتجسد، يبدو أنه فقد موطئ قدمه في عالم خالٍ من جميع المعالم. من هنا، ألا يمكن لنا أن نطرح السؤال التالي: ألن تعزز الذات "التورينية" (نسبة إلى تورين) التي أعيد إحياؤها على هذا النحو، الاتجاه الحالي لفردانية جامحة، محمومة؟ ألا تقدم وجه اندفاع هائل نحو الأسطورة الأناركية التي قامت أحداث العام 1968 بإعادة تحديثها، في واقع الأمر، وجعلها راهنة؟ "لا إله ولا سيد"، كما يزعم تورين عن موضوعه، الذي تحقق أخيرًا: هنا فاصلة عليا تحيلنا إلى إطار مفاهيمي تمّ اختباره بالفعل إلى حدّ كبير، والذي كشف في كثير من الأحيان عن حدوده...

هذه هي بالفعل "المشكلة" الكاملة للنظام الذي اقترحه آلان تورين. لأنه أعاد في ذلك عملية التواصل مع الآمال الرومانسية العظيمة العائدة لـ الأنا الحرّة والمدموجة في الكلّ الكبير، المنقولة مجازيًا من شخصيات الفنان الألماني، الرسام كاسبار ديفيد فريدريش، التي تظهر دائمًا من الخلف وصغيرة أمام ضخامة الطبيعة الأم. والواقع أن تورين يطيل تفكيره السابق من دون تجديده. يعترف بأن التحرير المعلن في الستينيات قد "تمّ ابتلاعه" من خلال العودة إلى الإملاءات الماركسية، من دون منع الليبرالية من تطوير تفسيرها الخاص حول قضية ظهور الفردية... ولكن، بدلًا من استخلاص الدروس من هذه الإخفاقات، يقترح علينا زيادة السرعة!!

من خلال قيامه بذلك، أي من خلال هذه السرعة، فإنه لا يحلّ، في أي حال من الأحوال، تناقض عصرنا الرئيسي. لقد أثبتت الحركات الاجتماعية الجديدة أنها غير كافية للقيام بهذا الأمر: فتعزيز الحقوق الثقافية، المصحوبة بأسلوب جديد في التفكير، هو من سوف يعوض بالتالي عن إخفاقاتها. ومع ذلك، فقد نسي تورين أن الفرد، المحاط بالحقوق بالتأكيد، ولكنه المنفصل عن المؤسسات القائمة، سيصبح مجردًا أيضًا، مثل الفرد الذي يختنق بسبب الحتمية المفروضة عليه. لا شك في أنه يجب إعادة التفكير في مفاهيم "الدولة" أو "المجتمع"، ويمكن أن يكون الالتفاف عبر الذات مثمرًا. لكن هل سيسمح له بتجاوزه حقًا من خلال إعادة التفكير في علاقته بالآخر كما يرغب تورين؟ أم أنه، على العكس من ذلك، سوف يتم الدفع به إلى عزلة غامضة بشكل متزايد؟



أفكار لليسار

بعد سنة تقريبًا من كتابه هذا، أصدر آلان تورين أيضًا، الذي كان يحلم بإعادة تأسيس اليسار بهذه الطريقة، كتابًا حواريًا مع سيغولين رويال (وزيرة ومرشحة سابقة لرئاسة الجمهورية الفرنسية) حمل عنوان "فيما لو أراد اليسار أفكارًا"؛ فانطلاقًا - وكما يقال - من أن السياسيين لا يفهمون مجتمع اليوم وأن المثقفين لم يعودوا مهتمين بالسياسة، جاء هذا الكتاب "للخروج من هذا المأزق". في البداية كتب آلان تورين نصًا قدّم فيه طريقة جديدة لقراءة مجتمعنا. طلب من سيغولين رويال، التي أظهرت قدرتها على فهم توقعات المواطنين وتزويدهم بالإجابات، ولتتفاعل سياسيًا مع الأفكار المقترحة. استجابت للمشروع بحماس. والنتيجة هي عمل أصلي للغاية، سواء من حيث موضوعه أو أسلوبه. لقد صاغ عالم الاجتماع تحليلاته ورد "الزعيم السياسي"، نقطة وراء أخرى، وأوضح بالتفصيل العواقب العملية التي تستخلصها منها في عملها الخاص والحياة العامة بشكل عام. "لقاءات مكتوبة" حيث تتناوب مساهمات المؤلفَين في شكل فصول قصيرة تشكل كتابًا شاملًا يضيف قيمة نادرة إلى محاولة التعرف على فرنسا التي كانت في تحول كامل.

لكن الملاحظة أن أجوبة رويال، تلك اليسارية الاشتراكية الديمقراطية، المرتبطة بالدولة، بدت وكأنها تخاطر قبل كل شيء، فيما لو وجدت مقترحاتها آذانًا صاغية، بأن تصل إلى "فوضوية تورين". بيد أن المفارقة تكمن في أن الليبرالية، يمكن لها من جهتها أيضًا أن تستخلص مادة للتفكير والتأمل من هذا النداء إلى الذات، وهي تأملات جذابة جدًا من حيث المبدأ. لكن الذات هذه لا تستطيع الكشف عن مكانتها في المجتمع، ولا يمكنها السماح لحريتها بالازدهار، فيما لو تجاهلت الأطر التي تُنظم الحياة في المجتمع بحركتها الطبيعية: الدولة، والأحزاب السياسية، إلخ. هذه الوساطات، حتى لو بدت "متربة" بالنسبة إلى البعض، إلا أنها تفتح الطريق أمام الحرية. وهذه الحرية التي حلّلها تورين يمكن أن تدعمها لا أن تحلّ مكانها.

تعيد الحركات الاجتماعية، التي أُخرجت من الفضاء السياسي، بناء هذه الجماعة التي يكرهها. يجب أن يكون الشخص قادرًا على أن يعيش حريته؛ ولكن إذا لم نقم بإدراج عودته في الاعتبار للدولة وعمله، فسيجد نفسه هالكة؛ سيكون وحده مع حقوقه الثقافية، سوف يموت في وجه السلطة البيروقراطية التي يعتقد خطًأ أنها قد تلاشت. يمكن للفرد أن يكشف عن نفسه إذا وافق على التفكير في علاقته بالسلطة. لكن ليس خارج الأطر المؤسسية. وهكذا فإن علاقاته مع الآخر سوف تهدأ حقًا. وسيكون الثمن التوازن الاجتماعي.

كُتب تورين هذه وضعت في خانة ما أطلق عليه "تُخمة الكتب التي تتناول الحداثة ومفاهيمها"، والمقصود بذلك تلك الكتب التي صدرت في العقد الأخير من القرن العشرين، كما في السنين الأولى من الألفية الثالثة، حيث تكاثرت في أكثر من بلد أوروبي، والتي حاولت أن تقرأ الحداثة وما بعد الحداثة، بالمعنى الشامل للكلمة. في أي حال، لم تكن هذه الظاهرة جديدة، بل نجد أنها تشكل مُحصّلة لسيرورة كانت قد بدأت في نهاية عصر النهضة (الأوروبي). هذا ما يقوله لنا آلان تورين، في القسم الأول من كتابه "نقد الحداثة". ثمة شكل جديد من التحالف ما بين الإنسان والكون قد عقده، تشكل فيه قطباه من العقل والموضوع (الذات). لقد عرفت الحداثة أعلى قممها مع عصر الأنوار، إلا أن الأسئلة بدأت تُثار حولها وعنها في القرن التاسع عشر. من هنا وجدنا أن كلّا من نيتشه وفرويد كما آخرين احتجوا على أسس العقل والموضوع، لذا ذهبوا إلى رفض مفهوم التقدم المستمر الذي كان يعِد به هذا التحالف.

أصدر آلان تورين، الذي كان يحلم بإعادة تأسيس اليسار، كتابًا حواريًا مع سيغولين رويال بعنوان "فيما لو أراد اليسار أفكارًا"؛ فانطلاقًا من أن السياسيين لا يفهمون مجتمع اليوم وأن المثقفين لم يعودوا مهتمين بالسياسة جاء هذا الكتاب "للخروج من هذا المأزق"

الحداثة وما بعدها

ثمة العديد من المثقفين – وبخاصة الفرنسيين منهم – وقفوا على مسافة بيّنة من هذه الفكرة، لدرجة أنهم وصلوا في رفضهم هذا إلى قطيعة كليّة أو لنقل، في أضعف الأحوال، إلى معارضة صريحة لهذا الأمر. فبعد "موت الله" الذي أعلنه نيتشه، وبعد موت الإنسان وفق ما أعلنه ميشيل فوكو الذي كان يرى – وبخاصة في كتبه الأولى – في الموضوع عملية خلق لسلطة غير ذاتية ومتعددة الأشكال، كانت العقلانية قد أنتجتها بنفسها.

في عمله هذا، يكتب آلان تورين – في زاوية منه – ما يمكن لنا أن نعتبره بمثابة استمرارية لعمله السابق حول هذه المجتمعات الما بعد صناعية، المبرمجة، مثلما نجده - في زاوية أخرى- يقطع مع عدد معين من الأطروحات التي دافع عنها حتى ذلك الحين، والتي شكلت نقطة انطلاقه: أي أزمة الحداثة التي تُفهم على أنها مشروع ترشيد وإحباط. ففي هذا العالم، الذي تشكّل، بعد أوج عصر التنوير، تنتصر الحداثة على العقل لتُحول العالم وتجبره على الخضوع. بمعنى آخر نحن أمام نظام لا يتغير، يقودنا إلى حروب وإلى تكاثر الأجهزة الاستبدادية. وذلك ما كان مرادفًا، إلى ذلك الحين، للحداثة التحررية التي تتوافق مع زيادة القدرة على عمل المجتمع على نفسه، كأداة للسيطرة والتكامل والقمع. ثم لاحقًا، نجد في القرن التاسع عشر، أن هذه الحداثة وحدت الأبعاد المختلفة للفرد والأبعاد الاجتماعية، لتشهد "الحداثة الممزقة" في القرن العشرين، الفصل بين التغيير والوجود، بين العقلانية والشخصية، وفي الوقت عينه، ما بين الأنا الفردية والجماعية.

يمكن لنا أن نقرأ القسم الثاني من الكتاب وكأنه سيرة لما يمكن لنا أن نسميه "انتصار الحداثة وسقوطها". إذ أنها – أي هذه الحداثة – قد جسدت التغيرات التقنية وتبدلاتها الواضحة التي قلبت نمط الحياة رأسا على عقب، مثلما بدلت تمثلات الكون كما تمثلات الإنسان. بيد أن هذه الحداثة المنتصرة، قد حطمت وحدة العالَم. لذا نجد أن هذا التحالف بين العقل والموضوع قد انقطع. لقد افترق كل من الثقافي والاقتصادي عن بعضهما البعض. وبعد اخفاق الأيديولوجيات الكبرى، يبدو لنا، انطلاقا من ذلك، بأن هناك اليوم نسقا من دون فاعلين كما أن هناك فاعلين من دون نسق. لقد تحول المجتمع إلى سوق تتخذ شكل آلة متفجرة.

إزاء ذلك كله، نفهم عبر السياق الذي يعرضه آلان تورين أمامنا، أن المثقفين – وبخاصة علماء الاجتماع منهم – قد شعروا بالاضطراب، ومردّ ذلك إلى أنهم، ولفترة طويلة ماضية، كانوا يجدون "وحيهم" عبر هذا التحالف ما بين الفرد والجماعة. من هنا، يتلخص الجدل الكبير في معرفة إلى أي حدّ كان الفاعل محدّدًا من خلال المجتمع، إلا أنّ الاتصال بينهم لم يعتريه أي نوع من أنواع الشك. في حين أن ما بعد - الحداثة فتّتت هذه الصورة بطريقة بالغة. وهذا ما أثار، على قول آلان تورين، جمود الفكر الاجتماعي مثلما كان السبب في كراهية المثقفين. لأنهم كانوا مرتبطين، بشكل لا واع، بالنظام القديم ورافضين للنظام الجديد. فبالنسبة إلى البعض لا يمكن إدراك المجتمع والنظر إليه إلا بكونه نسق قمع وهيمنة. فكل محاولات الإصلاح لم تفعل شيئا سوى زيادة هيمنة المركز على ما يحيط به. هذا ما كانت عليه ثيمة الخطاب البنيوي - الماركسي في سبعينيات القرن العشرين. أما فيما يخص البعض الآخر، فإن انتصار الليبيرالية المطلق قد ساعد على استبدال الإنسان - الاجتماعي بالإنسان - الاقتصادي، ما فرض إخضاعه لغرائز وحاجات فوضوية، وليس ذلك سوى شكل آخر من أشكال إنحلال الموضوع. لذا وجدنا أن ثمة خطابًا إنسانويًا ناعمًا قد لفّ هذه الحالة. لم يعد يتحدث أحد أبدًا عن الثورة بل صاروا يستعملون بدلًا منها كلمة التحرير. لقد تخطى القانون الواجب. بالنسبة إلى آلان تورين، فإنه يجد أن خلف هذه الإيضاحات والتمثيلات المتنوعة هناك إذعان ما عميق، ثمة عدول عن النظر إلى ما بعد الحداثة بشكل مباشر. فما بعد الحداثة تشكّل إطارًا إيجابيًا أكثر ممّا يظنه المثقفون. ففي قرارهم الاتهامي هذا سمة من سمات النخبوية. وبخلاف ما يؤكده كثيرون، فإن ثقافة الحشد قد سمحت بعودة الموضوع لا في إلغائه؛ فهذا الكتاب، يكتب تورين قائلا، "هو تأريخ عن اختفاء الموضوع كما عن ظهوره من جديد".

نداء الضد

بمعنى آخر، ما يقوله آلان تورين يشير إلى نقطة جوهرية: يشكّل الموضوع الفكرة الوحيدة التي يمكنها أن تعيد تركيب الحداثة وأن تعيد مصالحة الاقتصادي مع الثقافي. لكن السؤال الذي يطرح ما هو عليه هذا الموضوع؟ بداية، إنه لا يشبه الموضوع القديم، ولا يُحدّد نفسه لا عبر مؤسسات ولا عبر أيديولوجيات. لا يمكننا أن نقبض عليه إلا عبر وضعية مقاومة وعبر وضعية نداء ضد نظام أو ضد سلطة. فهدفه يكمن في حرية الفعل، إذ أنه يتأسس عبر أشكال توتر المجتمع المتنوعة.

ربما يجد كثيرون بأن الكتاب هذا يُشكل نوعًا من طوباوية. إذ ألا يكمن حول موضوع غير موجود، بعيد عن الواقع؟ يبدو آلان تورين في كتابه هذا، أو لنقل يملك تورين "المعاصر" - وبعيدًا عن تساؤلاته وتفكيره وتأويله الحالي - بعض التجاذبات والتوافقات مع ذاك الشخص الذي أراد، بعد أيار/مايو 68، صوغ العبارة النظرية للحركات الاجتماعية الجديدة، التي سرعان ما اندثرت بالسرعة عينها التي انبثقت فيها. إذ "يعترف" الكاتب بالقول: "لا أنفي بأنه في رجوعي إلى إيتيقا الموضوع فإن الخطاب يُستهلك بسرعة". لكن ألا يبدو الأمر عينه - أي استهلاك الخطاب - حين يطالب أي خطاب آخر، أجرد، باستدعاء المنطق والضرورة؟

في أي حال، من حسنات هذا الكتاب أنه ينظر إلى أزمة الحداثة بشكل مباشر، وهذا أمر غير مألوف بكثرة، كما أنه يحاول قياس هذا "المأساوي" الناتج عن ذلك، أضف إلى ذلك أنه يحاول تبصر مواقع الكمون المتعددة. قد لا يكون التفاؤل متعارضًا دائمًا مع الخلوص والنقاء. بمعنى آخر، تبقى قراءة هذا العمل محفزة للغاية لأنها تشكل مساهمة فعلية في النقاش الحالي حول أزمة الوساطات السياسية، وبشكل أعمّ، حول مكانة الفرد في التحليل الاجتماعي حتى ولو كانت الحال – كما هي غالبًا – تفتح أبوابًا أكثر ممّا تقدم إجابات.


(*) كاتب فلسطيني/ لبناني

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.