}

برباره كاسان: الحنين الهجرة اللغة

إسكندر حبش إسكندر حبش 23 أبريل 2024
تغطيات برباره كاسان: الحنين الهجرة اللغة
برباره كاسان (Getty)

 

"ولأننا نتحمل مسؤولية فيما يخص الكلمات التي نستخدمها،

مسؤولية كوننا مؤلفين لا مستقبلين أو ناقلين،

 فإن هذه اللغة هي أيضًا شيء سياسي".

[برباره كاسان]

 

تعيش برباره كاسان في كورسيكا، وهي جزيرة لا علاقة لها بها، بكونها باريسية حتى النخاع منذ ولادتها في "بولوني –بيلانكور" (1947)؛ بيد أنها تتساءل في كتابها "الحنين، متى إذًا نكون في منزلنا"؟ [1] – منشورات Autrement – عن معنى البيت، والشعور بالانتماء إلى مكان ما. "التجذر والاقتلاع: ذلك هو الحنين"، مثلما تصل إلى هذه الخلاصة، من خلاصات كتابها.

تنطلق الفيلسوفة الفرنسية، بداية، من سؤال يبدو لها على درجة كبيرة من التأثير والتأثر، تتساءل لِمَ تقع فريسة للحنين بمجرد أن تطأ بقدميها جزيرة كورسيكا، في حين أن لا جذور لها هناك البتة؟ لِمَ هذا الشعور القوي الذي يسيطر عليها؟ القوي لدرجة أنها "شيّدت" قبر زوجها، حيث دُفن، بالقرب من المنزل الذي تمتلكه على هذه الجزيرة. قد يكون الجواب، ربما، مثلما تحاول القول، إن هذه الجزيرة تخصها هي، كذلك البحر الأبيض المتوسط، بحر الأوديسة والعودة المستحيلة. من هنا يتخذ كتابها، بمعنى من المعاني، شكل التحقيق (وربما التحقق أيضًا)، أي تسافر عبره بصحبة عوليس وإينياس وحنة أرندت، لتبحث عن وضوح العلامة؛ هذه العلامة التي تجدها عبر تعدّد اللغات، لتصل إلى أن الحنين ليس مسألة تربة بقدر ما يتعلق باللغة الأم. وتعدد اللغات هنا، هي الإغريقية (الأوديسة)، واللاتينية (إينياس والإنيادة) والألمانية (أرندت). خلاصة الجواب إذًا على سؤالها متى نكون في منزلنا؟ (وطننا) هو "عندما يتم الترحيب بنا، بأنفسنا، وأقربائنا، وأحبائنا ولغاتنا".

هذا السفر، عبر الزمان والمكان، يطرح بشدة مسألة الاقتلاع والتجذر، إذ أنهما صنوان لا يفترقان، كما الافتقار إلى هذا المكان الذي نعتبره وطننا، وما يترتب على ذلك من حنين، وبخاصة حين تبرهن أن مصطلح الحنين إلى البيت (الوطن) هذا، ليس إغريقيا (كما هو ظاهر، من كلمة نوستالجيا) [2] بل إنه ليس سوى مصطلح حديث نسبيًا، بكونه لم يظهر إلا في القرن السابع عشر في سويسرا، وهي كلمة ألمانية سويسرية اخترعها الطبيب جان جاك هاردر عام 1678 للتعبير عن الحنين إلى الوطن الذي عانى منه مرتزقة لويس الرابع عشر، أي الحراس السويسريين الشهيرين الذين كانوا يعملون في بلدان غريبة، أجنبية، وكان يُنظر إليه على أنه نوع من المرض.

 تقترب الفيلسوفة الفرنسية من موضوعها عبر ثلاث زوايا. تستحضر أولًا رحلة عودة عوليس (أوديسيوس) إلى منزله "يفتقد عودته وزوجته". الحنين هو ما يجعلك تفضّل العودة إلى الوطن- البيت، حتى لو كان ذلك يعني مرور الوقت، والموت، والأسوأ من ذلك، الشيخوخة، بدلًا من الخلود. هذا هو ثقل الرغبة في العودة. إنه اختيار عوليس. لكن برباره كاسان تشكك في هذه العودة المشهورة جدًا. لأنه بعد أن عاد لم يتعرف على جزيرته، ولم يتعرف عليه إلا كلبه. هذا التعرف (وربما الاعتراف أيضًا)، بدأ يحدث شيئًا فشيئًا، تدريجيًا. لم يكن حين وصوله أحدًا، كان عليه أن يصبح نفسه من جديد، مرة أخرى. لذا كان يتوجب عليه أن يجد مكانه، وهويته، ويثبتها، ويستعيدها، ليس فقط ضد الخاطبين، ولكن أيضًا في قلوب أولئك الأعزاء عليه. فكيف إذًا نتعرف حقًا على جزيرتنا؟ "أعتقد أننا نعترف بذلك، لأنه يتم الاعتراف بنا هناك، وهذا يعني أن لدينا هويتنا هناك".

لكن قصة عوليس لا تنتهي بهذه العودة: يجب عليه المغادرة مرة أخرى، والعثور على مكان لا يعرف البحر، ولا يعرف ما هو المجداف، حتى يتمكن من التغلب حقًا على استياء بوسيدون. علاوة على ذلك، يضعه دانتي في جحيمه، ويخبرنا بأسطورة أخرى: كان عوليس سيغادر، وكان سيحاول عبور أعمدة هرقل غير القابلة للعبور. وعلى هذا الذوق المفرط للمطلق في مكان آخر، يعاقب إلى الأبد. ربما يكون موطنه هو الرحلة، بقدر ما يكون جزيرته إيثاكا.

المثال الثاني، أو لنقل الزاوية الثانية، هو إينياس، الذي فقد منزله إلى الأبد، ويتجول بحثًا عن منزل آخر. أي أن مفهوم الحنين يدور هنا حول التجذر (مثل سرير عوليس المتجذر في غرفته) والاقتلاع. من الحنين إلى المنفى، ومن ملحمة إلى أخرى، لم يعد الهدف هو العودة إلى الوطن، بل الأساس، روما. واليقين الوحيد الذي تمّ اكتسابه في جميع أنحاء المنفى هو أنه ليست هناك حاجة لطروادة ثانية: فالأمر لا يتعلق بالتكاثر بشكل متطابق، بل بالخلق من الآخر. لكي يسمح جونو لإينياس أخيرًا بوضع حدّ لتجواله، يجب على جوبيتر أن يستسلم عند نقطة واحدة، لكنها ضرورية: لن يتحدث إينياس بعد الآن اليونانية بل اللاتينية، لغة أولئك الذين يعيشون حيث يستقر. المنفى يتطلب التخلي عن اللغة الأم. أرض الآباء، لغة الأمهات: بلغة الآخر نصنع وطنًا جديدًا. هذا ما تؤكد عليه برباره كاسان، صحيح هو تفصيل، ولكنه ليس واحدًا، أي هو تفصيل اللغة. لكي يحصل البطل على مكانه في إيطاليا، عليه أن يتخلى عن لغته، ويتبنى لغة السكان الأصليين من لاتيوم. وبهذا "السعر" قرر هيرا السماح له بالعثور على نسبه. وهو ما يطرح سؤال اللغة: ما الذي يجعلنا نشعر بأننا في وطننا، هل هو مكان أم أحباب أم لغة؟

هذا هو التساؤل، تساؤل اللغة، الذي تطوره في الجزء الثالث، وهو ما يستحضر حنة أرندت، التي تقول بعد عقود من المنفى، وبخاصة في الولايات المتحدة، إن ما بقي من وجودها السابق هو اللغة، لذا نراها تفرّق بين اللغة والوطن المرتبط بشعب ما. فاللغة الألمانية لا تنتمي إلى الألمان فقط. كما أن هذه اللغة، التي استولى عليها النازيون، هي لغة مشوهة و"لا–لغة". فعلى الرغم من "جرعات الزرنيخ الصغيرة" (والعبارة لــ فيكتور كليمبرر) التي غرستها ألمانيا النازية هناك، فإن أرندت قد حددت نفسها دائمًا باللغة الألمانية، وليس بمقارنتها بشعب أو بلد. عند أرندت، اللغة ليست متجذرة في شعب: "ليست اللغة الألمانية التي أصبحت مجنونة! هذا التفكك، اللغة/الشعب، لا يسمح ليس بحفظ اللغة فقط، ولكن يتم دمجها مع ’اهتمام التعددية البشرية’". بالنسبة إلى أرندت إن "إبهام المعنى" الذي تنقله اللغات فيما بينها والذي تحمله كل لغة في حدّ ذاتها، ينتج "ابهام العالم المعتل". "من الحنين إلى الابهام المعتل: ليتأرجح الجوهر! فعدم التأكد من جوهر الأشياء هو أفضل ما سوف يحدث للعالم وبالنسبة لنا". وتضيف أرندت، في تحليلها للغة: "أوروبا ما قبل هتلر؟ لا أستطيع أن أقول إنه ليس لدي أي حنين لذلك. ماذا بقي؟ لقد بقيت اللغة".

لذلك، إن اللغة الألمانية والشعب الألماني ليسا متطابقين ولا حتى قابلين للفرض بأي شكل من الأشكال، وخاصة على المستوى السياسي. أرندت ليست منفية من بلدها ألمانيا بقدر ما هي منفية من لغة ألمانية. وهي متعددة اللغات كلاجئة وكمنظرة سياسية. وتلي ذلك مقارنة مع هيدغر، التي نعرف قصتهما معًا.

تصرّ برباره كاسان على تعددية اللغات، وعلى تعقيد وثراء أولئك الذين يتحدثون عدة لغات، والذين لديهم تحت تصرفهم رؤى عديدة للعالم وأماكن في المقدمة، كالمنفيين، مثل حنة أرندت. وتختتم المؤلفة بالقول: "متى نكون في المنزل؟ عندما يتم الترحيب بنا، فإننا نرحب بأنفسنا وأحبائنا ولغاتنا".


من السهل الوصول إلى قلب مقالة [Essai] (كتاب) برباره كاسان، وهي فيلسوفة متخصصة في العصور القديمة، واسعة المعرفة والاطلاع، إذ تسمح لنا الاقتباسات الواسعة من هوميروس وفيرجيل وحنة أرندت بالانغماس في هذه النصوص الرائعة وكشف هذا الشعور المعقد بالحنين الذي يتأرجح بين "هيمويه" (Heimweh)، الحنين إلى الوطن، والرغبة في العودة، و"فرنويه" (Fernweh)، المرض البعيد. لذا هو بشكل عام، كتاب مثير للاهتمام، يقدم "غذاءً للتفكير" (وفق التعبير الشائع) في عصر العولمة الذي نعيشه والهجرات المتنوعة والمتعددة التي تلف العالم في عصرنا الحالي، والتي تلقى استحسانًا، عند البعض، إلى حدّ ما.

 هوامش:

[1] أو وطننا، فالكمة الفرنسية تفيد المعنيين، كما في لغات أخرى أيضًا.

[2] النوستالجيا في اليونانية، من "نوستوس" أي العودة، أما "ألغوس" فهي المعاناة.


اقتباسات من الكتاب [ترجمة: إ. ح]

أردت أن أفكر/ أحلم بالحنين لأنني أحب هوميروس وعوليس واللغة اليونانية والبحر الأبيض المتوسط.

ولكن، من الغريب أيضًا، لأنني متعلقة بــ كورسيكا، بأفق منزل وقرية وخليج، في جزيرة أخرى، وهي ليست لي على الإطلاق لأنني لم أولد هناك. "النوستالجيا" (الحنين) هي الكلمة التي تتبادر إلى ذهني بشكل طبيعي عندما أفكر فيها.

***

ثمة تبادل في الهواء. "المضيف": الكلمة نفسها تشير إلى من يرحب ومن يرحب به، وهو اكتشاف قديم، الحضارة نفسها.

ومن الضروري بلا شك أن نضيف الكلمة اليونانية  XENOS التي تشير إلى المضيّف بمعناها المزدوج، وهي تعني أيضًا "الغريب"،  الشخص الذي يجب استقباله بامتياز، بينما HOSTIS في اللاتينية تشير أيضًا إلى "العدو"، إلى الثقة- الحذر.

***

لن تعدّ اللغة "لغة أم" عندما نتوقف عن اختراعها... فحين لا تكون اللغة "لغة أم"، لن تكون هناك لغة، بل مجرد بروباغندا. في الواقع، لأن لدينا مسؤولية فيما يتعلق بالكلمات التي نستخدمها، مسؤولية كمؤلفين وليس كمستقبلين أو متواصلين، فإن هذه اللغة هي أيضًا شيء سياسي.

***

أيرلندا: مطر، رياح، اخضرار في كل مكان، أحجار في كل مكان، في كل مكان ذكريات الإهانات السابقة (طيف المجاعة الفظيع، ظلام الكاثوليكية الضيقة، الهجرة). الأرواح والأشباح ذات النعاس الأخف من أي مكان آخر. حبّ السكان غير المعقول للكلمات، الشعور بالسخرية، شعب الملائكة.

***

نهاية المنفى، تجهيز - تأسيس، تهجين مرغوب وسعيد.

***

"لقد أتيت لإعادة شحن بطارياتك"، غالبًا ما يقال لي ذلك عندما يرونني في القرية، إنه تعبير غريب جدًا– أي بطارية، أي إعادة شحن؟ لست في موطني، ومع ذلك أنا في بلدي.

***

الحنين، هو ما يجعلك تفضّل العودة إلى المنزل، حتى لو كان ذلك يعني إيجاد الوقت الذي يمر، والموت، والأسوأ، الشيخوخة، بدلًا من الخلود.

***

تتم كتابة الحنين إذًا [بصيغة] المستقبل السابق (futur antérieur) [*]، وهذا من دون شك زمن جميع الأساسات، والتي قد لا تكون أبدًا سوى إعادة تأسيس. باختصار، إنها القوة الرجعية للحقيقة التي تبني القصة عبر السرد المصنوع منها، التاريخ والقصة، باعتبارها أداء الماضي؛ لأن المؤرخين يصنعون ماضيًا معينًا عندما يكتبون التاريخ، انطلاقًا من معرفتهم بالحاضر، وفقًا لمنظورهم وهدفهم.

***

ربما قال غونتر أندرس Günther Anders [**] ذلك، اكتشفه اليوم، بقوة أكبر من أرندت، حيث يدرج تعددية فردية في قلب كليانية كلّ واحد: "ما أريد قوله، هو أن الإنسان هو أناس؛ أنه موجود فقط في الجمع... "الناس" ليست صيغة "الإنسان" المفرد؛ كل إنسان هو شكل "أناس" في المفرد".

***

يحدث هذا، أليس كذلك؟ سواء كنّا نحلم أو نخترع الجمل الرنانة بلغة لا نتحدثها بشكل جيد، هي طريقة لإعلان حبنا لها. إذا لم يكن من السهل معرفة ما الذي يتغير فينا عندما نبدل لغتنا، فليس من السهل معرفة ما نغيره في أنفسنا عندما نغير اللغة، عندما نتماس مع جسد لغة آخر ينفتح عالم آخر من الدلالات. أعلمُ فقط أنه يجب علينا التحدث (يكفي أن نحب) على الأقل لغتين لمعرفة أننا نتحدث واحدة، بأنها لغة نتحدثها؛ وبأن المنفي يملك الحظ والحنين ليفهم جسدًا وروحًا بأن لديه لغة أم أكثر من غيرها.

***

اللانهائي في النهائي، توصيف جيد جدًا للحب.

***

توسع الفلسفة المعاصرة القضايا السياسية المتمثلة في التأصيل والاقتلاع، مما يساعدنا على التفكير في علاقاتنا مع الآخرين في عالم متعدد اللغات. متى نحن في المنزل (الوطن)؟ عندما نكون موضع ترحيب.

***

ارتحالات، هجرات، فتوحات، لم يبق أي جزء من الإنسانية في مكانه الأصلي (...) كلنا منفيون!

***

حقيقة جزيرة. الجزيرة حقيقية بدقة كبيرة. نرى حوافيها من القارب، من الطائرة. (...) الجزيرة كيان بامتياز، هوية، شيء مخطط، إيدوس eidos [***]، تظهر كفكرة. في محدوديتها، الجزيرة هي وجهة نظر حول العالم. الجزيرة مغمورة بالكون، الكوني، مع السماء المنجمة فوق رؤوسنا واتساع [المشهد] أمامنا، الحساس للنظرة.

في اليونان، في كورسيكا، تعرضت باستمرار لتجربة الكوسموس (الكون)، "عالم" الإغريق-"النظام والجمال"، كما يقول بودلير.

[*] صيغة لتصريف الأفعال في اللغة الفرنسية.

[**] غونتر أندرس (ولد باسم غونتر سيغموند شتيرن): فيلسوف ألماني وصحافي وكاتب أبحاث، أصبح نمساويا، ولد في 12 يوليو/ تموز 1902 في بريسلاو وتوفي في فيينا في 17 ديسمبر/ كانون الأول 1992. تلميذ سابق لهوسرل وهيدغر، زوج حنة أرندت الأول، اشتهر بكونه ناقدا مهما للتكنولوجيا ورائد الحركة المناهضة للأسلحة النووية. الموضوع الرئيسي في كتاباته هو تدمير الإنسانية.

[***]eidos (εἶΔος في اليونانية القديمة)، وهو مصطلح يستخدمه أفلاطون وأرسطو بالمعنى الميتافيزيقي وترجمته بشكل عام عن طريق "الشكل".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.