}

في بيوتنا نساء

نبيل سليمان نبيل سليمان 15 أغسطس 2023
آراء في بيوتنا نساء
(يمين): جورجيا أوكيف، إنجبورج باخمان، قوت القلوب وهالة البدري

 

نشأتُ في بيتٍ عامرٍ بالنساء: شقيقاتي خمس، وأخواتي غير الشقيقات ثمان، ثم أمي وزوجة أبي، والمجموع خمس عشرة. ومن بعد عشتُ في بيت عامر بالنساء أيضًا: زوجة وثلاث بنات، لذا أردد منذ عقود: في بيتنا نساء، ملوّحًا لإحسان عبد القدوس وروايته التي لا أنساها: في بيتنا رجل. لكن كل ذلك انقلب بي منذ أربع أو خمس سنوات، عندما سكنني بيت مسكون بفنانة تشكيلية أميركية توفيت منذ أقل من ثلاثين سنة عن ثمان وتسعين، ومعها شاعرة وروائية نمساوية توفيت منذ نصف قرن عن أقل من نصف قرن، ومعهما كاتبتان مصريتان، الأولى ولدت عام 1899 ورحلت عام 1968، والثانية هي هالة البدري، أمد الله في عمرها لتنعم علينا روايةً بعد رواية.

أما الفنانة الأميركية فهي جورجيا أوكيف التي قيل فيها إنها (بيكاسو الأنثى) وإنها (أم الحداثة الأميركية) التي شرعت في الثالثة والسبعين من عمرها برسم ما تبدو عليه السحب والسماء في الأعالي، عبر سلسلة لوحات (السماء فوق الغيوم) وسلسلة لوحات (كانت زرقاء وخضراء)، كما شرعت وهي في ذلك السن برسم جداريات قاربت الواحدة سبعة أمتار. وكانت جورجيا أوكيف قد رسمت في شبابها سلسلة لوحات بالفحم، وأرسلتها إلى ألفريد ستيجليتز، مؤسس غاليري 291، فافتتن المصور الشهير باللوحات، ودأب من بعد على أن ينظم للفنانة دهرًا ترسم الطبيعة، من نيو مكسيكو إلى الصحراء حيث رأت العظام رمزًا للجمال الصحراوي الأبدي، وتميزت بتلك الفروق الدقيقة في اللون والضوء.

لن أتابع الكتابة على هذا النحو عن الشاعرة والروائية النمساوية إنجبورج باخمان، ولا عن الكاتبة المصرية قوت القلوب الدمرداش، لأن هالة البدري تشهر الآن روايتها (نساء في بيتي – 2018)، حيث تحيا الأخريات الثلاث بالإضافة إليها، وهنّ الشخصيات المحورية في هذه الرواية التجريبية التي تمازجت فيها أربع سير للنساء الأربع، مع سيرة الرواية نفسها، أعني سيرة كتابتها، ويتمرأى في هذا النسيج السيري كم هي الرواية بحث، ملوّحة لناتالي ساروت التي قالت ذات أمس بعيد: الرواية بحث، تعبيرًا عمّا تتطلب كتابة الرواية من التدبير المضني، كقراءة المراجع أو الأسفار أو الاستقصاء... حيث تتخلق المعرفة والرؤية الأنثوية واللغة، باللعب وبالتخييل، ليكون للقراءة هذا التشكيل الجمالي السردي الجديد الذي لم ينج أحيانًا من وطأة الفصول الثمينة الخاصة بـ (صناعة الرواية).

ابتدأت حكايات نساء بيت هالة البدري بأميرة سعد التي تعد أطروحة الماجستير عن مقارنة رواية إنجبورج باخمان (مالينا) مع رواية هالة البدري (امرأة ما). وهذا الأمر حرض البدري على أن تكتب روايتها (نساء في بيتي) عنها هي وعن باخمان، مستضيفة قوت القلوب الدمرداش وجورجيا أوكيف، ويحفزها السؤال عما إذا كانت ستتمكن من الكتابة عن نفسها من خلال أعمالها بخاصة، دون أن تفرط بالمسافة بين الواقع والخيال، وبعيدًا عن مراوغات الرقيب الداخلي.


عن قوت القلوب نقرأ مأساة هذه المرأة – الكاتبة الاستثنائية في نشأتها وعلاقتها بالصحافي محمود أبو الفتح، والتي قتلها ابنها مصطفى مختار في روما إذ ضربها بكرسي على رأسها. وكانت لها جائزتها التي فاز بها الشاب نجيب محفوظ، فحق القول إن قوت القلوب هي التي اكتشفت الكاتب النوبلي. وتورد هالة البدري ملخصًا لرواية (رمزة ابنة الحريم) ولرواية (زنوبة) لقوت القلوب التي كانت تكتب بالفرنسية. وفي اللعبة الروائية نقرأ في (نساء في بيتي) أن هالة البدري تطلب من قوت القلوب أن تقدم نفسها كما تحب. وتسألها عما إذا كانت ترغب في الانضمام إلى صالونها – لهالة البدري صالون ثقافي مرموق في القاهرة – الذي سيتحول إلى رواية باجتماعهما مع أوكيف وباخمان. وفي سيرة قوت القلوب التي نشرت لها كبرى دور النشر الفرنسية (غاليمار) رواية (ليلة القدر) أنه كان لها صالونها الأدبي الذي زاره من كبار أدباء العالم أناتول فرانس وفرانسوا مورياك وجون كوكتو. وكان في مكتبة قوت القلوب ستة آلاف كتاب بالفرنسية، صودرت جميعًا، كما كانت تقدم منحًا دراسية للطلبة الفقراء، وترغب بإقامة مصانع، وفي عام 1939 حجّت إلى بيت الله.

من حديث هالة البدري عن نفسها ما سوف يظهر في روايتها (طيّ الألم – 2022) بعد رحيل زوجها. ومن الحديث أنها كانت تجمع حولها النساء الثلاث (قوت القلوب – جورجيا أوكيف – إنجبورج باخمان)، يسهرن ويتحدثن في الموسيقى والفن التشكيلي والتصوير والكتابة والأزواج والبستنة وإعداد الطعام... وتسجل البدري أن رجال الأخريات صاروا أصدقاءها هي.

أما باخمان الكاتبة التجريبية الحداثية فيتصل بحضورها الروائي حضور صديقها الكاتب ماكس فريش الذي كتب روايته (كان اسمي جانتباين) غضبًا على باخمان، ويحضر أيضًا ألفريد ستيجليتز واليهودي جاك الذي رحل إلى فلسطين. وكان الصهاينة يصمون باخمان بالشاعرة الساقطة، وهي التي باتت تردد أنها موجودة فقط عندما تكتب، وأنها لا شيء عندما لا تكتب. وقد عُرفت بالعربية كشاعرة بترجمة ديوانها (الزمن المؤجل) وكقاصة في مجموعة (العام الثلاثون). وكانت قد أدارت ظهرًا لدراستها القانون لتقبل على دراسة الفلسفة وعلم النفس، فكانت لها أطروحتها (التلقي النقدي للفلسفة الوجودية لدى مارتن هيدغر)، وهي القائلة "أن أكون حرة لساعة واحدة/ حرة وبعيدة / مثل أغاني الليل في الأجواء / هذا ما أريد".

تكتب هالة البدري أنّ إنجبورج باخمان قالت لها: مشكلتك أنك تنظرين إلينا كحالات يمكن فحصها وتحويلها إلى ظواهر، لكننا بشر يا هالة. ولعلّ هذه العبارات الواخزة الناقدة أن تكون أقصى ما يمكن أن يؤخذ على العلاقة التي نسجتها الكاتبة في روايتها بين الواقع والخيال. فالنساء الثلاث كيان متحقق ومتعين قبل موتهن. هن أجساد قبل موتهن، وهن لوحات وروايات وأشعار بعد موتهن. أما في الرواية فهنّ نساء من خيال. وبعد هذا وذاك لا ننسَ هنا أن من كتب تلك العبارات الواخزة الناقدة هي نفسها هالة البدري، في درجة عالية من وعي الذات لما تبدع. وهذا الوعي النقدي يتجلّى أيضًا في نقودها لإبداعات الأخريات. وهي تحدثنا أيضًا عن لقاءاتها المتخيلة ببطلات الروايات: ناهد بطلة روايتها (امرأة ما) ورمزة بطلة قوت القلوب. وبما يخصها هي تفسح في الرواية لأميرة سعد فيما تكتب مقارنةً بين (امرأة ما) ورواية باخمان (مالينا)، كما تفسح لما كتب وحيد الطويلة وفاروق عبد القادر وخزعل الماجدي، مما يعزز ما في (نساء في بيتي) من وعي نقدي للذات والآخر. والآن وبعدما عشت في بيت هذه الرواية، أستذكر رواية ممدوح عزام (نساء الخيال – 2011)، وأصدق الخيال كما أصدق الواقع، أصدق البيوت التي عشت فيها عامرةً بالنساء كما أصدق البيوت الروائية العامرة بالنساء، وفي صدارتها ما أبدعت هالة البدري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.