}

كيف تنقّلت من سارتر للتوحيدي: إعادة نظر بالتراث العربي

مها حسن 28 أغسطس 2023
آراء كيف تنقّلت من سارتر للتوحيدي: إعادة نظر بالتراث العربي
أبو حيان التوحيدي (صورة متخيلة) وجان بول سارتر

كلما حاولت التنقيب عن جذوري المعرفية، وكيف دخلت عالم الكتابة، والانتقال من الحكاية الشفوية المتناقلة عبر المحيط العائلي والاجتماعي، للذهاب إلى تدوين صيغتي الشخصية، عبر الرواية، وجدتني أنتمي للأدب الغربي.
منذ نعومة أظفاري، كما تستعمل هذه العبارة النمطية، دخلت عالم الكتب عبر السياسة، حيث فتحت الماركسية أمامي كتب كارل ماركس ولينين أولًا، ثم أخذتني إلى أصول الديالكتيك عبر هيغل، ثم رحت إلى نيتشه، وتورطت في التجربة المعرفية الغنية للفلسفة الغربية، ووقفت طويلًا لدى الوجودية، التي عرّفتني على الأدب الغربي.
لا أزال في العمق، أحمل في داخلي شجرة سارتر، لا أزال أجمع بين غراميّ: الفلسفة والأدب معًا، ولا أزال ممتنة لسارتر، الذي نقلني من الفلسفة المحضة إلى الأدب، ومنه تعرفت على كامو، وأندريه بروتون، والحركة السريالية لاحقًا، ثم الاكتشاف الأهم في مرحلة النمو لدي، أو البدايات: عالم كافكا.
عبر هذه الخلاصة السريعة لعلاقتي مع الكتابة، التي جاءت أصلًا من السياسة، ونمّتها الفلسفة، أعرف دائمًا أنني أنتمي إلى مدرسة الأسئلة والخروج عن السياق المريح المُرضي، وأعرف أيضًا أن علاقتي بالأدب العربي مشوبة بالحذر والرفض أحيانًا.

مكتبة المدرسة
أول كتاب قرأته في حياتي، كان "هكذا تكلم زرادشت"، الذي وجدته بنسخة مهترئة، وبصفحات ناقصة، في بيت عمتي، حيث لا أحد يقرأ سوى أولادها الصغار، الذين ربما أحضر أحدهم الكتاب من أحد البيوت، أو ربما كان قد عثر عليه مرميًا ولم يفهمه، فوضعه في البيت كأية قطعة أخرى نتركها لوقت اللزوم. صدمني الكتاب، وخلق في داخلي هوس البحث عن النسخة الكاملة، كأنني أعيش لغزًا تشويقيًا أود كشف سره.
حاولت أن أبحث عن متعتي في المكتبات لاحقًا: هذا التركيب الساحر من مجموعات هائلة من الكتب يخلق نشوة استثنائية، وشغفًا غامضًا لاكتشاف شيء ما.
ولأنني نشأت في بيئة فقيرة وأميّة معًا، لا تتمتع بثقافة الكتاب، فقد رحت أبحث عن هذا الحلم خارج عائلتي، وكانت وجهتي الأولى: مكتبة المدرسة.
أمينة المكتبة كانت شخصية منفّرة وصفت أمثالها، يومًا، بعضوات الاتحاد النسائي في حلب، اللاتي شوّهن مفهوم النسوية وحقوق المرأة في طفولتي: نساء يصفّفن شعورهن بطريقة واحدة، صارمات، غاضبات، مُنتقدات، مُوبّخات... هذا النوع من النساء المتعالي على الطفولة، وحراك الأسئلة وشغف التعلم والاكتشاف، نساء يمثلن تمامًا سلطات الذكر سياسيًا واجتماعيًا، نساء موظفات لدى نظام تربوي ومؤسساتي محكوم بسلطة البعث.
كنت أشعر بتوتر كلما دخلت المكتبة، كأن مكتبة المدرسة هي سجن للكتب، بدلًا من أن تكون فسحة للحرية والمعرفة. ورغم أنني تابعت استعارة الكتب، لكنني لم أكن أستمتع بما أقرأ، وعرفت لاحقًا أن اختيارات الكتب كانت مرتبطة بذائقة تقليدية سلطوية باهتة لا تتيح متعة التعلم والاكتشاف.
هذا النفور التلقائي الذي قد يشعر به أي كائن يبحث بحرية عن المعرفة لازمني في علاقتي مع أمينة المكتبة في جميع سنوات دراستي الإعدادية والثانوية، إلى أن اكتشفت المكتبة خارج إطار المدرسة.

مكتبة حافظ ومكتبة الفجر
بدخولي إلى الجامعة، اتّسع فضائي المكاني، وخرجت من إطار الحارة، لأدخل أحياء جديدة وبعيدة، فأكتشف عالم المكتبات الخاصة.
البداية كانت مع مكتبة الفجر، التي كانت معروفة بميلها اليساري، وأغلب كتبها ذات عناوين غربية، تهتم كثيرًا بالكتب السياسية والأدب الروسي. لكنني أيضًا اكتشفت كتبًا عربية هناك، إلا أنني لم أنتقِ أي كتاب عربي.
وجدت شغفًا جديدًا لدى تلك المكتبة، حول الأساطير، ورحت أقتني كل الكتب التي تتحدث عن الأساطير. أذكر أن السبب أيضًا كان كتابًا عن علم الجمال الماركسي، الذي أخذني إلى أساطير الجمال عند القدماء. وهؤلاء القدماء كانوا بالنسبة لي اليونان، الرومان... ولم أنتبه أبدًا إلى غيرهم، كالمصريين، أو الفينيقيين، أو العرب.




من مكتبة الفجر، حين كنت أزور مع صديقاتي في الجامعة، أستاذًا نحبه، كان عضوًا في حزب البعث، وكان مكتبه في فرع الحزب في حلب، ورغم نشأتي السياسية المعارضة، كنت أحب النقاش الفكري الحيوي مع ذلك الأستاذ، في المرحلة التي أسميها بالمراهقة الفكرية، حيث كنت نهمة إلى الحوار مع جميع الاتجاهات والتيارات، السياسية والفكرية، باحثة عن هويتي التي لم تتشكل بعد آنذاك.
مقابل مبنى الحزب، وجدنا، صديقاتي وأنا، مكتبة حافظ، وهناك، وجدت سارتر، وكامو، وكل ذلك الأدب الذي نمّى لدي الرغبة في أن أصبح ذات يوم كاتبة...

العودة المفاجئة إلى التراث
عشت حياتي الأدبية متغذية من الثقافة الغربية، وحدثت قطيعة كبيرة بيني وبين الأدب العربي. لم أقرأ، كأبناء وبنات جيلي لنجيب محفوظ، أو جبرا إبراهيم جبرا، أو محمد البساطي... كنت أشعر بنفور غريب من أي كتاب عربي، خاصة الكتب التراثية القديمة، ولم أقتن يومًا كتابًا عن الجاحظ، أو التوحيدي، أو ابن رشد...
ولأنني صرت كاتبة، كنت أعاني من الإحساس بالغربة بين الكتاب العرب، لأن مرجعياتنا مختلفة، وأشعر بالنقص حين يتحدثون أمامي عن كتّاب عرب، وأخجل أنني لم أقرأ لهم.
صرت أقرأ لا بدافع الاستمتاع والتعلم والاكتشاف، بل بفعل الواجب: كيف أكون كاتبة عربية ولم أقرأ لنجيب محفوظ مثلًا؟
أعترف أنني لم أكن أجد متعة مماثلة وأنا أقرأ الكتب العربية، كما تلك الكتب التي أسست وعيي وذائقتي، وهذا موضوع يطول شرحه، يتعلّق بانتصار أو سيادة اللغة الإنشائية والبذخ اللغوي على الفكر، حتى في الأعمال الإبداعية. ولكن تحوّلًا مباغتًا أصابني، عندما، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، قرأت مقطعًا كتبه أحدهم في الفيسبوك، من كتاب لعبد الفتاح كيليطو، ففتح أمامي أبوابًا جديدة للقراءة، ثم أخذني كيليطو ذاته، بمنابعه الفكرية الجادة والممتعة معًا، إلى التراث العربي.
حكيت في كتابي السردي "أحد يسكن رأسي" كيف اكتشفتُ القرابة الفكرية بيني وبين كيليطو، الذي أرى فيه أول من أعادني إلى المنطقة العربية فكريًا، حيث كنت أشعر بالقرابة من كافكا، سارتر، رامبو، أندريه بروتون، دستويفسكي... ولم أشعر يومًا أنني أنتمي للكتابة العربية، إلى أن تعرفت إلى عوالم كيليطو، فشعرت أنني أدخل بستان العرب من باب جديد ومختلف، هو باب التراث الذي لم أحظ من قبل بفرصة الاطلاع عليه.
لأقل من دون خوف وتردد إن هنالك فجوة معرفية بين الأدب العربي الحديث، الذي لم تتشكّل هويته بعد، في رأيي، وبين الأدب العربي القديم الذي يتمتع بهوية مهمة لم أتوقف عندها، بسبب القطيعة الفكرية بين هذا الأدب والواقع الاجتماعي والسياسي العربي، والنظريات الثورية في الأدب العالمي، التي لم يتمكن الأدب العربي المعاصر من مواكبتها، فجاء أدبًا يحمل بصمات الماضي، لغويًا، من دون الاشتغال على الفكر والشكل المعرفي واللغوي أيضًا.
لهذا، فإن كيليطو مدرسة، يحمل ما يشبه كتيّب الإرشاد صوب أدب مختلف: بسيط وصعب، سهل ممتنع، عميق، مكثّف، أصيل، وحديث...
أشتغل اليوم على تيمات جديدة، أعود بها إلى الوراء، لأكتشف ضحالة معلوماتي عن التراث، فأنا مهمومة بموضوع الصداقة، لأجد كتاب التوحيدي كأنني أعثر على صنبور ماء في حديقة قاحلة.
لهذا، أكثر ما يشغلني اليوم هو السؤال التالي: ما الذي نفّرني من الكتابة العربية لألجأ إلى الأدب الغربي "الذي صنع ذائقتي وميلي واكتشافي للكتابة"، وكيف صرت أعود اليوم لأستمتع ببعض كتب التراث؟
الإجابة على هذا السؤال ستساعدني للعثور على الوصفة العظيمة التي يجب أن تقدمها الثقافة: المتعة والفائدة معًا.
لا أزال في منطقة البحث عن الجواب... ولا يزال العمل يحتاج إلى كثير من التأمل والتركيز والقراءة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.