لا يعيد الشعر إنتاج الواقع
في هذه الرؤية، لا يعيد الشعر إنتاج الواقع كما هو فحسب، بل يحوّله إلى شيء أجمل وأسمى. فالشاعر هو فنان يتمتع بالحرية الإبداعية المطلقة، والحرية هي انعكاس لجوهر الإنسانية. الشعر هو الوسيلة التي يستطيع الشاعر من خلالها التعبير عن هذه الحرية وهذا المثل الأعلى للجمال وكل الأسئلة الشائكة.
كما يمكننا أن نفهم أهمية التفكير. الشاعر، من خلال التأمل في الواقع الذي يحيط به، يفسر ويخلق وجهة نظره الخاصة بين الواقع الحيّ وخلقه الشعري وهو ليس ملزمًا بالشرح والتوضيح الكامل. وهكذا يصبح الشعر ثمرة تأملية عميقة وساحرة، وقد لا يقدم كل التفسيرات الشخصية والاجتماعية بل هو يثري الواقع ويعيد قراءة ما وراء هذا الواقع.
باختصار علينا أن ندرك القوة الخطرة المتعالية للشعر، والتي تتجاوز مجرد إعادة إنتاج الواقع لخلق مثال للجمال مشبع بروح الشاعر. يبرز هذا المنظور الرومانسي أهمية الإبداع والحرية الفنية والتفكير في العملية الشعرية، مع التأكيد على نشاط إبداعي إنساني.
تُعرِّف أطروحة أندريه فرانسوا ماجديلين كاسين الجمال بأنه ما يعبر عن شخصية بارزة من الذكاء والثبات والقوة والعظمة الأخلاقية. يربط تعريف الجمال بالصفات الفكرية والأخلاقية العميقة، التي تربطه ارتباطًا وثيقًا بالحقيقة والعناصر الجوهرية. وينبثق جوهر الجمال من عمق روح الشاعر، حيث هو مزيج بين العقلاني والحساس، وكذلك بين الشكل والمضمون.
ونعلم جيدًا أنه غالبًا ما يرتبط الشعر الكلاسيكي بموضوعات مستوحاة من واقع الإنسان المحيط، مثل الطبيعة والعواطف. وكل هذه المواضيع يمكنها أن تفرض قيودًا أو قواعد صارمة، لا سيما فيما يتعلق بالموضوعات الحساسة مثل الدين.

استكشاف حقيقة أعمق
في المقابل، يتخذ الشعر السريالي مقاربات كثيرة مختلفة جذريًا؛ حيث يرفض السرياليون القيود والرقابة التقليدية. إنهم يسعون لاستكشاف حقيقة أعمق، غالبًا عن طريق التشكيك في الأعراف الراسخة واستكشاف الموضوعات المحظورة مثل وجود الخالق والجنس وحتى الجوانب الاستفزازية مثل تضحية المسيح. يسعى السرياليون لاكتشاف الواقع الحقيقي، غالبًا عن طريق الخوض في العقل الباطن والأحلام والارتباط الحر للأفكار.
بدفع حواجز التقاليد، يبحث السرياليون عن شكل جديد من الأصالة الفنية، ويسعون لكشف النقاب عن حقائق يعتقدون أنها أعمق ووجهات نظر غير مستكشفة. هذا يخلق توترًا بين الواقع الظاهر والواقع الخفي، وفي هذا التوتر يجد الشعر السريالي صوته الفريد والاستفزازي والصادم.
نعلم أنه منذ القرن العشرين أصبحت أزمة مفهوم الواقع مكانًا فلسفيًا، حيث أزهرت الأفكار الجمالية الجديدة والجريئة وفي جميع المجالات الفنية، كل ذلك بمثابة ترجمة ورغبة تحرير معايير الواقع ومحاولة تجسيد الانطباعات المجردة إلى رفض التقليد في الرسم والفن والكتابة، لذلك كان البحث عن الاستعارات غير التقليدية في الشعر، ورفض البنية الهارمونية الصوتية في الموسيقى. ذوق هذه الفترة يميل إلى تصوير اللحظة الفورية بدلًا من وصف الواقع أو تصوير الماضي ببساطة.

تحدي معايير أخلاقية وقلب نظم مؤسسة
بالتالي، يتحدى الشعر السريالي معايير أخلاقية ويقلب نظمًا مؤسسة للقيم التي يقوم عليها تاريخ الإنسانية. إنها فترة تجديد، تقلب قواعد البناء النحوي واللغوي. من خلال أشكالها المتنوعة للتعبير، تمثل هذه أن الشعر بمثابة لذة ووجهة نظر واقعية تسعى لفهم جوهر الحقائق والتعبير عنها ذاتيًا حتى لو خالفت معتقدات وثوابت ومراجع دينية مقدسة.
تحدّى الشعر السريالي الأعراف الاجتماعية والقيم الراسخة والقيود الأخلاقية في عصره. تحدى النظم القائمة، وفتح طرقًا جديدة للاستكشاف الفني والذهني. من خلال استبدال الوصف الحرفي للواقع بالتمثيلات الذاتية والخيالية، ساعد الشعر السريالي على توسيع آفاق التعبير الفني وفتح مساحات للتفسيرات الشخصية والعميقة.
باختصار، الشعر السريالي هو في الواقع بحث عن الحقيقة وتصوير للواقع يتجاوز الحدود التقليدية لاستكشاف أعمق  للوعي البشري. إنه استجابة قوية للتغيير الثقافي ومصدر مستمر للإلهام للتعبير الفني المعاصر.

يقدم الشاعر الفرنسي رينيه شار صورة مذهلة في إحدى قصائده وفيها يصور لنا مشاهد صادمة، حيث يصور فراشة تعيش في جمجمة كلب (Getty)

وسيلة لتغيير العالم
بالنسبة للسريالية تعتبر الشعر والفن وسيلة لـ"تغيير العالم بشكل أعمق"... ومثلما كتب في أدبياتهم "فيما يتعلق بتحرير اللغة، سعت السريالية إلى هدفها. تكتسب اللغة معاني خاصة في هذا النشاط الذي لا يقتصر على مراعاة الـ 'كلام' فحسب، بل يشمل أيضًا الإملاء الحر لللاوعي. في قاع كل تطور، نلمس الرغبة مرة أخرى ودائمًا منذ حركتها الأولى. إنها الهدف النهائي لكل بحث وسعي وتجربة، كنقطة انطلاق بين الخيال والواقع، حيث تظهر في النشاط الإبداعي حدود متنوعة. أي السعي والمحاولة التي يمكنها الوصول إلى القيم المطرودة بشدة من قبل الرقابة الصارمة للعقل والنظم، وتجعلها قابلة للفهم". ثورة السريالية قامت بتدمير جميع الحدود اللغوية والجمالية التي سيطرت لفترة طويلة على الشعر والفن التشكيلي. هذا التوسع في اللغة أدى إلى تعقيدات عسيرة بعضها يناقض الفهم والمنطق ليوقظ الخيال. لتوضيح قوة لغة السريالية، يقدم الشاعر الفرنسي رينيه شار صورة مذهلة في إحدى قصائده وفيها يصور لنا مشاهد صادمة، حيث يصور فراشة تعيش في جمجمة كلب، ويبحث عن الألوان في أرض خربة.

في الواقع، تقدم قصيدة رينيه شار تسلسلًا بصريًا مذهلًا من السطر الأول. حيث يخلق هذا التسلسل جمالًا غير عادي من خلال الجمع بين العناصر التي تبدو متناقضة: الفراشة، رمز الخفة والنعومة، مرتبطة بجمجمة الكلب، وهي صورة أعمق وغير متوقعة. هذا المزيج من الصور المعاكسة يخلق تأثيرات مفاجئة ومتباينة، مما يتسبب في صدمة نفسية للمتلقي.
يمكن تفسير استخدام هذه الصور غير العادية والاستفزازية على أنها محاولة من الشاعر لزعزعة التوقعات والتصورات التقليدية للقارئ. من خلال خلق تباين بصري صارخ، سعى رينيه شار إلى إثارة استجابة عاطفية مكثفة، عن طريق تعطيل أنماط التفكير المعتادة واستحضار انعكاس أعمق.

تقنيات فنية مبتكرة
تهدف مثل هذه التقنيات الفنية المبتكرة إلى إثارة المشاعر وإشراك القارئ في عملية التفكير. سعى الشاعر لتحفيز مدى تفاعلنا واستجابتنا العاطفية الحقيقية، وتلهمنا للنظر في العناصر التي تبدو متناقضة من زاوية جديدة. يمكن لهذه الإستراتيجية أيضًا أن تعزز تأثير القصيدة من خلال خلق تجربة لا تُنسى وتأسرنا بهذا الضجيج الجمالي المثير.
باختصار، إن استخدام تسلسل بصري غير عادي واستفزازي في هذه القصيدة يهدف إلى صدمات عاطفية وتذوقية، وتحدي لكل التصورات التقليدية، وتشجيع التفكير بشكل أعمق في الصور والمعاني المقدمة. إنها طريقة قوية شعرية وفنية للوصول إلى المتلقي وإشراكه بطريقة لا تُنسى ومثيرة للذكريات.
من مبادئ الشعر السريالي والنهج الفني الذي يميزه بشكل جيد جدًا أن هناك بحثًا عن التعبير المحرر من التحكم الداخلي، ومن القيود العقلانية والتقاليد اللغوية. هذا النهج يتطلب خيالًا لا يُقيده شيء، حيث يتم التركيز على الصورة كمصدر أول للمعنى، بعيدًا قبل الإبلاغ  بالكلام.

الكتابة التلقائية
استخدام الكتابة التلقائية الأوتوماتيكية والكثير من الألعاب السريالية تهدف إلى أن المبدع يضرب عرض الحائط بالبعد اللغوي التقليدي للغة. يرى السرياليون أن اللغة في كثير من الأحيان مقيدة بأنماط التفكير التقليدية، ولكنها في الحقيقة لديها إمكانيات أكثر غنى وتفردًا وجمالًا. يحاولون بالتالي الكشف عن الطبقات المتعددة من المعاني التي يمكن أن تحتوي عليها الكلمات والصور، من خلال استغلال الصدفة والروابط الحرة للوصول إلى معانٍ غير متوقعة وعميقة مبتكرة.
في سياق الشعر السريالي، يمكننا أن نفهم بحدوث انقسام معنى القصيدة إلى مسارين متوازيين، أي هناك معنى مباشر وواضح وقابل للفهم، يتجذر في العقل والمرئيات وقد يكون قليلا في مساحة العمل الإبداعي، بينما من الجهة الأخرى والضفة الأوسع والأهم، هناك معنى يغوص في الفوضى والروحانيات، والمشاعر، وغير المرئي. هذه الثنائية تهدف إلى التقاط تعقيد تجربة الإنسان، من خلال استكشاف جوانب الواقع الملموس والظاهر أي المرئي لنا جميعا وجوانب العواطف والتجربة العميقة التي تتجاوز المجرد وتذهب إلى الأبعد أي الميتافيزيقي.
من خلال تحطيم القيود المعتادة للفكر واللغة، يحاول شعراء السريالية بالفعل إنشاء وجهة نظر جديدة للعالم، من خلال التركيز على استكشاف أعماق العقل والروح والخيال. وهذا يؤدي إلى تجربة شعرية عميقة ومنظور فريد حول الواقع والحقيقة.
ثمة روح ثورية تحرر المشاعر وتحرر المبدع وحتى المتلقي من أي قيود عبر تجليات متعددة. الروح الجديدة تعارضت من البداية مع الصيغ المعتادة. لم تكترث السريالية بردة فعل المدارس الأخرى ولم تأبه للرفض وحتى العداوة ضدها ورغبت بأن يكون لها نهجها الخاص المتجدد. يخلق العمل الإبداعي هذه الروح الجديدة وجمالًا جديدًا ليفتح آفاقًا جديدة على الكون الخارجي والداخلي.
وكنموذج، لنتأمل  قصيدة "الجمرة"، حيث يدخل أبولينير عالمًا خياليًا مجنونًا من خلال معاناته وألمه الذي يصبح كالمصير المفجع والصاخب.
الشعر هنا هو وسيلة للتعبير عن الهواجس الداخلية المفجعة. ويقول ميشيل ديكودين: "بعض القصائد يمكن أن تخضع لـ 'تفسير سيرة ذاتية’ وهناك حالات وقصائد مميزة، حيث يلعب 'الكحول' الدور المنشط بالعودة إلى الماضي، ويكون الخلق الإبداعي كنوع من تركيب الذاكرة على هيئة مقطع فيديو".
نفهم إذًا أن الهدف الأساسي للشعر ليس مجرد نشاط  لخلق شعور، ولكن أيضًا لإنشاء تركيب وعرض للخيال. كل ما يمكن قوله هو أنه يدرك المبدع أنه وصل إلى شعرية جديدة إنسانية في الوقت نفسه، عن الأحلام والكوابيس وأحلام اليقظة وربما هذا أيضًا قد يغذي ويصور الولع والحب والعشق، لكن المبدع لم يعد يتعامل مع المشاعر وتصويرها وسردها لنا فقط، بل نجد الكثير من إسقاطات الخيال. فقط الشاعر هو القادر على وصف الروح البشرية من خلال جوهر العمل. في بداية قصيدته "ثلاثية القافية لروحك"، يصور أبولينير الروح باستخدام صورة الطفل والشبح، أي أنها مرئية وغير مرئية في نفس الوقت.
الكتابة التلقائية، وحرية التفكير، والخيال، وهذه الروح الجديدة المثيرة بما فيها من شكوك، هي عوامل سمحت بالوصول إلى صور جديدة أي عناصر جعلت القصيدة أكثر ميتافورا. تسعى القصيدة المفعمة بالصور كأنها أفلام سينمائية تحاول وتجرب، لتصوير المزيد من الرغبات والأحلام. يمكن لهذه العناصر المختلفة أن تجتمع عند الشاعر السريالي في إطار قصيدة واحدة أو في بيت واحد أو عدة أبيات، مثل بول إيوارد، رينيه شار، ورادوفان إيفسيك وغيرهم.
"يجب أن يُكتب الشعر من قِبَل الجميع، وليس من قِبَل واحد"- هذه الجملة التي وجدوها في أعمال لوتريامون، اعتبرها السرياليون، الذين نقلوها غالبًا، واحدة من أسباب كتابتهم. الشعر ليس ممارسة يحملها بعضهم وحدهم، بل يجب أن يكون متاحًا للجميع، لأنه في المقام الأول يهدف إلى إلهام البشر الآخرين. وبهذه الروح، كتب إيوارد وأصدقاؤه قصائدهم معًا.