}

اللسانيات ورؤية العالم: عن شغف التنقيب في معارج اللغة

نادر سراج 2 سبتمبر 2023
عتبة
التبصر في العلاقة الجدلية بين رؤية الباحث للعالَم المتعدد الأكوان المتشكّل من حوله، وقدرته على تشفيره ومعاينة ظواهره، بالأداة اللسانية، نهجًا وتطبيقًا وقياسًا واصطلاحًا، هما مدار هذه القراءة لكتاب "اللغة والجنس: حفريات في الذكورة والأنوثة" للأكاديمي المقتدِر عيسى برهومة، في طبعته الثانية والمزيدة (صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2023).

اللساني ورؤية العالم
رؤية العالم، أكوانًا وشمسًا وقمرًا، فرضيّةٌ تستمرُ في استحقاق اهتمام كلّ المشتغلين بمسائل اللغة والتواصل في عالم اليوم. يستعملها أشياع المدرسة اللسانية الوظيفية، وكاتب هذه السطور منهم، وأتى على ذكرها أندريه مارتينه في كتابه "وظيفة الألسن وديناميتها"(1). ففي فقرة "لسانٌ ما والعَالم" يتكلم عن فرضيّة تلخّص وجهةَ النظر الهمبولتية الجديدة New Humboldtien، ومفادها أنّ "رؤيتنا للعالم هي في آخر المطاف مُحدّدة بالبنية النحويّة والمُعجمية للِسان الذي تعلّمناه في طفولتنا".
بحرفية صنّاع المعرفة الحيّة، وبلغة تدثرت سهلًا ممتنعًا، منتقاة بعناية مفرداتها، ينسج برهومة على هذا المنوال المعرفي في كتابه. فيتقحّم أبعادًا معرفية ويخوض مجالًا علميًا بكرًا، مخضعًا ـ كدأبه ـ المسلَّمات لثقافة السؤال، مستلهمًا "الهوامل والشوامل" لأبي حيّان التوحيدي، يقارب تضاد الذكورية والأنوثية باعتباره "ملكة المسائل" التي تحتاج أجوبة شافية، لا بوصفه تبسيطًا مخلًّا ومبتسرًا. ميزة الكتاب أنه يؤنسن المادة المعجمية المدروسة، ناقلًا إياها من صيغتَي التقليدي المتوارث والبدهية الكلامية إلى مرتبة التفكّر العلمي المحاكي تطلعات عصر التنوير.




وفضيلة الكاتب أنه عدّل أشرعته ليحفر عميقًا في الوعي العام، لا في الجنوسية فحسب. بل آتت مقاربته ثمارًا فرأى العالمَ الجنسوي على حقيقته، وطرق بابه بأداة لسانية مجوّدة أقدرته على أن يُريه لقرّائه بعيون العربية وبلسانها المبين.

التبعات اللغوية للذكورية والأنثوية
انشغل المؤلِّف بتقصي تبعات الذكورية والأنثوية، دلالات وتسميات وتوصيفات ومجازات ومخبوءات، واقتفى رجع صداها في صيغ اللغة وعند متداوليها ومتداولاتها. أصاخ السّمع والبصر، ونقّب عنها في أمهات الكتب والقواميس. تيقن، حاله حال باحثين مهتمين، أن منطق الضاد المتمثل في تراكيبها ومفرداتها، بل صرفها ونحوها وأدبياتها، متحيز للرجال من دون النساء. ذلك أن جلّ ما أفرده النحاة للنسوة في مصنفاتهم هو "نون"، و"تاء"، وصيغة "جمع سالم"،... ما توقف عندها، بل كشف ببساطة عمّا قرأه في متون الأسلاف والمعاصرين، فقمّشه وشققه وحلّله وحَيّنه. كما عاينه بتجرد في مقاماته وسياقاته، وبعيدًا عن أية معيارية وفئوية.
شواهد الإثبات الكثر المتسمة بالخصب والتنوع أظهرت أنه لم يفرق بين مرذول ممجوج من جهة وجميل مقبول من جهة ثانية؛ فالكل عنده سواسية في التعبير عن الذات المتكلمة أو المقصودة بالكلام، أنثوية كانت أم ذكورية.
أعاد المسألة إلى إطارها الحقيقي؛ وصل ما انقطع في وعي الجمهور العريض. ذكّرنا أننا نعي اللغة وندرسها لذاتها وبذاتها كما ينادي "معلم جنيف"، وهي مؤسسة اجتماعية وناقل أمين لثقافة المجتمع، وقناة حاملة لموروثات الجماعة اللغوية الواحدة. وبهذه الصفات الاعتبارية فهي "تنسخ"، أي تترجم المدركات الموروثة القابعة في الأذهان والمتداولة بتلقائية على الألسن على جاري العادة والعرف. ليس في مقدورها أن تبتدع ألفباء مصطنعة، أو تخترع واقعًا مُجمّلًا وغير قائم. فاللساني لا يصطنع معطيات مدونته، بل يحيط بها ويستمد عناصرها المعيوشة، فالمدونة لاحقًا من صميم بيئته.

الكتاب مناصرًا الحق التعبيري للكائن اللغوي
تتمحور فكرة الكتاب حول مناصرة الحق التعبيري للكائن اللغوي بملمحه الإنساني، أيًا يكن نوعه الاجتماعي. فعلاقة الجنسين ـ أقلّه لغويًا ومعجميًا وطبيعة تركيبية ـ  يفترض أن تكون تكاملية وندية لا ضدية تنازعية. لذا يبيّن برهومة على مدى 184 صفحة، وبالشواهد المثبتة، أن اللسان الاجتماعي ليس مندفعًا كفايةً في مجال مناصرة قضايا المرأة في شتى أحوالها. لذا تطرقَ إلى وضعيتها اللغوية بعيون المجتمع وبأقلام معجمييه، وبلسان الآخر ـ المُشرّع والمؤرّخ والمحلل ـ ومنطقه، وتعاملَ بحيادية مع وضعية الرجل، شريكًا وندًا لها، لا خصمًا.



منطلقًا من سعة اطلاع على دقائق بلاغة الضاد وفصاحتها، وتمكُّنٍ من تطويع بناها النحويّة والمُعجمية، يرفد أستاذ اللسانيات الاجتماعية في الجامعة الهاشمية المكتبةَ العربية بمنجز معجميّ موشّى بتمثلات رمزية من لدن بيئته الثقافية. بكفاءة الباحث اللساني المتمرِّس، يأخذ بناصية القارئ العربي المهتم ليشركه، بل يدخله منطقة الوعي، وفق تعبير نجيب محفوظ. مراده من تجديد النظر إلى مسألة تعاطي معاجم اللغة مع مفهوم الجنسوية، أن ينعش ذاكرة قارئه، ليتبيّنا معًا مكامن "الخلل" التعبيري المتسرّب والمتمكّن من نسيج لغتنا العربية، وربما سواها.

العمران والعيش المتغيّر يفترضان تجديد النظر
عصارة بحثه أن العمران والعيش المتغيّر يفترضان تجديد النظر إلى شروط التواصل اللغوي السليم والمنصف. فالمرأة مُغيّبة عن مشهدية القول، بل عن منطق اللغة الحاملة تاريخيًا تراثًا تخاطبيًا تقليديًا وتراكماتِ تسيّدٍ جنسوي مثقل بنظرات ذكورية غير منصفة لـ"نصف المجتمع". هذا التسيّد ليس "ابن ساعته"، ولم تخفف من وطأته الثورة التكنولوجية، ولا وسائط التواصل الاجتماعي على ما يبدو. يذكّرنا المؤلِّف أنه قديم العهد؛ فقد تأسس بالتدريج في المدارك، واندرج في ثنايا الخطاب العام، وترسّخ في الممارسات اليومية. يكفي أن نتذكّر أن استخدام الأشقاء المصريين في السابق كناية "ابن مَرَه" هي "سبّة تُطلق على من لم تنجح تربيته وخرج فاسدًا لا يصلح لشيء"(2).




يُظهر منجز المؤلِّف أنه يحسن انتقاء موضوعاته ويتعمق في معالجتها ملتزمًا أدبيات البحث العلمي. قارب موضوعة "اللغة والجنس" بالاستناد إلى جملة قراءات ومعارف ومعاينات ومقايسات ونظرات ذات صلة، ووفق مفهوم لساني وظيفي يأخذ في الاعتبار ضرورات التواصل اللغوي السليم، والمنصف لطرفَيه. فالتحيّز التعبيري الفاضح والمتحامل ـ وعيًا ومشافهة وتدوينًا حقيقيًا وافتراضيًا ـ للأنا الذكورية المُنتجة والمُرسِلة، على الآخر، أي الذات الأنثوية المُستهدفة، ما عاد مستساغًا في عصر الثورة المعرفية، والعيش المتغيّر، واحتياجات العلم، والعمل.

خاتمة
مبديًا وجهة نظر علمية محفزة على النقاش في موضوعة شديدة الحساسية ومحفوفة بالمحظورات، قوامها تحيز اللغة ـ العربية وربما سواها ـ للرجال على النساء، يخوض عيسى برهومة بثقة عملًا لسانيًا رصينًا غير مألوف يستند فيه إلى حفريات لسانية ذكورية بقدر ماهي أنثوية. يتعهدها بمبضع الباحث المعجمي الذي صاغ رؤية لفرضياته، وأبدع نصًا تحليليًا يُصدق قارئه ويرفده بحقائق "الأرض" التي تعهدها حفرًا وتحقيبًا وحصادًا مُتجرئًا على اللغة باللغة. بكياسة المؤلِّف الممسك بخيوط النص ذكّرنا بمنطق تعامل الكائن اللغوي ـ متكلمًا ومعجميًا وباحثًا وسواهم ـ وبكيفيات صوغه تعابيره وسكّه مصطلحاته للتواصل مع الآخر، متكلمًا ومخاطبًا كان أو كاتبًا وقارئًا. هنيئًا للمكتية العربية بهذه القيمة المعرفية المضافة، التي تفتح آفاقًا وتطرح تساؤلات وتحفز لنقاشات لغوية وتواصلية وثقافية واجبة الوجود. حقق الكاتب شغفه بالتنقيب في معارج اللغة بحثًا عن تمثلاتها الذكورية والأنثوية، فنقله من مرحلة الرؤية إلى المشروع المعرفي المتسق المراحل تدوينًا فنخلًا وقياسًا فشرحًا وقوْمَسةً ونشرًا مُضاعفًا.

*أكاديمي وباحث من لبنان.

هوامش:
1 ـ أندريه مارتينه، وظيفة الألسن وديناميّتها، ترجمة نادر سراج (بيروت: المنظمة العربية للترجمة ـ 2009).
2 ـ أحمد أمين، قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، ط 2 (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية ـ 1953)، ص5.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.