}

من مأتم إلى مأتم إلى...

نبيل سليمان 15 يناير 2024
آراء من مأتم إلى مأتم إلى...
وفيق خنسة (1946 ـ 2024)

أرسل لي الصديق مجاب الإمام ـ وهو من أسرة جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في قطر ـ السطورَ التالية من ترجمته للأعمال المسرحية الكاملة لصموئيل بيكيت، والتي ستصدر قريبًا عن منتدى العلاقات العربية والدولية في الدوحة: "من مأتم إلى مأتم إلى الآن (...) ولا قضايا أخرى. ولا حتى قضيتين. ليس سوى قضية واحدة: من ماتوا وارتحلوا، ويموتون ويرتحلون".
جاءت هذه الرسالة تعقيبًا على ما كنت قد أخبرت صديقي به، من رحيل صديقينا: حسن صقر الروائي والقاص والمترجم (1932 ـ 2024) والشاعر والقاص والمترجم والناقد وفيق خنسة (1946 ـ 2024)، الأول في 3/1 والثاني في 7/1. ولما فكرت بالكتابة عنهما شلّني أيامًا السؤال عن أية كتابة ممكنة في اليوم السادس والتسعين ــ في أي يوم نحن؟ ــ للهولوكوست الفلسطيني؟

أعلام  سوريون رحلوا بعد الثورة السورية، من اليمين: صادق جلال العظم ـ ميشيل كيلو ـ رفعت عطفة ـ رياض الترك ـ عبد القادر عبداللي ـ خالد تاجا.


مثل هذا السؤال كان قد راودني عندما دوّى نبأ رحيل (ابن العم) رياض الترك صبيحة اليوم الأول لهذه السنة، بينما عصفت بي ذكريات حبيسة للقائنا الأول في الشهر العاشر من عام 1980، ومعنا بوعلي ياسين (1942 ـ 2000) وأحمد فايز الفواز. ومع بوعلي ياسين أيضًا، وفي بيت ابن العم في حمص، تجدد اللقاء عقب الإفراج عن معتقل الثمانية عشر عامًا.
من بين المقالات الكثيرة التي كُتبت عن رحيل (ابن العم) استوقفتني بخاصة مقالات عمار ديوب، وراتب شعبو، ووائل السواح، وفي كل منها مما عشته، ما حفزني على الكتابة. لكن الإبادة الوحشية اليومية في غزّة رمت الكتابة باليباس. وكنت قد عشت مثل ذلك أول مرة عندما رحل الفنان خالد تاجا في 4/4/2012. ففي اليوم التالي لرحيله حصدت مجزرة تفتناز ـ من محافظة إدلب ـ أرواح اثنتين وستين ضحية، ولم يكن قد مضى شهر على مجزرة حيّ كرم الزيتون في مدينة حمص، والتي حصدت أرواح سبعٍ وأربعين ضحية.
من مأتم إلى مأتم، والراحل(ة) شهيدة(ة) والراحلون شهداء وشهيدات أو قتلى، والسؤال يتجدد، والذكريات تعصف، واليباس للكتابة، والأصدقاء والصديقات في مواكب الرحيل: جورج طرابيشي في ربيع 2016، وصادق جلال العظم في منتهى تلك السنة، ليعلن مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية إلى سورية ـ من هو؟ ـ أن عدد القتلى قد بلغ منذ 2011 حتى 23/4/2016 أربعمائة ألف. وها هما عبد القادر عبد اللي، وفدوى سليمان، يرحلان: هو في ربيع 2017، وهي في صيف تلك السنة التي وثقت فيها الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل أكثر من عشرة آلاف مدني. وها هو أيضًا حنا مينه، ومي سكاف، يرحلان في صيف 2018، وعبد الله هوشه يرحل في منتهى تلك السنة، ليعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان أن عدد القتلى قد بلغ عشرين ألفًا في السنة نفسها. ثم أنت في بُحران آخر غير البُحران القاموسي: التغير المباغت الذي يحصل لمريض الحمى الحادة مصحوبًا بعرق غزير وانخفاض سريع في درجة الحرارة.

أعلام  سوريون رحلوا بعد الثورة السورية، من اليمين حنا مينه ـ مي سكاف ـ الطيب تيزيني ـ جورج طرابيشي ـ خيري الذهبي ـ فدوى سليمان.


في بُحران أنت من مأتم إلى مأتم، والأصدقاء يرحلون: وليد إخلاصي، والطيب تيزيني، ووفيق سلطين، وخيري الذهبي، وميشيل كيلو، وعادل محمود، ورفعت عطفة، وحيدر حيدر، وأنت تكتب ولا تكتب حتى إن كنت تكتب، وبخاصة منذ ستة وتسعين يومًا من طوفان الأقصى ــ في أي يوم نحن؟ ــ ولكن أي الراحلين المتكاثرين أولى بالكتابة: السياسي أم الكاتب؟

***

"هالعمر شهقة ريحْ
عْطيني كفنْ يا ريحْ تعطيكي وطنْ"
ذاك مما كتب وفيق خنسة تحت عنوان (موال أخير) في ديوان "براري الصوت" من الشعر المحكي (2017). وكتب أيضًا:
"ما عاد فييّ حِيلْ
جرّ العمرْ ع القبرْ".
وفي ديوان "سكب ميْ وروحْ" (شعر محكي ـ 2020) كتب:
"هيكْ العمر مسكينْ، ضاعْ
وراحْ
لا عرفت عيشو
ولا عرفت أرتاحْ".
تلك أشطار مما تأهب به وفيق خنسة للموت، بعدما مال إلى الشعر المحكي، وتوقف عن كتابة الشعر بالفصحى. وكان الديوان الأول له "إشارات متنافرة على وجه الحاضر" قد صدر عام 1970. وبعد ثماني سنوات جاء ديوانه الثاني "لعينيك ما أشتهي أن يكون". وانتظر وفيق خنسة حتى عام 1994 ليصدر دوانه الثالث "شتاء الجنون"، ثم طال الانتظار حتى جاء ديوان "أحاديث النهار" (2004)، بينما أصدر قبل ذلك للأطفال "حكايات شجرة التوت" (1979)، و"أغاني الطفولة" (1986).




ومن بعد جاءت للأطفال أيضًا قصص "حدائق أنانا" (2004)، وفي الشعر "أبو الطيب المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس" (2008)، وهذه تجربة مميزة في تقديم المتنبي للأطفال. وكان وفيق خنسة قد انعطف إلى القصة القصيرة في مجموعات "أحاديث الأقنعة" (1992)، و"حقول الدم" (2009)، و"بيدر حب" (2009)... أما في النقد فقد أفرد كتابه "الوقائع والمصير" (1994) لدراسة روايات وقصص حسن صقر. وكان كتابه "دراسات في الشعر السوري الحديث" (1982) قد دُرّس في جامعة وهران زمنًا.
في مدينة الرقة كان لقاؤنا الأول في خريف سنة 1967، وكان قد سبقني إليها ليعمل في التعليم. وكما وشمت الرقة روح أحدنا وشمت روح الآخر. وها هو يكتب: "الرقة وأهلا ونهرها، قناديل أيامي، ومهما يطول العمر، بتضلّ قدامي". وبينما غادرت الرقة عام 1972 إلى حلب، طال مقامه فيها حتى عاد إلى اللاذقية مدرسًا للفلسفة سنوات قليلة، قبل أن يطير إلى طوكيو أستاذًا زائرًا في جامعة طوكيو للغات الأجنبية ـ قسم الدراسات العربية، بتدبير من صديقه الذي التقاه في الرقة: المستشرق نوبوأكي نوتاهارا صاحب كتاب "العرب وجهة نظر يابانية" (2003). وبعد سنوات عاد إلى سورية، ثم عاد إلى اليابان، فسورية، ومنها إلى أميركا منذ عام 2012، إلى أن قرر منذ شهور أن يعود إلى سورية، ولكن هذه المرة، ليموت فيها، كما قال لي ولأصدقائه مرارًا وهو يغالب أوجاعه.
عن تجربته اليابانية، قدّم وفيق خنسة دراسته "الشخصية اليابانية" (1994)، والأهم هو ما شكل الخلاصة الروحية لتلك التجربة في قصيدته الطويلة "هيروشيما" (2001)، والتي ترجمها موري شنتارو إلى اليابانية، وترجمها مجاب الإمام إلى الإنكليزية. كما ترجم وفيق خنسة مجموعة من الحكايات الشعبية اليابانية هي "كوايدان" (1992).
وكما هو بادٍ من سرد أعماله، لم يرتو من نهر بعينه ـ الشعر والقصة والنقد والترجمة ـ وإن يكن الشعر ظل الأكبر حضورًا وهجسًا، من قصيدة التفعيلة إلى المحكي، أما قصيدة النثر فمن النادر أن كتبها، وكان مدركًا قبل غيره لتواضع بعض دواوينه، ولأذيّة السياسة لشعره. ولعل تعدد حقول كتابته يتأسس في القلق الدائم والمتفاقم، وفي الطموح، وما انعجن به ذلك من الحساسية الفائقة، وما لازمها من: الحدة والانفعال، لأقلْ: الاحتراق في الأعماق. والآن أتساءل من جديد، بعدما تساءلت كلما انعطف وفيق بحياته عما إذا كان كل ما ذكرت ناجم عن حياته التي انشبحت من قريته الجبلية (بشيلي)، في ريف جبلة إلى القنيطرة إلى الرقة إلى اللاذقية إلى اليابان إلى أميركا؟
وهل كان ذلك أيضًا سببًا في أو على صلة بتنقّل وفيق خنسة من (الناصرية) في مطلع شبابه إلى الماركسية والحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي ـ لم يكن بعثيًا يومًا ـ إلى الاستقلالية والنقدية بعامة، وأخيرًا: إلى السلبية ـ على الأقل ـ مما زلزل سورية بعد عام 2011 وهو من كتب قبل سنوات معدودات: "تصوّرْ وطنْ بيخونْ/ والناس عم تحميه"؟!
ذاك وفيق خنسة، أما حسن صقر فحديث آخر يبدأ أو يُختتم بقول صموئيل بيكيت: "من مأتم إلى مأتم". لكن السؤال يصدع عن أية كتابة ممكنة منذ كان عداد الموت ناشبًا في سورية إلى أن نشب في غزة العزة.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.