بداية، تعدّ نظرية القوة في العلاقات الدولية من أقدم وأهم نظريات العلاقات الدولية، والأكثر إثارة للجدل في الأوساط الفكرية والأكاديمية على المستويين النظري والتطبيقي. وبرزت سياسة القوة، بوصفها السياسة الدولية حسب وايت، إلى حيز الوجود عندما تحلل عالم القرون الوسطى، وولدت الدولة الحديثة ذات السيادة، حيث أبدى الفرد في المجتمع الحديث بشكل عام ولاء للدولة أقوى من ولائه للكنيسة أو للطبقة أو لأي رابطة دولية، فالقوة تتماهى في دولة حديثة ذات سيادة في مظهرها الخارجي، وتكاد تعرّف بأنها الولاء المطلق الذي سيكافح من أجل الناس في عصرنا الراهن. وحدثت في الدول الحديثة تغيرات كبيرة في الإطار الأخلاقي للسياسة، وباتت سياسة القوة لا تقتصر على العلاقات بين القوى أو الدول المستقلة، بل تعدى الأمر إلى سياسة القوة المسلحة، أي إدارة العلاقات الدولية عن طريق القوة أو التهديد باستخدامها، من دون مراعاة للحق أو العدل، وحلّت سياسة القوة محل مصلحة الدولة العليا.
وتأتي القوة المهيمنة التي تعرّف بأنها القوة التي بإمكانها شنّ حرب ضد أي قوة منفردة أخرى، كما أنها قوة بمقدورها موازنة مقدرة منافسيها كلهم مجتمعين، وتصف القوة الكبرى في العالم، ممثلة في عصرنا الراهن بالولايات المتحدة الأميركية، صاحبة أكبر قوة جوية في العالم، وأكبر قوة بحرية، وأضخم قوة إنتاجية، وأقوى جيش، وتتركز فيها قوة مالية وعسكرية واقتصادية أعظم من أي وقت مضى استقرت في بلد واحد. وكل قوة مهيمنة تسعى لأن تصبح إمبراطورية عالمية من خلال إضفائها التوحيد السياسي على المجتمع الدولي بأكمله. وتعترف الدول الأخرى في المنظومة الدولية بالقوة المهيمنة في الواقع، إما بالتعاون معها أو بالتحالف ضدها. وبالنظر إلى أن مقولة الهيمنة لم تعد مقبولة نظريًا، فإنه جرى تداول مصطلح الدول الكبرى التي تضم منذ الحرب العالمية الثانية كلًا من الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين، وتمثل مجموعة دول خمس منحت نفسها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، ولا تكف عن الطموح لاحتكار حق اختلاق الصراع الدولي.
تستند سياسة القوة إلى ما يعتبره وايت الواجب الرئيس لكل حكومة، والمتمثل في حفاظها على مصالح الأمة التي تحكمها وتمثلها في مواجهة مصالح الأمم الأخرى المنافسة لها، وتعتبر مصالحها الحيوية أساسية لاستمرار استقلالها، وهي مستعدة لخوض الحرب من أجل الدفاع عنها. كما أن سياسة القوة تنظر إلى التاريخ الإنساني بوصفه تاريخ حروب تعدّدت أنواعها ما بين الحروب العدوانية، والحروب الوقائية، وحروب الهيبة، وحروب الأمن، وحروب المثل أو القيم، وحتى الحرب العادلة! وهي في عمومها حروب مكاسب، تلك التي تقوم بها القوى الإمبريالية والاستعمارية، وحروب عقائدية كالحروب الصليبية، وحروب الخوف التي تخوضها الدول التي ترى بأن أمنها مهدد. وتتجلى الخطوط الفاصلة بالحروب العامة التي تشترك فيها جميع القوى الكبرى القائمة، حيث تبدأ كل حرب بوصفها حربًا محلية، ثم يتسع نطاقها عندما تجد كل قوة كبرى أن مصالحها ستتعرض للخطر إن بقيت خارج الحرب. وباعتبار أنه لا توجد حكومة فوق القوى الكبرى المتعددة فإن الساحة الدولية تتسم بالفوضى، ونظرًا لانعدام الثقة بين القوى الدولية، فلن تقدم قوة على تسليم أي جزء من أمنها وحريتها لأي قوة أخرى، وعليه تسود حالة الخوف الهوبزي (نسبة إلى توماس هوبز) لتعبر عن مأزق السياسة الدولية، وبالتالي فإن هذا المنطق يفضي إلى الاستنتاج بأن الحروب تشتعل بسبب غياب حكومة عالمية، أي في ظل الفوضى العالمية للدول ذات السيادة.
اللافت هو أن أصحاب نظرية سياسة القوة يعتمدون على الفكر السياسي للفيلسوف توماس هوبز وفرضيته للطبيعة البشرية، التي يسميها حالة الطبيعة الأولى تلك التي تتسم بالصراع الدائم، والمعبر عنها بـ"حرب الكل أو الجميع ضد الجميع" (يوردها مترجم الكتاب في صيغة "حرب كل رجل ضد كل رجل"، وأعتقد أنها غير موفقة)، حيث الإنسان كائن أناني، وعدواني، وفي حالة من صراع دائم من أجل البقاء، لذلك تتسم العلاقات الدولية بالفوضى بالنظر إلى تعارض المصالح والصراع الدائم بين الدول.
كما يعتبر أصحاب سياسة القوة أن السلوك العدواني للبشر ينبع من ذات الإنسان، وليس من مؤثرات خارجها، لذلك تميل الطبيعة الإنسانية إلى التعبير عن مكوناتها الشريرة إذا لم يتم ضبطها بواسطة سلطة الدولة، التي تمتلك حق احتكار استعمال القوة والعنف للحفاظ على السلم والأمن في المجتمع، إضافة إلى دورها في العلاقات الدولية، بوصفها الوحدة الرئيسة في المنظومة الدولية، وتمثل كيانًا مستقلًا عن المجتمع ولديها القدرة على صياغة المصلحة القومية وتحقيقها بشكل مستقل عن المجتمع. كما أن سياسة القوة تقول بأولية القوة على الحق وضرورة فصل السياسة عن الأخلاق، حيث تسعى الدول إلى تحقيق أهداف سياسية لا علاقة لها بالأخلاق، وتحركها دوافعها ومصالحها، وتفترض أن النظام الدولي هو في الأساس يقوم على الفوضى الدولية، لأنه يشكل في الأساس مجموعة من الدول ذات السيادة التي لا تعترف بسلطة عليا تفوق سلطتها، الأمر الذي يعني بالضرورة استمرار حالة الصراع بين الدول بشكل دائم، وتغدو السياسة العالمية علاقات بين قوى أو دول في مظهرها الخارجي، في حين أن علاقاتها الداخلية لا تقل مركزية عن العلاقات الدولية، إلى جانب استنادها إلى أن ولاء الأفراد للدولة ليس أكثر من ولائهم لأيّ رابطة أخرى، فيما لا يزال الناس في عمومهم يلجؤون إلى ولاءات بديلة، وخاصة في حالة الأزمات. يضاف إلى كل ذلك أن أصحاب سياسة القوة لا يرون في المجتمع الدولي سوى دول الغرب الموزعة على جانبي المحيط الأطلسي ممثلة بالولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، انطلاقًا من تمركزهم الغربي. وبالكاد يذكرون اليابان والصين وروسيا، فيما تغيب بقية دول العالم عن مقدمات نظرياتهم وأطروحاتهم، مع أن منظومة الهيمنة لم تعد أوروبية، بل باتت أوروبا بغربها وشرقها تحت هيمنة الولايات المتحدة، وصارت دول أوروبا تحاول مثلها مثل دولنا العربية وسواها أن تصارع من أجل التخفف من هيمنتها. أما المجتمع الدولي فيتجسد في مؤسسات أممية الطابع شكلانيًا، لأنها تخدم دول الغرب المسيطرة، فيما لا تملك الدول الأعضاء من آسيا وأفريقيا وأوقيانوسيا أي مساهمة فيها، ومع ذلك يتوجب عليها أن تقبل بمقرراتها التي تفرض عليها المفاهيم الأوروبية أو الغربية المتعلقة بالتنظيم السياسي العالمي.
المشكل الأساسي في سياسة القوة هو افتراضها أن الدول كالبشر تتصرف بشكل عقلاني، فيما تبين التجارب العالمية أن عوامل كثيرة تقف وراء تصرفاتها، وخاصة الدوافع الذاتية للحكام والقادة والرؤساء التي تؤثر بشكل كبير على السياسات الخارجية للدول، ولا يقتصر الأمر على الدول غير الديمقراطية فقط، لأن الدول الديمقراطية ليست مستثناة من ذلك. إضافة إلى أن العلاقات الدولية متشعبة، ويلعب فيها العامل الاقتصادي دورًا كبيرًا، فالدول ترتبط بشبكة علاقات تجارية ونقدية واستثمارية. وفي عصرنا الراهن، باتت المسائل الاقتصادية أكثر أهمية من المسائل السياسية بين الدول، ولم تعد السياسة الموضوع الرئيس في العلاقات الدولية إلا في المذهب الاختزالي.