في بحثي عن وجوه الأدب - وهو متكوّن ذاتي منذ الصغر - قمت برحلة هدفها الأساسي لمس المشهد الأدبي في مصر، وكانت حجّة الرحلة الأولى "تصحيح النظر- ليزك"، وشيئًا آخر؛ عدم خروجي من غزة منذ دخلتها أواخر 1990 مرغمًا بعد خروج العائلة من الكويت جرَّاء الغزو العراقي لها، وشاء القدر أن تكون رحلتي في عهد كورونا 2020، لكن مصر تظل البلد الذي لا ترى فيه المرض مستوطنًا رغم وجوده! قابلت خلالها قامات أدبية وازنة، منها ما هو خاص، وآخر على هامش، وأخرى حضورًا لفعالية.
وكان اللقاء الأبرز مع الشاعر النبيل أحمد الشّهاوي، وفي اللقاء معه طعم خاص، صندوق فيه ما فيه من الأسرار، أينما ألقيت كلمة أو اسمًا أو معرفة، كان هناك نصيب كبير من التبصير بمعرفته الجمة؛ قنّاص حكايا ودوّار لا يكلّ ولا يمل. إنسان ذو نبل بطيء، فالسرعة في النبل، أراه مستعجلًا لخطأ هنا أو هناك، ومن هواياته المحببة إهداء الكتب بما بعد العدد الأول، فالعدد الفردي لا وجود له في نفس الشّهاوي. هو لا يهديك كتبًا بل مكتبة بتعريفها الحقيقي، فلا يقتصر إهداؤه على نوع واحد من المعرفة، حتى يصل الأمر إلى "نوتة" مهرجان طنطا مثلًا!
ومن هذه الكتب المهداة "رحلة البحث عني... رواية حياة د. لوتس عبد الكريم"، الكتاب ذو الحجم الكبير، و700 صفحة تعني الكثير من البوح، وأنا أقرأ الاستهلال أو محاولة التوطئة في 21 صفحة، رويدًا رويدًا كنت أحدّث نفسي؛ أَوَيكون صاحب هذه الكلمات هو أحمد الشّهاوي! والذي أحسب ألا أحد اقترب من إنتاجه الشعري كما اقتربت منه في كتابي المعنون "في محراب أحمد... شيء من وحي الألفة"، فقد كتبته بمحبة للحرف والشخص والفكرة التي تلامس معنى الكتابة الشعرية.
وقد نلت مع كتابة مقدّمة "سيرة السوسن..." في أن تكتب عن شخصية ثرية كمثل د. لوتس عبد الكريم، والتي لم أعرفها من قبل لا كتابة أو رؤية مع أني أتذكر أن لقاءنا الأول مع الشهاوي كان في بيتها المطل على كورنيش النيل، ولا يفصل بيني وبينها إلا عشرة أمتار في بيتها الفسيح!
كان حظ الالتفات إلى الكتاب مغلفًا كما هو، لم يمسسه سوء جرّاء القصف الذي حل ببيتي، والذي نهشته قذائف الجيش المحتل لغزة.
بدت سطور الشهاوي تُعمل في مراوغة حاذقة بين الإيضاح والاستبطان، فالكشف يكون همسا، ولولاه ما سمعنا عن نكهة الحضور، والإخفاء ضروري، فكثير الروعة تكمن في لذاذة الإخفاء بفنّه لا بمدّه.
يقول أحمد الشهاوي: "فوجه لوتس عبد الكريم يقبل القسمة على كثير، من فرط كثرته، وانشغاله، وتكريسه، وخبرته، وهواجسه، وأحلامه، وطموحاته، وإشراقاته، وأسراره، وتجلياته، ومقاماته، وأحواله". ولعل هذا الملمح يكشف تأثير الوجه في حياة لوتس عبد الكريم، والوجه مفتاح مغاليق، بوابة كبرى لمفتتح حياة، والأمثلة تكثر، ففي الوجه لغة جسد، وسمة تعبير لا يخطئ، وإن كان فنانًا ممثلًا، فبحة الوجه تكشف جوهر حنجرته وإن تذاكى الكثير!
أعترف أنني مزاجيّ القراءة، أحيانًا يجذبني غلاف كتاب ما، وبذات الأمر ينفرني غلاف آخر من بدء القراءة، وأحب الكتاب من القطع الكبير، لم يرق لي قراءة كتاب "رحلة البحث عني... رحلة حياة" إلا بعد سنتين تقريبًا من وصوله إليّ، وبعد أشهر من بدء الخراب! نزعت تغليفه البلاستيكي لأبدأ القراءة.
لا أخفي أنني ضقت ذرعًا بأسلوب المقاطع التي تقترب من هامش كمذكرات، مما منع من وجود فهرس أرجع إليه كلما أردت ذلك، وأثناء القراءة بدأ ظهور يقين لديّ؛ أن هذه المقاطع هي عبارة عن تجربة شخصية ثرية، أشبه بالمشي في حقول ألغام، وأوّلها العائلة بشقيّها الفطري والآخر المكتسب "الزواج".
وكأنموذج فطري طافح، كان خالها "أمين باشا" وزير مالية مصر في عهد الملك فاروق، وما صدح به يومًا حين قال: "إن مصر وإنكلترا لا يجب أن ينفصلا حاليًا" مما أدّى إلى قتله! كما برز تأثير سلبي للأب في طفولتها، دفعت الأم حياتها ثمنًا لتعامله، وإحداث حالة يتم مبكرة. أما الشق الآخر المكتسب؛ فكانتا تجربتين في مجالات السياسة المتنوعة، وهي بذلك عاشت الحياة بطولها وعرضها، وطافت العالم في رحلات العمل والاستجمام، مما أسهم كثيرًا في إنضاج فلسفة تأملية للحياة.
جمعت لوتس عبد الكريم بين المعرفة والمتعة الذاتية، والإفادة من ذلك في تأصيل القيمة الإنسانية وصقلها بتلامس الأمكنة والأزمنة وعلاقتها بالإنسان. ولعل ما أضافته في رواية حياتها من استعراض لمكانتها بين الكبار؛ كبار السياسة والأدب والفن والفكر - لم يكن اسم منهم وإلا وكان له نصيب من معرفتها - ما جعلها لا تفلت هذه المنح الإنسانية، وتوثيق عراها في إصدار كتب لبعض من توهجت ذاتها منهم، كالملكة فريدة، ومصطفى محمود، ويوسف وهبي.
وإزاء هذا الكم الكبير والنوعي من المحيطين، تتمخض لحظات تأمل، تنصقل في ظهور بوح خاص في قولها: "مارست حياتي بلا قيود إلَّا من عقلي وعلمي. وعشت في حوار طويل مع نفسي، دومًا كنت بحاجة إلى الفلسفة، فالمنطق هو العقل، ثم التفكير والأخلاق. كنت أعرف أنه لا يوجد كسب بلا ثمن، ولا متعة بلا مجهود. لقد عشت الحياة بطولها وعرضها. ولكن كان هناك دائمًا الألم والمرض والكآبة، كان هناك الثمن، لقد لعبت المصادفة دورًا مهمًّا في حياتي، ولم يكن لي شريك في وحدتي غير تأملاتي. لست خالية من الأخطاء، ولكني أيضًا لست خالية من الذكاء. وأظنني أفهم نفسي وأعرف أخطائي، وأعرف منها ما لا بدّ منه، وما يمكن إصلاحه. وأعرف أخطاء الغير وأشفع لهم كثيرًا، نحن الذين نصنع أقدارنا بأنفسنا، وما نسميه القدر ليس إلَّا إرادتنا غير الواعية، وقد اخترت الفلسفة". وهذا مناط منهجها في الحياة وطريقتها، حيث تقترب من مزج ذاكرتها بما اختارته هي بنفسها، تركت الاحتمالات المتأرجحة واختارت الفلسفة أسلوب حياة، أرادت التشكيل الحياتي لكينونتها حتى غدا القدر مطواعا لصنع مصير أرادته فكان ذلك إيمانا ترسَّخ في داخلها بقولها: "لم يخلقني الله لتلك الحياة، بل يجب أن أصعد الجبال وأتسلق الصخور، ويجرحني الشوك، وأعاني المرارة حتى أصل إلى أعلى ما أستطيع أن أصل إليه، وأصعب ما أتمكن منه، فنحيت الزواج جانبًاز.. لا ليس هذا وقته أبدًا".
ثم تركن إلى فلسفتها في وخزة الزمن قائلة: "العمر... ماذا تبقّى من العمر؟ وكيف سيكون؟ وماذا باستطاعتي أن أفعل وأنا ما زلت أحيا؟ لا بد من العبور، إلى... إلى ماذا؟ حتى الرمق الأخير، كيف سأعبر؟ بل كيف أتغلب على صعوبة الوحدة والألم والفراغ القاتل الذي لم يملؤه فكر أو عمل أو إنسان بديل؟".
أسئلة قلقة واستخلاص قلق، وتباين في أوجه التّحادث النفسي الصادم؛ هل أرادت أن تجعل من نفسها فيلسوفة مترفة لبضع تساؤلات يمكن أن يطرحها أي إنسان، لكن الفارق في طرحها هو التأثير على الأشخاص بجدوى الفلسفة وميزانها الوعي والإدراك لمسيرة حافلة بالمواءمات والموافقات والتناقضات.
كتبت لوتس عبد الكريم حياتها عن سبق إصرار وترصّد، فقد اختارت لحظات البوح الداخلي لتصبّها في حبر سائل، قد تبدو هذه الممارسة عادية، لكن مجرد حمأة الكتابة مع تذكر ما حدث ويحدث، وما سيحدث في سبيل التوثيق إنما يعالج النفس بطزاجة لا تحتمل الانتظار أو التراكم الكمي. ولو أرادت أن تكون شخصية سياسية مؤثرة لفعلت وصارت ذلك، لكنها ارتأت أن تكسب إنسانيتها الصريحة واندماجها في اهتماماتها المحببة لنفسها.
ذخرت لوتس عبد الكريم حياتها بالكثير التجارب والعلاقات المتنوعة، منها ما هو رسمي بحكم عمل زوجها عبد الرحمن العتيقي السياسي والدبلوماسي الكويتي، ومنها ما هو متنوّع يقترب من الأدب والفن والفكر حيث تقول: "ولأنني لم أتصور أن أنشر يومًا مذكراتي، فليس هناك مجال للحذر، وأنا أكتب لنفسي ومتعتي الخاصة، وأذكر لأستاذي وصديقي إحسان عبد القدوس كلمته حين قرأ بعض ما كَتَبْتُ: ‘إلى الكاتبة التي لا تكتب‘". أكان مقصدها أن حياتها عبارة عن موسوعات صامتة، لو أنها اشتغلت بالكتابة لوصلت لعظيم مكان أكثر مما وصلت إليه واقعا مرئيا؟
تقول لوتس: "إن حرية العلم التي أقصدها، هي حرية الشخص السليم الواعي نتاج التربية والثقافة والفهم الكامل، نتاج القواعد السليمة للديمقراطية الصادقة، إنه الشخص الذي يفكر ويتكلم ويكتب ويعمل، الناقد للإصلاح المتمرد في إخلاص، حرية العلم هي تحرر من الجهل والنفاق والتخبّط، وهي فهم تام عميق لمعاني الخير والواجب، هي معنى يهدف إلى سعادة الإنسانية جمعاء، ولخّصت فكرتي في تلك الكلمات". أليس هذا القول دليلًا على الحبكة الفكرية التي تلامس شغاف لوتس عبد الكريم؟ هناك تزاحم فكري في داخلها، يمكن أن تكون قد قررت عدم البوح به حبرًا، ومارسته واقعًا ومعاملة.
ونظير ملامستها للإنكليز رأت فيهم ملمحًا متفوقًا عن غيرهم حيث تقول: "وعجبت كثيرًا لهؤلاء القوم الذين لا يعترفون بالسن أبدًا، وأنا أقارن بينهم وبين مواطنينا، وكما قالت لي عجوز أثناء تناولها الشاي: ‘إننا نصنع الحياة كما نريد، لا هي التي تصنعنا‘. أجل إنهم قوم يصنعون الحياة ولا يدعون لها الفرصة أن تكيفهم أو تهزمهم أبدًا، لذا فهم فعلًا يعيشون لا كما نعيش نحن، ويبتسمون أبدًا حتى أمام أعظم المصائب، ولا يعرفون ما الحزن أو الهم أو القلق". وفي قول آخر: "إن أسعد لحظات حياتي هي التي أحرز فيها نجاحًا دراسيًّا على أيّة صورة كانت، ولا شيء أبدًا يعادل متعة تلك اللحظات عندي".
أرادت لوتس عبد الكريم من خلال هذه المنحنيات الذاتية المتفكرة أن تكسر نمط التفكير الراكض في حياة متحركة بقوة. هذه الاعترافات والإرهاصات الفكرية هي بواعث النسيج المحكم في شخصيتها، اتكاءً على العقل والعلم والكينونة، ولكن، هل تشبه كتابات لوتس البسيطة الصادقة كاريزميتها! خلال توقفي عند بعض الاصطفاف الهادئ لمخاطبة الكون والحياة في منحى يستظل بالتصوف والفلسفة معًا في تكوين دقيق - إن طغى أحدهما على الآخر، ضاق ذرعًا بنديمه- أن الاقتراب لا يكون إلا لمكانة عظيمة.
إن العنوان الفرعي للكتاب هو "رواية حياة"، هذا التجميع لمفردتين هامشيتين يعدّ انتقاء موفقًا من حيث الدلالة، ومن حيث اقترانه بحقيقة القصد والمقصد، فهي رواية "حكي" وحياة تعبر أمام أعين وأسماع على أنها تجربة، لكن المستكشف يصل إلى لحظة فارقة في حياة لوتس عبد الكريم وهي الصراع الداخلي بين المغريات والمنغصات، بين شغف العيش وما ينجم عنه من انفتاح واسع لكل ما تعالى وأثمر من علاقات وتوجهات حياتية، وبين شظف خيوط تنسل فجأة لترهق الروح، ولعل أكثرها محنة هو موت ابنها سالم بمرضه النادر.
هذا المزيج العجيب تنبعث منه صور بانورامية تارة وصور أخرى فوتوغرافية طوَّعها حبرها بدون أن يؤرخ لها، وكأنها تؤكد على أن العمر مجرد رقم كما يقال. وسؤال يطرح نفسه: هل اقتربت الأسماء الكبيرة منها أم هي من اقتربت؟! هل كانت تدور حول شموسهم أم أنها كانت الشمس التي تلتقط الأماكن لتقترب في حاجة استثنائية مشتركة؟!
لقد لمست لوتس عبد الكريم الأعلى من الأسماء المشهورة ابتداء من الملكة فريدة زوجة الملك فاروق، ثم تنوّعت بين الفكر والأدب والفن والسياسة، فكانت جودتها عالية، وبالتقاط زومي مثابر، فمن الأدب تشربت من حكمة إحسان عبد القدوس، وعالم مصطفى محمود، وغرابة يوسف وهبي، وأشعة عبد الحليم محمود، وأوتار محمد عبد الوهاب، وحبر أحمد بهاء الدين، والقائمة تطول حتى تحتاج لكتاب كامل يعرض من رافقتهم. كانت هذه الأسماء وغيرها شموعًا مضيئة، سكبت فكرها فتكوَّنت مجلة الشموع بشعارها النبيل: "من أجل قيمة الجمال في الأدب والفن والحياة".
ولعل هذه الرحلة كانت رحلة صدق مع الذات، نقف أمامها متأملين، نتفكر في قول صادق: "لا أصطنع، لم أدفع ثمن حياتي، لم أدفع شيئًا لأدفع نفسي إلى الأمام".
فكانت رواية حياة صادقة، ولا قول لها أصدق من هذه السطور التي خطتّها بشغاف الفكر ولمحات النقاء الداخلية حيث تقول: "خسارة أن يختلط الثلج بالطين، ويذهب السوادُ بالبياض، ويتأثر نقاء السماء العذراء بأوساخ الأرض وجهل الخطوات، ومع ذلك فقد وجدتني أسيرة كما يسير الجميع فوق ثلوج الطبيعة النقية في سذاجة وطهر الطفل ساعة الميلاد من دنس الميلاد وآثامها، وجدتني أمشي على الثلج فيصبح طينًا، وبفعل تلك الخطوات يصير البياض إلى سواد ويتبدل الطهر والنقاء إلى شيءٍ قذرٍ وخليطٍ من الأوساخ، وشعرت بأنني أكره تلك الأقدام الآثمة التي ترتكب تلك الجريمة النكراء حيال الطبيعة الوليدة العذراء، أجل إن الطبيعة في البدء طهر ونقاء وشفافية، تمامًا كهذا الثلج قبل أن تطأه تلك الخطوات الجاهلة فيصير إلى ما صار إليه، هذه هي الطبيعة في مختلف نواحيها بما فيها طبيعة الإنسان نفسه، أليس غريبًا أن تكون طبيعتنا وهذه نهايتنا فينا؟ أليس عجيبًا أن نُفْطَر على الخير والحب والصفاء ثم نصير إلى الشر والإثم والبغضاء؟ أتستمر البشرية منذ الأزل ضحية الجهل والتخبط، وتكون تلك المأساة هي المصير الحتمي لحياة الإنسانية؟".
الآن؛ نتبيّن لماذا عنونت كتابها "رحلة البحث عني"، ولماذا سعت إلى اختيار إغداق مقاطعها ببعض الشعور الذي تحب، شعور الفلسفة.