}

بين "الهايكو" والقصيدة: لذائذ الكثافة أم انشغالات الدهشة

طلعت قديح 31 مايو 2023
استعادات بين "الهايكو" والقصيدة: لذائذ الكثافة أم انشغالات الدهشة
(gettyimages)

في زمن يغالبه الظن ما بين الإطلالة الخجولة والتحليق الذّاهب لاتساع؛ حطَ طائر فني من لغة مغايرة للغتنا العربية، طائر ذو نفس قصير، أو كما أسميه مجازًا "غمزة لاذعة"؛ يأتينا مفعمًا بحيوية النص القصير، الذي لا يُشبع اللغة العربية من حيث سردها لمفاصل ومفاتن القصيدة، فالعرب تميل إلى إيقاظ قبس، والتحلق حوله بغرض التّآنس، وبمعنى آخر: الميل لتفعيل اللغة العربية في متن القصيدة، وهذا الأمر لا يتوفر في قصائد الـ "هايكو"، غير أنَّ الأسلوب الذي بان مع انتشاره، الرشاقة قوامه، والتفكير في دهشة القفلة.

لك أن تتخيل مسارًا أو هيكلاً لسطور ثلاثة، إما أن يمنحك تفجيرًا للدهشة بشكل لافت في انتهاء النص، لأنَّ بنيانه قائم على الصورة الجمالية الأخيرة، وإما أن يمنحك رؤية لحدث مكتوب، تُقَلِّبُ ناظريك فيه، باحثًا أو متلهفًا لنتيجة لا تكون معتادة الطَّرق، لكنها تسير وفق تقنية محددة، أو وفق عملية ولادة مستعجلة، في تصور أن تورق نبتة أو يصيبها وهن ما، وعلى هذا يعمد الكثير للتّشاطر في محاكاة أسلوب الـ"هايكو"، ليكون نفس الشكل على الرغم من الشعور - حين الاختلال- أن هناك شيئًا ناقصًا أو غير مكتمل الشروط. وكأننا في حديثنا عن الـ"هايكو" نستحضر قول النفّري: "كلما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة".

يقولُ الشاعر والرسّام الياباني يوسا بوسون (1716 - 1784): "لغة الهايكو المثالية هي اللغة المألوفة". وهذا القول يختصر كينونة كتابة الفن الجمالي، وقد يرى آخرون أن معنى كلمة "مثالية"، وجود تفرعات لا تكون كذلك، وأحسب أن على من يريد إجادة الكتابة فيه أن يراعي التركيبة السهلة الممتنعة ونتاجها. ويؤكد هذا القول، الفيلسوف والناقد الفرنسي رولان بارت: "الهايكو يقترحُ نصوصًا سهلة، ويستعملُ مفرداتٍ مقبولة، ويمنحُ للقارئ دلالاتٍ صافية". لقد حدّد "بارت" المنظومة: "السهولة – القبول – مخرج إبداعي سلس".

يقول الدكتور يحيى غبن، أستاذ الأدب والنقد المساعد في قسم اللغة العربية بجامعة الأقصى فلسطين: "إن شعر الهايكو نمط من أنماط الإبداع الفني، وإن كان خرج عن القواعد العامة الناظمة للشعر كمنتج حددته قوانين خاصة، ربما استطاع كاتبه أن ينقل حركة مثاقفة إنسانية وأن يغطي قضاياه الخاصة لكنه يبقى عملية تهجين بحاجة إلى إنضاج فني وسيوقع النقاد على تنوع مشاربهم في إشكالية المصطلح والتي هي قديمة جديدة لم يخل منها عصر من العصور. وأمام هذا الإنتاج ينبغي أن يقف الناقد جريئًا في تحديد مساراته وتحليل محتواه الخطابي. فالشعر مرتبط بأنظمة فنية شكلية من خلال موسيقاه التصويرية والإيقاعية على حد سواء وهو ما يفتقده هذا الفن. إن بعض الكتاب قد يتناسى الانضباط بالقوالب الكلامية التي أنتجها النص، وربما يجعل بنية النص الدلالية في خطر، وهذا بالتحديد هو الذي يشكل خطرًا على هذا النوع من الإنتاج المبدع، إن تحديد جنسه ليس مشكلة لأن عناصره الجمالية موجودة ولا يمكن تجاهلها؛ لكن أن يلصق بالشعر هذا الذي يجعلنا نقف باندهاش. فهو جنس نثري بصفات خاصة. إن مفهوم الشعرية واسع لا يتحدد في نص القصيد كنمط إبداعي، ربما يكون الدافع هو الاندهاش أو إن شئت قل الرغبة في تكسير القوالب التي قد يراها بعض المنتجين من عوامل كبح جماح العبقرية. ومن هنا لجأوا لهذه العملية كحركة مثاقفة تتعالق مع الآخر ضمن ما يتاح من مقومات اتساع اللغة العربية وأنماطها التصويرية، بالتأكيد أتوقع له الانتشار في أوساط محبي الأنماط التعبيرية الجديدة، يبقى موقف النقاد وهو الموقف الأكثر صعوبة على منتجي هذا الفن، عليهم أن يثبتوا الجدة والمعاصرة والفرادة وهي ليست هينة".

أما البروفيسور محمود عثمان، رئيس قسم القانون العام في كلية الحقوق - الجامعة اللبنانية- لبنان، فأوضح قائلًا: "لا أدري إذا كانت هناك أصول ومعايير موحدة أم مجرد تقليد. أعتقد أن كتابة هذا النوع تحتاج إلى موهبة أصيلة بحيث نشعر عند قراءة ما تكتب بالجدة والأصالة والروح العربية والصور المستمدة أو المتميزة بألوان بيئتنا وتراثنا، فهناك بعض النماذج التي قرأتها باهتة شاحبة أو صدى لهايكو مترجم إلا ما ندر. وكونه في العربية لا يخضع لتفعيلة معينة سيكون مثار جدل كما هي حال قصيدة النثر... سيكون نوعًا من الكتابة الشعرية بما فيه من توتر وتكثيف ولمح وإيقاع معين... خارج المفهوم الكلاسيكي للشعر في غياب الوزن والقافية".

إن المتتبع لفكرة إنجاب هذا النوع من الكتابة يرى أن ثمة رمزية قلقة في المعنى، تحاول رشّ نوع من البساطة غير المتخمة بعضلات اللغة، فالأمر لا يحتمل لينتج من اشتمام العطر، شهقة الدهشة التي هي زبدة الـ"هايكو". وإن أردنا حقيقة الدخول في صلب موضوعاتها، فإننا نراها منفتحة الأفق باتساع المدى، من الطبيعة ومظاهرها حتى الجماد يمكن أن يشكل بنية النص! هناك سؤال مشروع يطلّ برأسه: هل يكون التقمص هو أساس البنية النصية للـ"هايكو"، أم أن الفكرة هي التي تتقمص ماكنة رؤية الشاعر في إخراج فني له؟

لعل من أبرز مخرجاته هو تحويل المعنى لولادة اللّذعة المركزة في وخز رحيم لانسكاب سائل الحيوية لتحقيق متعة خلاّقة، تكتسب قوتها من جرأة اللذة وسرعة المساحة بين البدء والانتهاء، والتي يمكن أن تشكل هاجسًا حقيقيًا لكتاب قصائد الـ"هايكو". إنني أشبّه الحالة التي نتحدث عنها بـ"التقاء البرق والرعد"، فهما حدثان متتابعان لتكوين حالة واحدة ذات استجابتين، فاقتران الثاني بالأول يستوجب النفاذ لتركيب البدء ثم الإقرار بمسلكية نجاعة الانتهاء. لماذا يجب علينا أن نعمل على محاولة البحث في هذا النوع الجديد مقارنة بالقصيدة؛ يكفينا جواب واحد، ألا وهو "أنسنة اللغة" وإن أردنا الاستزادة، سنرى أن التعبير عن العمق الفلسفي هو سؤال وجودي، تمامًا كالاهتمام اليوم بحياة نبتة ورعايتها حتى تتوج بالحالة المتكاملة التي تخلّقت من أجلها. إنني أشبه قصائد الـ"هايكو" بحركات الـ"كونشرتو"، مع اختلاف العدد والتأثير، حركة الشرارة، وحركة الاشتعال الجاذب للانتباه والتأمل.

إن المتتبع لفكرة إنجاب هذا النوع من الكتابة يرى أن ثمة رمزية قلقة في المعنى، تحاول رشّ نوع من البساطة غير المتخمة بعضلات اللغة، فالأمر لا يحتمل لينتج من اشتمام العطر، شهقة الدهشة التي هي زبدة الـ"هايكو"

وعن علاقة الـ"هايكو" والومضة بصفتهما شكلاً كتابيًا توضح الدكتورة آلاء عبد الأمير السعدي، المحاضرة في كلية الفنون الجميلة بجامعة القادسية- العراق: "كلتا الكتابتين تمتازان بالتكثيف، والجملة المختصرة المعبرة، مختزلة، ما يسمى "المشتركات"؛ لكن لا يمكن أن نطلق على ذلك "موجة" حسب ما يتناقله البعض، لأن ذلك قد ينسحب على أشكال أخرى متغيرة، كالأفكار والملابس والعلوم، وغيرها كالموضة تتبدل مع التغير الزماني والفكري، بالمعنى التأصيلي للكلمة، هناك من يتفنن ويمتهن فن الكتابة، رغم الجمع الكبير إلا أن ذلك لم يصل بعد إلى الامتهان بالمعنى العملي لمحاولة الحفاظ وتطوير الفعل الكتابي الذي نتحدث عنه".

وعن نوعية التأصيل للـ"هايكو"، بيّنت الدكتورة آلاء السعدي أنَّ: "هذا الأمر طبيعي من خلال التأثر والتأثير بين الثقافات المختلفة بين الشعوب"، وضربت مثالًا على قصيدة "النثر" بقولها: "تعتبر أصولها غربية، فهي من جملة التلاقح والتداخل الثقافي، ولكن وفق ثقافتنا ووفق مقاييسنا".

وعلى هذا؛ هل نعتبر أن هذا الفن الكتابي لديه قابلية التطوير على الرغم من قصر تكوينه الكتابي "بالمعنى القياسي" لاستخدام الكلمات؟ هل ستنشأ أنواع كتابية أدبية أخرى ستضع الـ"هايكو" في بوتقتها، أو كما يقول المثل الشعبي "تحت العباءة أو الذراع"؟ أم سيظل هذا الفن محتفظًا بكينونته، من خلال الشعراء الذين يمارسونه والنقّاد الذين يتابعون مختلف الأنواع الأدبية من خلال ترصّد الكاتبين له، ومعالجة أي ظهور مخل بتأصيله كممارسة كتابية؟

القيمة الحقيقية والجمالية في شعر الـ"هايكو" هي الإعلام الحقيقي بقيمة هذا الفن من خلال نقطتين أساسيتين؛ الأولى: أن هذا الفن كالفنون الأخرى، وليس طارئًا أو مستحدثًا بشكل عشوائي ومشوه، بل هو في قوامه وتفصيل كيانه، قائم على قواعد ولبنات محددة ومؤطر لها، وفق تفعيل الدور الحداثي لمنظومتي الثقافة والأدب؛ والثانية: وجود الحبكة التي ينحصر تولدها بشكل انتقالي يربك القارئ، والحبكة في أساسها هي "الطبيعة". وهذا ما نراه ضمن الفعل المفصلي بين كتابة الـ"هايكو" و"الومضة"، فما يكون مكتوبًا ضمن القواعد والأسس المنهجية عن "الطبيعة" فهو "هايكو"، وما ينتقل من الطبيعة إلى غيرها من مشاعر وقضايا أخذ منحى نحو "الومضة".

وللنقّاد فعل مساهم حقيقي في فض الاشتباك تارة، وفي الالتحام تارة أخرى بين العملين الكتابيين المتقاربين شكلًا، المتلامسين مضمونًا، والمختلفين حبكة. يقول الناقد المعروف د. حاتم الصكر في كتاب "في غيبوبة الذكرى": "الناقدُ هوَ قابلة النصّ لا والدهُ، لكنهُ قد يكون أكثرَ حنوًا منهُ عليه". ولكي ندخل في هذا المضمار يجب أن نبين معنى إرباك القارئ، وهنا لا أعني القارئ العادي أو الهاوي؛ بل أعني القارئ الأعلى، أو ما سمّاه رولان بارت: القارئ الاستحواذي بالمعنى التقني (الذي تكون له لذة الحرف، واللّغات الثانية، المقتلعة، واللّغات الواصفة)، وبهذا يمكن أن نصفه بالقارئ النخبوي.

هناك تعبير جميل مفعم بالحيوية عن القارئ، للدكتور حاتم الصكر في كتابه "كتابة الذات... دراسات في واقعية الشعر": "إنه ليس الشخص المجسد الذي يقوم بفعل القراءة... بل هو كائن آخر لدى إنجازه فعل القراءة. وحين تمر به النصوص تترك أثرًا في متنه (أو جسده) إضافة إلى الخبرة بالنوع المقروء. هذا الأثر يتمثل في التقاليد الفنية للنوع. فيكون القارئ مستعيدًا لها مع كل قراءة، ومعدلاً لها أو محورًا، حسب درجة انفعاله بالنص وقوة القراءة الذي ينتجه. والقارئ بمعنى آخر كائن تاريخي يتحدر عن سلالة مشابهة. فيحمل في ذاكرته تاريخ الأنواع والأعمال الذي هو خلاصة تاريخ التقبل (قبولًا ورفضًا وتعديلًا)".

ما جعلنا نعرج على مفهوم القراءة هو أنَّ الفكرة تنطلق وتتسع من القارئ، فهو المتلقي الأوحد للفعل الكتابي.

ومن أشهر شعراء الـ"هايكو" الياباني:

ماتسو باشو، وكتب: البركة القديمة/ تقفز فيها ضفدعة/ صوت الماء.

كوباياشي إيسا، وكتب: يذوب الثلج/ القرية فاضت/ بالأطفال.

يوسا بوسون، وكتب: أربعة أو خمسة رجال/ يَرْقصُون في دائرة/ أوشك القمر أن يسقطَ فوقهم.

وعلى المستوى العربي كان الشاعر عز الدين المناصرة من أوائل من كتبوا الـ"هايكو".
يكتب المناصرة: سلامًا آهِ يا أبتاه، إنْ تعبوا، فلن أتعب/ وإن ركضوا إلى أعدائهم طمعًا/ فلن أذهبْ.

ويكتب محمود الرّجبي: الحياة ساعة رمليّة للموت/ من سيقلب ساعة الوقت؟/ يتسرّب رمل الرّوح ساخرًا!!

ويكتب سامح درويش: أن تكتب كطفل/ بخبرة شيخ/ هو الهايكو.

ومن هذه النماذج نرى أن الخط الياباني مستمر في افتنانه بالطبيعة ومستمر في ضرورة استخدامها في قصيدة الـ"هايكو"، باعتبارها الأساس في الهالة المحيطة به، وهذا ما لم يكن في المسار العربي - الذي احتضن النوع الأدبي ولم يكن الحاضنة الأولى - حيث انتقل إلى إحداث الفكرة الواعظة المعبرة عن الذات الإنسانية، وفي كلا الحالين يكون التأمل البوصلة اللازمة في فعل كتابة الـ"هايكو"، فإن انتفى التأمل، صار الفعل الكتابي فعلاً "إسمنتيًا" يقوم على مجرد قوالب جاهزة مع بعض المقاسات التي تحدد البداية والنهاية، ما يُفقد الكتابة روحها الحقيقية والدور المنوط بها: كتابة الروح المتأملة في مختلف مناحي الحياة. وتبقى الطبيعة أجمل انشغالات الروح في التعبير عن ذاتها ومحيطها وعوالمها الخاصة.

وليس أجمل من وصف النفس البشرية من قول للشاعر إيليا أبو ماضي، في حضرة تأمله الفائقة: أيّهذا الشاكي وما بك داء/ كن جميلًا تر الوجود جميلًا. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.