ما الشعر إلا حديث عن النفس وتجلياتها، بصفة تقترب من المشاعر الإنسانية الإيجابية منها والسلبية، وأقصد هنا بالإيجابية معاني البهجة والإنجاز والفرح وغيرها، وأما السلبية فمنها الحزن والخسارة والحال المؤرق وغيرها. وهذا أمر لا يأتي إلا لأن الشعر والذات الإنسانية مؤثران في بعضهما البعض، فالشعر يقيس درجة تفاعله بإطلاق الكلام في الأحوال، والذات تصهر نفسها في الشعر، فتحول الشعور لكلام يعتدُّ به، وغير ذلك لا يعدو سوى مجرد نصوص تقترب من الفراغ.
ولعل هذا ينطبق على قصيدة "أشياء لم أرها من قبل" للشاعرة دارين حوماني من مجموعتها الشعرية "عزيزتي بيروت... هنا مونتريال" (العائدون، 2023) التي ذهبت بها للسرد الشعري المستجيب لضغوط الواقع وتفاعلاته واستجاباته الفكرية الفلسفية، وفق تصادم مثير مع اشتقاقات الحال، فتقول: بدأت برؤية أشياء لم أرها من قبل/ العلاقة بين الموت والولادة من جديد/ بين الموت والهدوء العميق/ بين أن نمشي بمحاذاة النهر مع أحاسيس لم نستجب لها/ أو أن نكون أحرارًا من أنفسنا والحياة وسط المياه/ الطريقة الوحيدة للصفح عن الإله والآخرين/ التخلي/ كما يتخلى الإله عنا وقت الألم/ هكذا نصبح رقمًا جاء بالخطأ إلى هذا الوجود/ نزوة أب لم يعرف في حياته إلا الشقاء/ وأم تستبدل ذاتها بالفراغ.
هذا المقطع يسيطر عليه عنف فلسفي ونفسي كبيران، كونه يدخل ضمن التابوهات المحرمة، وفي هذا هل أرادت حوماني أن تنفلت من عقدة كبح جماح مشاعرها، وإطلاق ذلك النزق الذي تحس به؟ ويبدو من خلال هذا المقطع أنها تمتلك مساحة واسعة من الحرية الذاتية، غير عابئة بما قد يكون من إشارة عنيفة بقولها:
"الطريقة الوحيدة للصفح عن الإله والآخرين/ التخلي/ كما يتخلى الإله عنا وقت الألم"...
يبدو المكنون الذاتي هنا متشظٍّ في هذا الوصف، فالتخلي مصطلح صوفي، والصوفية اقتراب خاص من عشق الإله، فكيف يكون الاقتراب بالتخلي؟ إلا إذا أخرجنا هذه القسوة من دائرة مجازية، أريد بالإله نمط فلسفي لا ديني، وكذا يخرج التخلي من هذه الدائرة.
وتزداد حوماني في صراحتها بحدّة حين ترى أننا جئنا خطأ في هذا العالم بقولها:
"نزوة أب لم يعرف في حياته إلا الشقاء/ وأم تستبدل ذاتها بالفراغ"...
وهذه انتقالة عنيفة أيضًا في توصيف علاقة الإنجاب بأنها خطأ ما!
لعل هذا التعبير الذي يتمخض عن تجربة شعورية توحي بروح الضجر والإحساس العبثي الذي يصل ذروته عبر مداد من الإيقاع المتأرجح بين الصعود والوصول لمكان ليس بقاع.
"ماهية الوجود شجرة فارغة من الداخل/ قابلة للكسر في أي وقت/ لا رهان على المستقبل/ العاطفة الجارفة التي تقنعها بأهمية الحياة هي العقبة الوحيدة أمام الموت/ هل من شيء يستحق أن نفكر فيه ونشقى لأجله؟"...
ينتفض الشكل الفلسفي هنا ليجسّد النسيج النفسي المتأمل، ونتساءل: هل يعبّر هذا السرد عن اعتناق حوماني أن حقيقة الخلق هي نتيجة تصادم كوني لا تخلق! وبالتالي جاء الإيقاع ناجمًا عن تفتيت هذا الاعتقاد بإحالات فكرية للواقع الذي تراه أنه فارغ!
علينا أن ندرك أن الصوت الداخلي هو صوت عقلي متوتر متلاطم، ما بين الإحساس بممارسة مغامرة شعرية صادمة وشاقة؛ صادمة بمعنى الطرح غير المتوافق مع النهج الفكري العام، وشاقة في إخراجه بالشكل الذي تريده هي، بدون خوف من قول منطق تؤمن به.
تحاول حوماني كسر وإحداث جدل في حقيقة تراها هي:
"ماهية الوجود شجرة فارغة من الداخل/ قابل للكسر في أي وقت"...
فأي وجود تقصد؟ أهو الوجود الكوني، أم الوجود الإنساني، أم الوجود الممتلئ بالأهوال التي نراها؟!
إن أردنا أن نحدث هزة في هذه الشحنة التي تتماسّ مع صفة الوجود، فإننا نرى أن هذا الوجود يشير إلى الحالة السلبية التي تملأ المكوّن الفكري لدارين حوماني، وهي محنة فيها استفاضة، مسكونة بالأسئلة ومتشعبة بسيل من الأجوبة التي يمكن أن تكون إفرازاتها ما نقرؤه في هذا النص:
"أسحب فكرتي من النهر فأجدها تزداد خوفًا/ وهي تحدّق بسنوات عمري التي تمرّ بلا حب/ أسحب حبيبي أيضًا من النهر/ لكنه مائل إلى الخضرة/ وهذا ما قد لا يمكن تمييزه بين الأعشاب الضارة".
هل تريد حوماني أن تحيل عناءها الشخصي لترميز دلالي أو إيحائي؟ فالسحب علامة فعل اقتدار في صورته المادية إلا أنه قد يأخذ فكرة الانكفاء والهروب من المواجهة، وهذا ما دلّ عليه قولها: "أسحب فكرتي من النهر فأجدها تزداد خوفًا"، في هذا المقطع نتبيّن الحقيقة الأولى التي تقرّها حوماني وهي: "وهي تحدّق بسنوات عمري التي تمر بلا حب"، وتنكير مفردة "حب" دليل على اللهفة لحدوث حالة حب، حتى وإن كانت حالة عابرة، وفيها معاناة نفسية متراكمة أيضًا لعدم الحدوث، أرى في ذلك ثقلًا في النفس، فلا نتفاجأ بقولها: "أسحب حبيبي من النهر"، فهل هو حبيب كالمتعارف عليه، وأنا لا أراه كذلك، أم هو وصف لطاقة التمني أرادت أن ترمز لها بـ "حبيبي"، يبدو أنه تبديل يتربص بفهمنا للكلمة!
"هل سأجد منزلي ذات يوم/ على بعد كيلومترات من الوجود/ قد تلحقني الحياة لتُلحق بي الأذى مرة أخرى/ وليسخر مني القدر مرة أخرى".
إنه مفترق طرق ملحّ في تدفق الإحباط والأسى المليئين على ما تكتبه دارين.
الأسئلة تكشف نقطتين:
النقطة الأولى: التلاحم الذاتي بغرض استشعار الأذى اللاحق بالذات.
النقطة الثانية: التبعثر الوجداني المتربص بحقيقة الإيقاع الواهن في صورة مهمة بمفردات: "قد- الأذى- وليسخر"، فهل هذا الالتزام المُفصح عن الحال هو نتيجة تململ مزاجي مؤقت أم انجراف نحو مشاعر مؤلمة مستقرة؟!
"التقدّم باتجاه الحقيقة/ الحقيقة الوحيدة الآن أن أخلع حذائي/ وأمشي باتجاه مياه النهر/ لقد بدأت برؤية أشياء لم أرها من قبل/ يحدث أن تغرق في الاكتئاب فتتوقف عن التفكير السليم/ تصبح مثل غيمة قابلة للاستعارة/ تسند رأسها إلى زجاج نافذة وتنتظر/ ثم تفرط في الحزن/ وتتفق مع السماء أن تواصل أخطاءها/ محظوظة هذه الغيمة الشاردة/ أنه لا يزال ثمة ضوءان صغيران في الشارع/ إعادة ترتيب الرؤوس في الخزانة/ الصور التي تقرع جرس الباب/ العبور فوق الجثث/ ونقطة واحدة تلزمنا للخلاص/ دون ثغرات إضافية في الرأس".
تستدعي حوماني هنا صورة وصف غير مرمَّزة، انتقالة وتحوّل إلى تعبير بسيط ضاجّ بالحياة...
فحين تقول: "الحقيقة الوحيدة الآن أن أخلع حذائي وأمشي باتجاه مياه النهر"، هو انفلات من النظرة الفلسفية إلى التأمل الواقعي الرتيب في الأثر الذي تريده دارين من خلالها إعادة تأثيث الجو النفسي لها، وإن كانت النتيجة: "ثم تفرط في الحزن وتتفق مع السماء أن تواصل أخطاءها".
ولنتذكر في بداية النص قولها: "كما يتخلى الإله عنا وقت الألم هكذا نصبح رقمًا جاء بالخطأ إلى هذا الوجود".
فما دلالة استبدال (الإله بالسماء)، وهل هو إحساس بفكرة الخطأ في الوصف، أم هو إيجاد حركة حسية معبرة!
مقطع مكتظ بالقلق أسهم في تشظ لأوصاف مثلث في كل منها صورة مستقلة: "ثمة ضوءان صغيران في الشارع- إعادة ترتيب للرؤوس في الخزانة- الصور التي تقرع جرس الباب- العبور فوق الجثث"!
"من الذي جعل القصيدة تُكتب على هذا النحو/ ربما المحادثات الذاتية/ السنوات القادمة غير القابلة للإصلاح/ الأديان وتعدد الآلهة/ الأسئلة/ والصامتون/ الذين يقحمون أنفسهم بي/ وأنا أريد أن أضع حدًّا/ لكل هذا الانتظار"- مقطع ختامي أخرج القصيدة من الشكل الجامد الذي أدخلنا في جو خانق بفعل التراكمات في المعادلة النفسية، وفتح بعض البرودة في جو حار من مشاعر ارتبطت بالقلق الإنساني من المعادلة الكونية والأطروحات الفلسفية الوجودية.
رغم محاولة حوماني إحداث بلل رومانسي من خلال دفقة "أسحب حبيبي من النهر" إلا أن الجو العام لم يسعفها بذلك. لذا اختارت أن تقدَّ قميص الغموض في العزلة الفكرية لتنعطف إلى الإجابات على تجربة الانكسار الذاتي، فكانت: "المحادثات الذاتية- السنوات القادمة- الأديان وتعدد الآلهة- الأسئلة- الصامتون- الأنا" حيث التماس مع الذات المرهفة التي تتخذ من فوضى الحواس إحالة لإيجاز تصريحي مفاده: "وأنا أريد أن أضع حدًّا لكل هذا الانتظار"...