في تينك الروايتين لعلي عبد الله سعيد ما يرسم الملامح الكبرى لمجمل تجربته الروائية في التجريب الفني، عمارةً ولغة، وفي تفجّر المخيلة، وفي الميتا رواية، وما أسميه استراتيجية اللاتعيين، حيث لا يكون للفضاء الروائي – وربما للزمن – محددات.
أما العالم الروائي لعلي عبد الله سعيد فهو مؤثث بالقسوة حدّ التوحّش، وبالسخرية. لكأنما هو عالم السعار الجنسي والسياسي في تخييل محموم. ويبدو أن كل ذلك يبلغ مداه في رواية (البهيمة المقدسة) من بين ما قرأت للكاتب.
غازي والمحبوب: الديكتاتور وظله
تتمحور هذه الرواية حول شخصيتي الديكتاتور غازي، وظله الظليل الضابط الذي يكاد يكون أيضًا صانع الديكتاتور، ومن أكبر ألقابه (المحبوب).
أما الأول فهو مولانا الذي "إن قال للشيء/ كن/ ما على الشيء/ إلا أن يكون/ كما يريد له محبوبنا". وهذا الديكتاتور المتألّه هو "وليّنا التليد الجديد، وشفيعنا الأبدي والأخير فوق هذه الأرض كما في السماء". إنه (الأب) الذي من ألقابه: الوطني الشمولي الكوني الحنان والتحنان. وعلى الرغم من أن الرواية لا تعيّن جغرافيتها كما تقتضي استراتيجية اللاتعيين، إلا أنها لا تفتأ تنثر ما يثير شبهة التعيين في بلاد بعينها وزمان بعينه. والتعيين بذلك يتسلل أحيانًا إلى اللاتعيين، كما في حديث الضابط (محبوبنا) عن (الأب) الذي جرّ من تمردوا عليه وحملوا السلاح ضده إلى مقتلةٍ. وما المقتلة إلا حكمة من الأب الكلي الرحمة، الطّوّاف الشوّاف لمستقبل البلاد والعباد. والمقتلة كانت بأمر إلهي. ولولا (اللسان الإلهي) لما نجا الأب من شرور من ثاروا عليه.
عندما انتسب إلى الكلية "غازي زمانه وبدر فضائه ومكانه، الورع التقي الدين النقي وشغل الناس الشاغل على مدار الساعة في الدنيا كلها"، وجده طبيب الكلية منكوحًا، فواساه بقوله: "إنها بلاد المنكوحين"، فكان أن اختفى الطبيب. وفي صعود غازي الديكتاتور المتأله كانت له في مدينة صغيرة (حفلة) رسمتها الرواية في مشاهد كابوسية مروعة. ومنذ تلك الحفلة/ الواقعة التي فتك بها أيّما فتك تأكد لغازي أنه يسلك الخطوات المطلوبة كي يصبح بهيمةً مقدسة، خطوة خطوة.
ترصد الرواية صعود الضابط (المحبوب) منذ النجمة الثانية على كتفيه، التي تدل على رتبته العسكرية الأولى في بداية سلّم الارتقاء إلى السدّة. وقد حُقّت له النجمة بعدما قاد المجزرة التي ارتكبها رجاله ضد بلدةٍ مقابلة لبلدته (الحمرات) في بلد عربي هامشي ثانوي من الخليج إلى المحيط، كما ترسم الرواية جغرافيتها. وحين حملت كتفا المحبوب النجمة الثالثة في ارتقاء جديد - وقد جعلت الرواية من الصعود نجمة فنجمة إيقاعًا لها – شاعت النذور والقرابين تعبيرًا عن سلطةٍ تحتاج إلى تقوى الله وعباده المؤمنين، وبدأ (المحبوب) فصل التهريب من سيرته الحافلة، واقترح على الأعلين إغراق البلاد بأزمات اقتصادية. حتى إذا حلّ (النسر) محل النجوم على كتفي الضابط في رتبة أعلى هي رتبة (الرائد)، أعلنت الرواية عن الزمن الجديد للشرق/العرب، وجُنّ جنون المخيلة، إذ أرسل سكان المجرات أطباقًا مما لا يدركه العقل الكوني، فأظلم الكون، وافتقد حمد (عم المتألّه غازي) من حميره الابتزازية الحمراء حماره الأعرج الأغرش وحمارته الملقبة بالفرفورة.
حمير الحمرات
قبل الانتقال إلى ما للحمير في هذه الرواية ينبغي التشديد على ما للسخرية فيها. ويحضرني هنا تشبيه عبد السلام بنعبد العالي للسخرية بالفلسفة، إذ تأتي لتحدث قطيعة مع الرابط الذي يربط الإنسان بوجوده. وإذا كان ميلان كونديرا لم ير في السخرية إلا ذلك (البريق الإلهي) فعبد السلام بنعبد العالي رأى في السخرية نوعًا من (فتح قوس سياسي)، وهذا ما يجد مصداقيته الكبرى في رواية (البهيمة المقدسة) كما فيما قرأت من روايات صاحبها.
لذلك المكان المسمى (الحمرات) شيطانه الذي لا يأتي إلا بحمير حمراء. وإذا كانت (البصارات) التي ستفرد الرواية لها حضورًا قويًا، تقرأ في ظهور الحمير نذير شؤم، فالحمير التي يتولاها (محيمود) عم غازي المتأله، والحمير التي كأنها في الحمرات (حمير الله)، هي إما صامتة صمت القبور، أو نهّاقة رفّاسة لا يسكتها إلا عمّ غازي الذي اخترع (دعابة الحمير) إذ يطلقها في (الحمرات) حين يعتكر ما بينه وبين غازي في العاصمة، كأنْ يرسل إليه مدمنًا من أجل العلاج، ويهدده إن قصّر بالحمير التي ترفس وتنهق وتركض من أول القرن العشرين إلى نهاية القرن الواحد والعشرين "حيث لن يكون لك عز ولا مجد لا أنت ولا أبيك (أبوك) الروحي". فهذه الحمير لن تدع أحدًا في الحمراء ينام قبل صلاة الفجر. وقد نشبت المعركة بين جنود غازي وحمير عمه: "حمير مسالمة متعبة، ولا تشيل بين حوافرها ضغينة من أي نوع لأيٍّ كان من البشر، ولا بنادق من ماركة أوزي أو غيرها". وهي تموت "كما الجراء العاجزة الضالة، كما البراءة، كما الخطيئة". وسيلي أن تاريخ (الحمرات) مرهون دائمًا بظهور أو اختفاء الحمير. وفي اعتقاد الناس أن الحمير تخرج بعد زمن مديد على هيئة مخلوقات بشرية (التقمص عكس المسخ) جديدة منزهة عن الخطيئة، كي تبدأ عهدًا جديدًا.
أية طائفةٍ هذه؟
تختفي كائنات العم محيمود، حميره، من (الحمرات)، ثم من (النص) كما تقول الرواية. ويكتب العم لابن أخيه المتأله في العاصمة أنه ينوي أن يكون شيخ طريقة ودين مما ينفع الناس دنيا وآخرة، ويخبره أنه فرغ من مطالعة (الرازباش)، وهي "الرسالة القمة في تاريخ الدستور". ولعل الرواية هنا توارب في ذكر الرسالة (الرستباشية) التي وضعها الحسين بن حمدان الخصيبي (874 – 969). ويعضد هذه الإشارة ظهور بحلوس النحلوس الذي يلقن الناس أسرار الصلوات السرية الغامضة. وكذلك قول المحقق الإسرائيلي للأسير من بلاد المتأله والمحبوب: مؤسس دينكم من رموزنا التاريخية، قاصدًا عبد الله بن سبأ اليهودي الشهير الذي عدّه طه حسين شخصية وهمية، وأنكر تاريخيته أحمد عباس صالح عكس كثيرين. ويتحدث السارد في الرواية عن استقدام الشيخ بهيج الحبوش إلى الحمرات، وهو الذي يفيض في المفردات الصوفية الشيعية – بل والعلوية. وهنا يبرز بقوة ما لإيران من حضور في الرواية.
فالأعاجم الفرس يظهرون التاريخ السري المغبون مع ثورة الإمام علي على أنه التاريخ الحقيقي للملوك والأئمة. ومن ذلك أيضًا إحضار "علّامة زمانه وفقيه مكانه" من بلاد العجم الذي يتغلب عليه الشيخ ضرّاط – ليس للسخرية حد. وهذا كامينو طبنجة الفارسي الأصل جاء بأمر آية من الآيات الإيرانية، وقُتل فجأة. ومن تركيا حضر كوجان التركي الذي اتبع (دين الحمرات)، وصار وليًا، وتولى نجارة الحشيش التركي الرخيص الرديء، ومات مخنوقًا.
ما من شخصية أو حدث أو فكرة في رواية (البهيمة المقدسة) يمكن أن تُقرأ إلا في عصف التخييل وفي عصف السخرية، حيث تفتقد الرواية الروابط السردية المألوفة. بل إن الرواية تقوم على (التهشيم السردي). وهكذا تلي معركة الحمير واقعة الشؤم أو المعركة الوطنية الشهيرة التي ينتصر فيها الجيش الوطني لأول مرة في القرن العشرين، والتي هي "أقرب إلى الواقعية، الاشتراكية السوفياتية، أو القومية الشوارعية، أو الشيوعية القومية".
وهكذا يصير نبيّ الحمرات العارف المتأخر رشيد البقال الذي كان مساعدًا في الجيش، وصار فيلسوف عصره، يصلي خلفه قطيع من الجنرالات، وهو يتباهى أمام زبنه أنه سيد ومعلم "هؤلاء البجم من الجنرالات".
وفي الحمرات أيضًا: المرأة شر الشرور، ولا تؤتمن على أسرار خالق الخالق الذي عاش فوق الأرض ردحًا كعبد، في اعتقاد أهل الحمرات. وقد مضى التطور في الحمرات من لهجة الدجاج المسالم إلى لهجة البلطجة، فطغى القتل والدم، وبرز (آل الوحش) الذين عرف عنهم الغدر والإتيان من الخلف. وهذه الصفة لهم (اللواط) هي أهون ما في الرواية من طوفان الجنس الشاذ.
أية أسرة هذه؟
من شخصيات الأسرة المتسيّدة في الحمرات، أسرة الديكتاتور، تنخرط الجدة العجوز في التهريب والتشليح. وقد أوصى الضابط المحبوب بها من تولّى أمر التهريب الذي شق درب البودرا (المخدرات) (هايل س.). والجدة العجوز تستغرب وجود الروس والأميركان في المقصورة الروحية للأب (غازي). وتتألق من آل الوحش شخصية زنوبة خالقة الحكايات التي تخدم عمّ غازي (محيمود) في قصره لاعنًا "الحكومات المتعاقبة ذات الصيغة الطائفية الأيديولوجية التي تخلو من أي صيغة قومية أو وطنية إلا بالشعارات الكذابة". ويحكي محيمود لزنّوبة أنه لو لم يتخرج من الثانوية العامة وهو في (الحزب القومي)، ويبدل دينه سرًا، ويرتبط بمخابرات أجنبية لما كان للبلاد غازي. وزنوبة هي (فتّاحة أبواب الكلام) التي تلاعب التورية إلى أن تبلغ باللغة حد التعمية - كما هي بعامة لغة رواية (البهيمة المقدسة) – كلما اقتربت من وضوح الرموز. وفي حديث زنوبة تتبدى (علوية) محيمود من خلال ظهورات الاثني عشر إمامًا والأيتام والفسوخ والرسوخ... إلخ. وتروي زنوبة للعجوزين (نورا والهلالية أم الجمبع) علاقتها الجنسية مع محيمود. وقد خطفها المهرب الكبير إليسار، لكنه الخطف على السنة والشريعة في هذه البلاد!
مع زنوبة التي صارت (أم الدولة) تقدم الرواية من آل الوحش شخصية نورا السبعينية التي يطلق (المحبوب) يدها في كل شيء، فتقود حملة على المهرب الكبير إليسار، لكن الحملة تخفق فيغضب (الأب) من قائد الجيش، ويهدد: "لو أنني ربيت حميرًا لكان أفضل لي من تربية الجنرالات من أمثالك". وتبذّ شخصيةُ العجوز الهلالية شخصيةَ نورا. ولما تزوجت من كبير الخدم، فصار اسمه الهلالي وصار بهيئة بهيمة إلهية ذكورية، أبلّت من الخزف والشيخوخة.
في العاصمة يربض الشامتون بآل الوحش، والساخرون من أن تاريخ هؤلاء تكتبه الحمير. وهؤلاء يفصلون تاريخهم عن تاريخ (الحمرات) الذي يخطه غازي بالدم والرعب. ومن (لَعِبِ) الرواية في العاصمة هي ذي العصابة التي يتزعمها العنّين، ويتخذ من مفردة (النذير) عنوانًا لنشرته الإعلامية التي فرّغ لها مجموعة من أساتذة التاريخ، وبعض المثقفين اليساريين المنقلبين. وهذه النشرة التي تحض على حرب طائفية، أسسها البرلماني (العنّين؟) في العاصمة المنتهكة التي عليها - بحسْبه – أن تتبندق مرة وإلى الأبد.
من جديد ينال (التعيين) من استراتيجية اللاتعيين عبر نشرة (النذير) مطلع ثمانينيات القرن الماضي. ومثل هذا النيل هو هدير (المحبوب) ضد من يعارض "مرة إسلاموية ومرة شيوعانية ثم مرة ماركسوية ثم مرة ناصرانية"، حيث تكون أركانه كما يقول: "مستهدفة بمؤامرة كونية يبرمجها وفق نزواته وأهوائه".
ما بعد البهيمة المقدسة
مع اقتراب الرواية من نهايتها وشيخوخة وعجز (الأب غازي) يبدأ أمر التوريث الذي يدبره بنفسه مع (المحبوب). والمحبوب يخشى الصهرَ الوحيد للأب، ذا الأفكار الانقلابية والمغامر الذي خطف ابنة غازي الوحيدة من القصر بعدما أمنه سيد القصر عليها، ونقرأ: "كانت التركة باهظة وثقيلة، وتحتاج إلى قوى دولية لترتيبها وحمايتها من غارات اللصوص على السلطة".
في عزم الأب أن يورث الابن فالحفيد فـ... إلى أن يعود هو. والأب لم يكن يثق بجنرالاته ولا وزرائه، فهو يعرف أنهم يؤلهونه نفاقًا وخوفًا. وهو يضربهم ببعض في الدولة التي هي دولة متآمرين وجواسيس ومخبرين حتى على الأب نفسه، كما يخبر السارد.
أصيب الأب بسرطان الدم، وكان الساحر المغربي قد تنبأ له بأن ما تبقى له من الزمن يسير "أما عن حكم بنيكم فسيكون لهم من الحكم عشر سنين". وينقل الساحر عن الملك الأحمر من الجن أن البلاد ستغرق بعد سنيّ الوريث في الفوضى والدم، و"ستزول آثاركم من تماثيل وأصنام عن وجه الأرض ركلًا بالأقدام، وتحطيمًا بالجواكيش والمطارق والحجارة، وستنقص بينكم الحكمة والروية، الرؤية والرؤيا، المعرفة والعقل السديد الرشيد والحنكة التي عرفتم بها". ويتابع الساحر نبوءته: "بعد سنوات عشر لا أكثر يثور شعبكم كأنه قطيع من الذئاب المفلوتة على بنيكم حيث لن ينجو لا شعبكم ولا بنوكم من مآسٍ يندى لها جبين الإنسانية". ويضيف: "كما في كل رواية واقعية ستأتي بوارج وطائرات وجند غرباء إلى أن يزول جيشكم عن وجه الأرض بعد ذلك".
عقابًا على نبوءاته، تم تذويب الساحر المغربي بالأسيد. بينما يبلغ تأليه الأب الديكتاتور غازي غايته، فينحني له كبار الجنرالات من أصهار الحمرات والتبّع الخلّص، ويركعون ويسجدون له كخالق الخلق "وكنورٍ إلهي متجسد على الأرض، كبهيمة نورانية أكثر من إلهية، أكثر من مقدسة". وعند احتضار هذا المتأله يتابع (المحبوب) في المدفن المستقبلي تحت الأرض خَزْنَ المقتنيات من الأوسمة إلى نكاشات بوابير عمرها أكثر من ثمانين سنة، إلى حمالات أثداء لقلة من النساء، كان الأب يستخدمهن في أوقات متقطعة بفحش ثم يُعزلن، ولا يعلم بالسر أحد إلا المحبوب، حتى إذا مات الأب جمع كبير المهربين (أليسار) رجاله في الحمرات آمرًا: "قولوا خلفي: لا إله إلا أليسار"، وعدوى التألّه إذًا سارية!
***
يذيّل الكاتب روايته بتاريخ كتابتها خلال عشرين سنة من 1990 إلى 2010. وقد تأخر نشرها عشر سنين بعد ذلك. ومهما يكن من أمر هذا التحديد، فقد يتراءى للقراءة أن في الرواية من ارتدادات زلازل ما عُرف بالربيع العربي، ما فيها. وقد حضر الكاتب في روايته مرارًا ومباشرة، في لعبٍ حاذقٍ للميتا رواية، كأن يتقدم صريحًا في فقرة يعقبها بقوله: "أعود إلى النص"، أو كأن يحدّث القارئ عن بناء الرواية: "عليّ أن أنقذ البناء من هذا الهلاك، من التهالك المحتّم"، وعن اللغة الروائية: "سأحاول إذابة الجليد في بنيان اللغة المماطلة المعطلة". وقد يشارك الكاتب القارئ(ة) في اللعب، كما في حديثه عن ضياع كل أثر لمحيمود صاحب الحمير وعمّ الأب "عليّ أو على النص أو في الحمرات"، أو كما في قوله: "لم يكن هدفنا اللحظة أن نصل إلى ما وصلنا إليه في الفقرات السابقة متتابعة مترابطة أو منفصلة، مفككة أو متقطعة أو غير ذلك". وقريبًا من ذلك ما يتواتر من انفتاح فقرات الرواية دومًا فيما يشكل إيقاعًا وناظمًا، كما في عبارة "في قطع ما لا بد من قطعه" أو عبارة "في تفصيل ما لا بد من تفصيله" أو عبارة "في العودة إلى ما يجب أن يعود إليه النص طائفاُ أو مرغمًا"...
بكل ما تقدم تبدو رواية (البهيمة المقدسة) أنموذجًا للصراع السردي، بما يعنيه من تسريد الصراع السياسي والروحي والاجتماعي في زمن ما وفي فضاء ما، وبما يعنيه قبل ذلك وبعده من بناء الرواية عمارةً ولغةً وشخصيات.