}

مكتبات الرصيف: هل نتوقف ونشتري كتابًا؟

مناهل السهوي 18 نوفمبر 2024
آراء مكتبات الرصيف: هل نتوقف ونشتري كتابًا؟
إحدى مكتبات الرصيف في دمشق

لم تفشل أي مكتبة على الرصيف في جذب انتباهي، حتى لو احتوت بضعة كتب لا غير. تتجاوز مكتبات الرصيف البعد التجاري إلى آخر مرتبط بفكرة القراءة، العلاقة التي قد تجمعنا بالشخصيات أو الموضوعات الموجودة في تلك الكتب، بمن سنكون بعد قراءة تلك الكتب، وفي كلّ مرة تساءلت هل أتوقف واشتري كتابًا؟
تبدو مكتبات الرصيف دعوة مفتوحة للغرباء، لكل شخص قد يمر ولم يفكر يومًا في القراءة؛ للطفل أو العجوز، للعائلة، لعاشقين، للقارئ أو غير القارئ. إنها دعوة صامتة لشراء كتاب.

بسطات الكتب تحت جسر الرئيس في دمشق
في عام 2017، كان لي لقاء نُشر في "ضفة ثالثة"، مع السيد صلاح صلوحة، أو "عمو صلاح"، كما اعتدتُ أن أناديه. رجل سبعيني يمتلك بسطة كتب تحت جسر الرئيس في دمشق. اتخذ صلاح مكانًا بين كتبه المستعملة، مرتديًا قبعة أنيقة، محاورًا الزبائن عن الحرب والكتب، ومستذكرًا مكتبته التي التهمتها الحرب. لجأ صلاح إلى فتح مكتبة الرصيف بعدما دمرت الحرب مكتبته في ريف دمشق، ليصبح رمزًا من رموز باعة كتب الرصيف، ولسنوات، بقي هناك ينتظر زبونًا، أو قارئًا. رحل عمو صلاح قبل بضع سنوات، رحل قبل أن تأتي الحكومة السورية وتجرف مكتبته.
رغم جمالية مكتبات الرصيف، وقدرتها على جذب الناس خلال مرورهم الروتيني، وتشجيع مزيد منهم على القراءة، إلا أن للحكومة السورية رأيًا آخرَ، وهي غالبًا ضد الجمال والمعرفة، إذ أزالت مكتبات الرصيف الواقعة تحت جسر الرئيس وسط دمشق، واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًا، إذ يعبرها الآلاف كل يوم. لم تكن المشكلة في إزالة المكتبة من دون إنذار وحسب، إنما أيضًا في طريقة إزالتها، إذ تم تجريفها باستخدام بلدوزر، وكأنها تجرف قمامة.
بررت الحكومة فعلتها بهدف "زيادة جمالية دمشق"، لا شكّ في أن مفهوم الجمال مشوهٌ لديها، ففي المنطقة نفسها التي كانت تحتضن مكتبات الرصيف، هنالك كراج ضخم تنطلق منه نقطة مواصلات معقدة، إلى داخل دمشق والضواحي، ومع اشتداد الحرب والانهيار الاقتصادي ووصول أكثر من 90 في المائة من السوريين إلى ما دون خط الفقر، باتت هذه النقطة أشبه بملتقى للبؤس والتعب، مكان يلتقي فيه السوريون بعد يوم طويل في انتظار وسيلة مواصلات عامة، وللحصول على مقعد كان على السوريين الانتظار لساعات تحت الشمس والمطر، وفي وقت أزمات المحروقات يغدو الوضع أشد قسوة، إذ تتصاعد الشجارات والتذمر وصراخ الأطفال، ويطغى البؤس على المشهد، وقرب كل هذا استقرت مكتبات الرصيف التي لم تعد موجودة.




والسؤال اليوم: ما الأكثر أهمية في الوقت الحالي، تأمين مواصلات عامة كافية ومنظمة، أم إزالة مكتبة؟ يبدأ جمال المدن انطلاقًا من خلق بنية تحتية واقتصادية واجتماعية لائقة بسكانها بعيدًا عن التدافع والشتم للحصول على مقعد في باص، جمالية المدن تكمن في طمأنينة ساكنيها، وشعورهم بالأمان والقدرة على الوصول إلى المنزل من دون الحاجة للانتظار تحت الشمس والمطر لساعات.
يرتبط فهم الجمال بالوعي والثقافة، وبمدى ارتباطنا بهما، إن كل فرد قادر على خلق الجمال عبر ثقافته ووعيه ورؤيته للحياة التي تنمو بالقراءة والمعرفة، وهي أمور قد نجدها في بسطة كتب تحت جسر ما.

القضاء على فكرة ثقافة الشارع
مكتبات الشوارع أو تلك الموجودة تحت الجسور ليست مجرد كتب مستعملة؛ فهي شاهدة على قصص الناس ومآسيهم. خلال الحرب، اضطر كثير من السوريين إلى الهرب، فباعوا مكتباتهم بأسعار زهيدة، أو منحوها لغيرهم، ما أنعش حركة بيع الكتب المستعملة في المدن السورية، وفي دمشق خصوصًا. إلى جانب ذلك، ظهرت كتب من مكتبات سرقت من مناطق النزاع. أذكر أن السيد صلاح صلوحة أخبرني عام 2017 أنه يرفض شراء مكتبات مسروقة، ويصرُّ على شرائها من أصحابها مباشرة، أو من مصادر موثوقة.
تعد فكرة وجود مكتبات عامة على الأرصفة شائعة في عدد من دول العالم، لا بل تطورت باتجاه مساعدة الناس على الحصول على الكتب بأسهل الطرق. على سبيل المثال، Little Free Library هي منظمة غير ربحية مقرها في سانت بول، في أميركا. تحاول تحفيز المجتمع، وإلهام القراء، وتوسيع نطاق الوصول إلى الكتب للجميع من خلال شبكة عالمية من صناديق تبادل الكتب التي يقودها المتطوعون. تقوم رؤية المشروع على إنشاء مكتبات صغيرة على شكل بيوت خشبية توضع في أماكن عامة، مثل الأحياء السكنية، أو الحدائق. يمكن لأي شخص استبدال كتاب من المكتبة بكتاب من مجموعته الشخصية، ما يسهم في دوران الكتب بين أفراد المجتمع بشكل مجانيّ، ويعزز ثقافة القراءة والمشاركة.
انتقال الكتب المستعملة من قارئ إلى قارئ ليست عملية إحياء للكتاب وحسب، إنما خلق روابط غير مرئية من الثقافة والتجربة، يقرأ العشرات كتابًا واحدًا، يتركون فيه مشاعرهم وأفكارهم، كتاب واحد وعشرات التجارب.
في المنطقة العربية، لطالما كانت مكتبات الرصيف جزءًا من بعض المدن، كمكتبة منطقة "سور الأزبكية" في القاهرة، وهي واحدة من أقدم وأشهر أماكن بيع الكتب على الرصيف في الوطن العربي، وتحتوي على كتب نادرة وقديمة بأسعار زهيدة، أُنشِئت هذه السوق عام 1933، حين استأجر بائعٌ كشكًا وعرض فيه كتبه. لاحقًا، توسعت المكتبات في سوق الأزبكية حتى وصل عددها اليوم إلى أكثر من 40 مكتبة.
في بغداد، يمتدّ "شارع المتنبي" إلى نهر دجلة، ويبلغ طوله ما يُقارب 1 كيلومتر، ويقع تمثال أبي الطيب المتنبي في بداية الشارع، وينتهي هذا الشارع بنصب حُفر عليه بيت من أبيات أشهر قصائد المتنبي، ويعود تاريخه إلى حوالي 1930.
تعرض شارع المتنبي لتفجير كبير عام 2007، ما دمر عددًا من المكتبات والأكشاك، وترك ضحايا، سواء من القراء، أو الباعة. ومع ذلك، أعيد بناء الشارع، وعاد بائعو الكتب ليواصلوا بيع الكتب على الأرصفة.

بيع الكتب هي المهنة الأخيرة لأصحابها
عمر المكتبات على ضفاف نهر السين في العاصمة الفرنسية باريس مئات السنين، إذ تعود إلى القرن السادس عشر تقريبًا. تحولت هذه الأكشاك إلى رمز ثقافي للمدينة، وعامل جاذب للسياح وللباحثين عن الكتب النادرة والقديمة. في أثناء الثورة الفرنسية (1789 ــ 1795)، أدى الانخفاض الحاد في الإنتاج المكتوب وقلة الطباعة، التي اقتصرت على الصحف والمنشورات الثورية، إلى تزايد مكانة بائعي الكتب المستعملة، وهو ما ساعد على انتشار مكتبات الرصيف.
وقال أحد باعة الكتب على ضفاف السين لـ "مونت كارلو": "أن نكون بائعي كتب يعني أنها عادةً وظيفتنا الأخيرة".
تختصر هذه الجملة علاقة الباعة مع كتبهم. وغالبًا حين تزال المكتبات، نحزن على الكتب ومصيرها، لكننا ننسى الباعة ومصيرهم، وخصوصًا في بلد مثل سورية بات فيه الحصول على لقمة العيش أكثر صعوبة، إذ يتحدى باعة الكتب المستحيل ليتمكنوا من العيش. فمَن ما زال يعمل في مهنة يؤمن بها في بلد منهارٍ اقتصاديًا وسياسيًا وفكريًا؟
يواجه باعة مكتبات الرصيف صعوبات متزايدة أولها وأهمها في سورية قلة الدعم الرسمي الذي ذهب حد عمل هذه الجهات ضد البائعين، وإزالة مكتباتهم، بالإضافة إلى تراجع القراءة، بات بحث القراء ليس عن الكتاب، بل عن لقمة العيش.
المكتبات هي التي تختار مكانها، ويجب أن نحترم ذلك، أو على الأقل ألّا ندمرها ونقصيها، من الأهمية بمكان أن نسمح للكتب أن تمتد وتأخذ مساحتها، وتفتح ذراعيها للقرّاء، وأقصى ما يمكن للحكومات أن تفعله هو التشذيب، وبعض التنظيم، من دون تخريب للأصالة.

مصادر:
ــ بائعو الكتب على أرصفة نهر السين في باريس مصمّمون على مواجهة الأزمة الصحية ــ مونت كارلو الدولية ــ 12/ 1/ 2022.
Little Free Library: website ــ
/https://littlefreelibrary.org/about

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.