}

ربما يبدأ العملُ الصحافيّ بقصيدة!

مناهل السهوي 13 أغسطس 2024

 

عندما تقدمتُ لامتحان القبول في كلية الإعلام بدمشق، قبل سنواتٍ، لم أنجح، ولم أدرس الإعلام، كان العام الوحيد الذي وضع فيه شرط النجاح في الامتحان المعياري، قبل التسجيل النهائي، بعدها لم يُطلب مثل هذا الامتحان. أتساءل اليوم ما الذي كان ليحدث لو نجحت في امتحان القبول لدراسة الإعلام في حينها؟ وأين سأكون اليوم؟ درست الأدب الفرنسي لاحقًا، قادتني الطرق إلى الصحافة ولم تكن مقصودة في الحقيقة وبين المزاحِ والجدّ وقصيدةٍ وأخرى أصبحتُ صحافية.

صراعي بين الشعر والصحافة

يمثّل الأدب والصحافة جوهر حياتي الآن، ومن يوم الامتحان المعياري في كلية الإعلام بدمشق كان يبدو أني سأدخل هذا الصراع. لطالما هربتُ من العمل والالتزام، أصرّيتُ على مشروعي الأدبيّ وعلى الحريّة بالقدر ذاته، وكنتُ أعلم أن أيَّ عملٍ آخر سيبعدني عن مشروعي الأدبي، لكن وبطبيعة الحال، اكتشفتُ أن الشعر والأدب لن يطعماني الخبز، وحين تعلّقَ الأمر بالعمل أصررت على أن تكون الكتابة سبيلي لعيشٍ كريمٍ وللأمانة لم تخذلني الكتابة، لكن الصراع بين الأدب والصحافة ما زال موجودًا، أتعامل معه بشكلٍ يوميّ ويمكن القول إنه يزعجني في بعض الأحيان، لكن ما لم أتوقعه هو أن تبعدني الصحافة عن مشروعي الأدبي إلى هذا الحد، واليوم أعتقد أنّي أمرُّ بمفترق طرق ويخطر لي أن أتخذ قرارًا أو أن أغيّر شكل حياتي وعملي.

لكن وللأمانة، انطلاقي من الشعر إلى العمل الصحافي منحني امتيازاتٍ أيضًا في عملي، يمنحُ الأدب الصحافة حساسية، وبمساعدة فهمي العميق للغة تمكنتُ من إحاطة الأفكار بأساليب وصياغات أعمق والوصول إلى زاوية معالجة خاصة بي، ربما لن أنتبه لها لو لم أكن شاعرة بالأصل.

دفعتني الصحافة لكتابة مواضيع لم أكن أتخيّل أن أكتب عنها، دفعتني لدخول الحياة ومصارعتها، الحياة ذاتها التي كان الشعر سببًا في الابتعاد عنها، عشتُ في الشعر حياةً شديدة الخصوصية وفي بعض الأحيان غير واقعية وهذا خطير في بعض الأحيان، في عالم تلتهمه الصراعات والهموم اليومية والاقتصادية لا يمكن أن تكوني شاعرة وحسب، شاعرة منعزلة تبني عالمها الخاص بثقة، أقول هذا بحسرة وما زلت أتمنى أن تغدو أمنياتي متاحة يومًا، أن أكون شاعرة وحسب.

يجب أن أعترف أني صحافية

قررتْ مرة صحيفية "نيويورك تايمز" أن يستمع صحافيوها إلى قصيدة، كلّ يوم صباحًا وقبل مناقشة أجندة الأخبار اليومية، وقال موريغان مكارثي، محرّر الصور ومحترف الشعر السابق في الصحيفة عن التجربة: "إن سحر الشعر يكمن في أنه يدفع عقلك إلى التفكير في موضوع ما بطريقة غير متوقعة. هذا هو بالضبط ما نريد أن نفعله على المكتب الوطني: البحث كلّ يوم عن طرق ذكية ومثيرة للاهتمام لمعالجة أهم القصص في هذا البلد".

أمّا عن تأثير قراءة قصيدة صباحية على العمل الصحافي فيتابع موريغان: "أعتقد أننا نكون أكثر تأملًا كلّ صباح. أستطيع أن أعرف ذلك من خلال النظرة البعيدة في عيون زملائي ونحن نستمع إلى حقائق عميقة يتم نقلها بشكل متناثر ومهيب".

يساعد الشعر بشكل خاص في الصحافة الأدبية، يقول الصحافي توم كوروين الذي عمل في صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" واصفًا عمل الشاعر والصحافي الأميركي فيليب ليفين الذي ساعده الشعر على الدخول في التفاصيل والغزارة: "بدلًا من أن يسرد القصة من مسافة بعيدة، يدخل في كل لحظة تمامًا، متبعًا المبدأ البسيط القائل بأنه كلما قدّمت العالم بشكل أكثر حميمية، زاد المعنى العالمي له".

يساعدُ الشعر الصحافي على جعل مقاله أكثر جاذبية للقارئ، هذا ما تعلّمته بعد حوالي ثماني سنوات في العمل الصحافي، من خلال استخدام الصور، الاستعارة، والصياغة العامة، يمكن خلق تجربة يتوق لها القارئ والأهم أنها غير موجودة في أيّ مكان آخر، أي الجمع بين المعلومة والتأثير العاطفي.

ساعدني الشعر في عملي الصحافيّ من خلال تبسيط الأفكار المعقدة، توضيح المشاعر العميقة والغريبة أو حتى المخيفة، لكن أيضًا الصحافة مثل الشعر وضّحت أفكاري ومخاوفي ومخاوف العالم بطريقة مقنعة لكنها مختلفة، في الصحافة نظرت في المرآة على الحائط وفي الشعر رأيت انعكاسي على بركة ماء بعد يوم عاصف.

لم أعترف لليوم أمام نفسي أني صحافية رغم أني أُعرّف نفسي على أني صحافية وكاتبة، لكنّي وعميقًا ما زلت أتعامل مع هذه الحقيقة القاسية وأجرب كتابة مقال عن قطاف الزيتون أو حقوق الإنسان أو المرأة أو الحرب القريبة ومآلات حدث سياسي دون أن تقفز الشاعرة داخلي وتقول لي: "ماذا تفعلين بالضبط؟".

الصحافة الجديدة والشعر

يأخذني الحديث عن الشعر والصحافة إلى أسلوب الصحافة الجديدة أو ما يسمى (New Journalism)، وهو نوع من الكتابة الصحافية التي ظهرت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، واشتهر بها الكاتب والصحافي الأميركي توم وولف.

جمعَ وولف بين تقنيات السرد الروائي والصحافة التقليدية، وهذا ما ساهم في إضافة عمق وسردٍ جعل المقالات أشبه بالقصص الأدبية. ركّز وولف على السرد الروائي والوصف الحسيّ والتركيز على التفاصيل الصغيرة التي ربما تجدها الصحافة التقليدية غير ذات أهمية، أمّا العنصر الأساسي فكان إضافة وجهة نظر الكاتب، وفي النهاية جذب أسلوب وولف جمهورًا جديدًا، وما قام به وولف في حينها كان إعلانًا لتقليص حدود الصحافة ومنح المقالات مساحة قد لا تتقبلها الصحافة التقليدية.

اليوم ومع الاستخدام الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، وسهولة الحصول على المعلومة والخبر، ألا يجب أن نسأل أنفسنا مجددًا عن حدود الصحافة وعمّا تحتاجه حقًا؟

ومع تصاعد الصحافة الجديدة التي عمل عليها وولف قبل عقود لكن بتقنيات وأساليب جديدة، والتي تتجه ليكون كلّ فرد فيها صحافيًا من مكانه ويكتب القطع الصحافية من وجهة نظره، تتوجه مواقع عدة، عربية وغربية، لهذا النوع من الصحافة والذي قد يجده البعض تخريبًا لجوهر الصحافة وابتذالًا ربما.

يرتبط تعريف الشيء بزمانه، ودومًا ما كانت الكتابة ابنة زمانها، وهنا أقول الكتابة وأشمل الصحافة والشعر والرواية و...، وأعتقد هنا تحديدًا أنه لا يجب أن نخشى التغيير مهما بدا جامحًا فالكتابة فيها من الخوف ما في الحياةِ من خطر. بالعودة إلى الشعر والصحافة، أعتقد أن الشعر منح الصحافة التي أكتب هذا التجديد الذي أنشأه وولف، في مرحلة ما أردتُ كتابة مقالٍ يمنحني شعور كتابة قصيدة، الزخم، الترابط، الحكاية والصورة، كانت الصورة أهم العناصر التي عملت عليها، في الشعر كنت أقلّص قصتي لحدّها الأقصى، في الصحافة صار لدي مساحة لقصتي، لأرويها وللبحث وللإضافة والتحليل، مؤمنة أن كلّ ما أفعله في الصحافة كان مبنيًا على رؤيتي الشعرية للحياة، كان مبنيًا على القصيدة.

لا أعلم حقيقة شكل مستقبلي مع الصحافة، وبعد ثماني سنوات من العمل صار من الصعب إنكار أني صحافية وأني أستمتع بالعمل الصحافي في كثير من الأوقات، تتوق المرأة الشاعرة داخلي لإنكار هذه الحقيقة، لذلك أجبرها في كلّ صباح على النهوض والذهاب إلى العمل والتعامل مع حقيقة بسيطة لهذا الحدّ: أنت شاعرة وصحافية في الوقت ذاته، وعليك كتابة مقال اليوم، مقال قد لا ترغبين حقًا في كتابته. 

مصادر:

How poetry shakes up the National Desk,s Morning Meeting – the New York Times

Finding lessons for literary journalism in the poetry of Rust Belt chronicler Phil Levine -Thomas CurwenNieman story board

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.