}

الفلسفة والعلوم الإنسانية منقذًا من ضلال الاستبداد

سعد القرش 8 نوفمبر 2024
آراء الفلسفة والعلوم الإنسانية منقذًا من ضلال الاستبداد
الطهطاوي انتبه إلى الأفكار، إلى الحداثة لا التحديث
قبل إنشاء إسرائيل بأكثر من عشرين سنة مهّد اليهود بترسانة فكريّة اسمها الجامعة العبريّة. أيّ جامعة هي سؤال مفتوح على المستقبل، فلسفة تستهدف بناء العقول، وإطلاق الأخيلة إلى آفاق غير نهائيّة. وليست الجامعة ورشة لتخريج فنّيين يلبّون احتياجات آنيّة، سوقيّة، يمكن لأيّ أحد إتقانها. وفي الدكتاتوريّات الخشنة والناعمة ينخفض سقف القلق المعرفي، ويخدم التعليم أغراض المشروع السياسي، تُستبعد الحداثة وأسئلتها وقضاياها، ويحضر التحديث وتطبيقاته لإنجاز مهام تحوّل البشر إلى آلات. وقد عُني محمد علي، أقدم مستبدّي الحداثة، بإرسال بعثات متوالية إلى أوروبا، لدراسة الطب والهندسة وصناعة السفن والسلاح والذخائر. نسيناهم، ونتذكّر شيخًا قرأ القانون الفرنسي، وأسّس مدرسة الألسن. إنّه رفاعة الطهطاوي.
تعلّم المبعوثون وعادوا وأفادوا بما اكتسبوه من علوم ومعارف، كانوا تروسًا في مشروع الدكتاتور، البنّاء الكبير، أمّا الطهطاوي فانتبه إلى الأفكار، إلى الحداثة لا التحديث، وأطلق خياله يتقصّى علومًا إنسانيّة تراكمت، وأدّت إلى إنجاز الثورة الفرنسيّة، وعى شعارها "الحرّيّة، الإخاء، المساواة"، وابتدع اصطلاحات ربّما لم يسبقه إليها مصري، منها المجتمع والوطن، وعنه قال: "ليكن الوطن محلًّا للسعادة المشتركة، نبنيه بالحرّيّة والفكر والمصنع". لم يخرج اهتمام المبعوثين على حدود المهام المطلوبة، وانشغل الطهطاوي بعلوم نظريّة تُدرّب العقول على النسبيّة، وتوعية الشعب. وعن التعليم والقضاء سأل ونستون تشرشل، أثناء قصف الطيران النازي للندن في الحرب الأوروبيّة العظمى. طمأنوه، فأدرك أنّ بلاده بخير.
من العبث إعادة السؤال عن جدوى دراسة الفلسفة والعلوم الإنسانيّة، هذا جائز قبل مائة عام. إثارة القضيّة الآن نوع من النكوص، انتكاسة لاستبداد بليد لا يجدّد وسائله، ولا يخجل من أساليب خشنة تفضح الجهل. بعض العرب يسمّون الفلسفة حبّ الحكمة، ودراسة شيء منها في الصغر وقاية من ضلالات النظرة الأحاديّة للأمور. الفلسفة والعلوم الإنسانيّة تؤكّد لطلاب الكلّيّات العلميّة أنّ التعليم ليس حفظ معلومات واستعادتها، وإنّما هو تدريب العقول على التفكير النسبي، وابتكار حلول لمشكلات قديمة. والجوائز الكبرى في العالم تبحث عن العلماء المبتكرين. هناك فرق بين الجرّاح والعالِم، وفي كتاب سيمون بيرسن وفيونا جورمان عن مجدي يعقوب إشارات ذات دلالة.
ما أندر العلماء بين الجرّاحين. تحمّس مجدي يعقوب لرحلة مبكّرة إلى أميركا، فهناك "العلاقة أوثق بين العلم والجراحة"، قبل مواصلة "البحث عن الحقيقة من خلال العلم". يسجّل كاتبا السيرة قول البروفيسور وولتر سومرفيل ليعقوب: "ميزتك يا مجدي هي أنّ لديك خيالًا ثلاثي الأبعاد لكلّ حالة تتعلّق بالقلب". وفي كلّيّة الطب بجامعة شيكاغو أعطوه معملًا، وأحبّه الطلبة؛ لأنّه ينثر الأفكار، "ملهم على أكثر من مستوى، في عمق معرفته، وفي مدى فضوله العلمي... ليس ممّن يقولون هي هكذا وانتهى الكلام. وإنّما يقول دائمًا: فلنجرّب دراسة الأمر ونقيّمه بأفضل ما في وسعنا. فهو يتّبع منهج كارل بوبر العلمي". جرّاح عالِم، نموذجه الأعلى فيلسوف.
الوسيلة السهلة لتغييب الشعوب، في مشاريع الاستبداد، أن تكفّ عن السؤال، خوفًا أو يأسًا، وترتفع الحناجر فقط بالهتاف لمستبدّ، أو بحثًا عمّا يسدّ الرمق، والمستقبل بأيدي نخبة، حاشية تدعم المشروع وتستفيد من العطايا، وفقًا لأنصبة تخضع لتراتبيّات. وقد تشهد بعض هذه المشاريع نهضة علميّة وعسكريّة، بفائض العرق والدماء وإهدار الأعمار. وكلّ دكتاتور يُعنى بالعلوم الطبيعيّة، ويستثمر العلماء، وفي الوقت نفسه يهمّش العلوم الإنسانيّة التي يحترف معلّموها ودارسوها الجدل، ولا يقدّسون أحدًا ولا شيئًا. في هذه العلوم لا يستطيع الزعيم الادّعاء بأنّه الأعمق فهمًا، إلا إذا نسب لنفسه كرامات ومعجزات لا تُتاح إلا لنبيّ الله سليمان الذي علّمه الله منطق الطير.




في النظم المستبدّة لا شيء يبدأ من فراغ، كلّ انطلاقة تستند إلى قاعدة خفيّة أو واضحة. في الإعلام المصري، منذ 2013، جهة خفيّة تملي نصًّا لا اجتهاد معه. لدينا منصّات إرشاديّة لا إعلاميّون، ليس من التقاليد المهنيّة استئثار مذيع بالكاميرا أكثر من ساعتين، يفتي ويشرح وينتقد ويهاجم ويهادن ويدعم، ويصرخ ويتشنّج؛ فتنتفخ عروق رقبته، وهو يمثّل دور الخبير في كلّ شيء. وقد يُفاجأ مملوك بإلغاء برنامجه، وإلغائه شخصيًّا، فيصمت. يعرف أنّ له دورًا في لعبة، فلا يعترض، يُعاقَب الزمّار أحيانًا، ولا يسأل عن السبب، يثق بأنّه مرفوع مؤقّتًا من الخدمة، وأنّه في اختبار للقدرة على التحمّل، تمهيدًا لتكليفه بمهام جديدة.
قبل سنة من التعديلات الدستوريّة، عام 2019، قاد الكتبة حملة جسّ النبض، بمقالات في التوقيت نفسه، ربيع 2018، دعوا إلى تعديل الدستور، بحجّة أنّه كُتب في لحظة براءة. تلك المدفعيّة التمهيديّة تختلف عن تمهيد فردي استهان فيه مذيع التلفزيون تامر أمين بالمواد الأدبيّة، وتدريس اللغات والفلسفة والمنطق والجغرافيا والتاريخ، لأنّها "ما بتأكلش عيش". المسكين لا يجتهد. وإذا كانت جهة خفيّة توزّع على الإعلاميّين ورؤساء التحرير نصًّا، فإنّ تصريحات المذيع الداعي إلى إلغاء العلوم الإنسانيّة مسبوق بأعلى سلطة مصريّة. ففي 28 فبراير/ شباط 2022، تكلّم عبد الفتّاح السيسي عن انهيار التعليم وسوق العمل، وتوقّف أمام خرّيجي كلّيّات الآداب، "جغرافيا ولا تاريخ ولا بتاع".
الذي حرمته ظروف النشأة أن يتلقّى تعليمًا آدميًّا، لن يشعر بالفقر أو الحاجة إلى العلوم الإنسانيّة، ولن يعي أنّ التقدّم حزمة واحدة، تتوازى فيها أبحاث الفضاء، وعلوم الأدوية، واستنباط سلالات زراعيّة، وتكنولوجيا المعلومات، ودراسة السلالات المنقرضة، وتاريخ العلوم، والأساطير كوعي بالوجود، وترميم الذاكرة، وإدراك أنّ التراث مفهوم أكثر اتّساعًا من علوم الدين. وللعرب والمسلمين أن يفخروا بتراث علمي غزير غيّر العالم، وأسهم في ما بلغته البشريّة من تطوّر. دراسة التاريخ والفلسفة تؤكّد قدرة الجنس البشري على التجاوز، وديمقراطيّة التجاور والتحاور. والإنجاز الحضاري ليس انتقائيًّا، وحجم قوّة الدولة في مجال مثل الترجمة يحدّد مجمل الإنجاز العام الذي يُترجم إلى دخل وطني.
تسجّل إحصائيّات اليونسكو الخاصّة بالنشر أنّ العالم العربي أصدر 70630 كتابًا، عام 2019، وأنّ إسبانيا نشرت 90073 كتابًا، منها 65303 كتب ورقيّة، بزيادة 10.9 في المائة مقارنة بعام 2018. هذا ما سجّله الدكتور خالد عزب في كتابه "النشر في الوطن العربي". وفي عام 2022 نشرت الولايات المتّحدة 275 ألف كتاب جديد، ومصر 9500 كتاب. مقارنة عدديّة كاشفة، لا تتطرّق إلى مضمون الكتب. ولم يشهد التاريخ حاكمًا يسخر من منجز بلاده الأدبي في الفنون والآداب، وأنا الآن حزين، حتّى إنّني نسيت متى قرأت قول تشرشل إنّ الإمبراطوريّة البريطانيّة قد تتنازل عن مستعمراتها، ولكنّها غير مستعدّة للتفكير في التنازل عن تراث شكسبير.
حقّق الاتّحاد السوفياتي الستاليني وألمانيا النازيّة قفزات علميّة، في مقابل مطاردة الفلسفة. العلوم التجريبيّة سلاح الاستبداد للسيطرة على المواطنين، وتهديد الآخرين. والعلوم الإنسانيّة تقوّض الأساس الاستبدادي، فيستبعده الحاكم من البداية. كم أنفق صدّام حسين، في الداخل والخارج، على علماء العراق المتخصّصين في العلوم الطبيعيّة؟ بالغزو الأميركي انهار الوطن، وعجز عن حماية علمائه. أغراهم المحتلّون، ومن رفض اغتالوه. دكتاتوريّة متوسّطة الذكاء، تهمّش العلوم الاجتماعيّة في صمت، من دون إعلان الحرب. وفي ليبيا سحقت دكتاتوريّة خشنة كلّ شيء، العلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة، "أربعين سنة يتيهون في الأرض"، عقود طاردة لم تكن لتنتهي إلا بدماء غزيرة، فكانت الثورة على القذّافي الأقلّ وعيًا من صدّام.
كلام المذيع الحكومي ليس اجتهادًا شخصيًّا. لو تمتّع بالتواضع، لكان أقلّ فجاجة. في خمسينيّات القرن العشرين سخر صحافي مصري من دراسة الأدب العربي، فاتّهمه طه حسين بأنّه يكتب أكثر ممّا يقرأ، وقال: "رضي عن جهله، ورضي عنه جهله، ولكنّه لم يكتفِ بهذا، وإنّما أراد أن يذهب الناس مذهبه في إيثار الجهل على المعرفة، وفي الحكم على الأشياء، بدون أن يكون له بها علم، ولم يكتفِ بهذا أيضًا وإنّما أراد أن يلقي في روع الناس أنّنا لا نحتاج إلى أدب أو ثقافة".
أخشى ترجمة كلام المذيع إلى سياسات تغيّر المناهج التعليميّة، وتقصي المنطق الذي تتأسّس عليه العلوم التطبيقيّة، وإلغاؤه يخرّج لنا أمثال هذا المذيع، ويجعل الشعب رهين تجربة سبقنا إليها عراق صدّام وليبيا القذّافي.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.