}

التجويع القسري للغزيين: جنون العالم أم حقيقته؟

حسام معروف 14 فبراير 2024
آراء التجويع القسري للغزيين: جنون العالم أم حقيقته؟
طفلة فلسطينية في رفح/جنوب القطاع تواجه الجوع بعينيها (31/1/2024/الأناضول)

رداءة أخلاقية تتخلل هذا الصمت العالمي إزاء تجويع الآخر في غزة قسرًا. وأمام هذه الوقاحة، لا الإنسان إنسان، ولا الضمير يصلح ليقطع نبتة الشر، أو حتى يمنع عنها الماء. ونحن نعيش في عصر الحضارة المطلقة، هنالك من يهترئ جسده من الجوع، ويقتل ويعذب ويقصف منزله على رأسه، ويفقد أطفاله وذويه، هذه هي الحال في قطاع غزة، والتي يصل ذروة في البؤس وانقطاع الرجاء في العالم، لإنقاذ ما تبقى.
وعبر التاريخ، تسببت عوامل متعددة في حدوث المجاعات داخل العالم، منها الكوارث الطبيعية، وشح الماء والموارد الغذائية بفعل الطبيعة، غير أن أبشع تلك المجاعات هي التي تحدث بفعل الحروب، وما يتخللها من حصار للشعوب من جانب الجهة الأكثر قوة وسيطرة على الحدود.
ومن أبرز المجاعات البشرية عبر التاريخ تلك التي حدثت في الصين عام 1959، وفي أثيوبيا عام 1984، وكوريا الشمالية عام 1995. هذه الأوضاع المأساوية أودت بحياة الملايين من البشر، وحدثت لأسباب مختلفة، إما طبيعية، أو بفعل الإنسان ذاته.
إن الظروف القهرية التي يعايشها سكان شمال قطاع غزة تقترب من خطر المجاعة الحقيقية، ويأتي ذلك بفعل استمرار منع الاحتلال الإسرائيلي تدفق المواد الغذائية إلى شمال قطاع غزة، منذ انطلاق الحرب على غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بالإضافة إلى صمت عالمي مؤسساتي وشعبي على الجرم الذي يحدث.
لقد كانت أول خطوة حربية ضد قطاع غزة من جانب إسرائيل، في ذلك الوقت، إحكام الحصار على السكان الأبرياء، ومنع دخول الوقود بأشكاله كافة، وقطع الكهرباء والمياه، وكذلك حظر دخول المواد الغذائية بأكملها عن غزة، قبل السماح بدخولها بشكل تدريجي إلى جنوب القطاع، مع مرور على استحياء لشاحنات قليلة محملة بالمساعدات الغذائية لشمال قطاع غزة، وبشكل متقطع يتبع للمزاجية، بعد تصاعد الضغوطات الدولية.
لكن ما يتم تمريره لمناطق الشمال، من بضائع، يتخذ شكل الدعائية والاستعراض أمام العالم، من الحكومة الإسرائيلية، لإبعاد تهمة التجويع لـ 800 ألف فلسطيني لا يزالون يقبعون على أرضهم رافضين النزوح إلى الجنوب.
إن ما يحدث بالفعل أن سكان شمال غزة يتعرضون إلى خطة تجويع حقيقية من قبل الاحتلال الإسرائيلي بدأت آثارها بالظهور جلية، خلال الأيام الماضية، بفعل نفاد البضائع من المحلات التجارية والمخازن. وهذا ما يجعل السكان هناك يواجهون فراغ البطون، والهزال الصحي، وخطر التعرض للموت بفعل الجوع. ولقد شهدت الأيام الماضية في شمال غزة حالات وفيات عدد من الأطفال، لعدم توفر الغذاء المناسب.

"عام البون"
في التاريخ العربي، شهدت دولة المغرب تجربة قاسية مع الجوع عام 1939، في أثناء ما سمي بـ"عام البون"، حيث خضع المغاربة لقرارات الاحتلال الفرنسي، بتسيير البضائع المغربية إلى الجنود الفرنسيين خلال الحرب العالمية الثانية. تلك المجاعة استمرت آثارها 7 سنوات، إذ فرضت فرنسا سيطرة المستوطنين على ثروات المغرب الزراعية وقتها، وحددت قوانين صارمة للمغاربة موجدة حالة تقشفية خلال توزيع الغذاء.




وتصف شهادة نشرتها جريدة "Le Dépêche" لأحد سكان الأرياف المغربية ممن تذوقوا ويلات تلك المرحلة، قوله: "صار الغذاء يتناقص يومًا بعد يوم. غابت اللحوم عن مائدتنا بداية، وغابت الخضار من بعدها، وبعد ذلك صارت تتناقص الوجبات إلى وجبة، لتنتهي الحال ببعض اللقيمات".
في شمال غزة، أصبح الوضع الإنساني أشد خطورة مما حدث في المغرب بفعل الاستعمار الفرنسي، فعلى مدى ما يقارب الأربعة أشهر تفرض إسرائيل الحصار الغذائي الخانق على شمال القطاع تحديدًا، مما تسبب في افتقار السكان للسلع الأساسية، كاللحوم والبيض والخضار والفواكه والمعلبات، وغيرها من لوازم البقاء.
الأمر لم يقتصر على تقليص الغذاء، أو تحديد عدد الوجبات، وهو أمر قمنا به بالفعل منذ بداية الحرب، بفعل شح البضائع، وقلة توفر المال، إذ توقفت مسارات الحياة الاقتصادية بأكملها، بما فيها العمل، منذ بدء الحرب. لكن الوضع يؤول إلى مرحلة أخطر تشير إلى انعدام تواجد الأغذية في كثير من مدن وأحياء شمال غزة.
تلك الجرائم البشعة التي يرتكبها الاحتلال بحق الأبرياء الفلسطينيين، بالإضافة إلى القتل والتهجير، أسهمت في تناقص فرص البقاء لديهم، خلال حرب إبادية تلتهم كل شكل للحياة، يتم خلالها قتل الشعور الإنساني بالثقة مع تحضر العالم.
وبفعل التجربة القاسية التي يعايشها سكان شمال القطاع، عبر منع الغذاء وندرة البضائع، فإن مصائرهم أصبحت مهددة، ويواجهون خيارات مفجعة، يبدو الموت تحت القصف أهونها، وهو ما يعني أن من لم يمت بفعل الرصاص، سيموت بفعل الجوع.

موت من أجل الطحين
قبل عدة أيام، كنت أتحدث مع أخي الذي رفض النزوح من مدينة غزة، عبر الهاتف المحمول، وخلال تبادل الحديث عن أوضاعنا المعيشية، سألني سؤالًا يدلل على قسوة الحياة هناك، وكم العوز الذي وصل إليه الناس في الشمال. فكان السؤال: هل بقي طعم البندورة كما هو؟ ومن ثم أكّد لي أن أنواع الخضار كافة أصبحت غير موجودة في شمال القطاع.
وخلال حديثه، أخبرني بأنه تمكن قبل أسابيع قليلة من التسلل إلى منزلنا المقصوف في منطقة تل الهوى غربي مدينة غزة، مجازفًا بحياته وحياة ابنه، حيث تتواجد دبابات الاحتلال في محيط المكان، وكان فرحًا بأن تمكن من الحصول على كيس من الطحين الأبيض كان قد خزنه سابقًا، لكنه كان آسفًا، أن وجده ممتلئًا بالديدان، وما كان عليه إلا القيام بتنخيله تمهيدًا لعجنه. يخبرني في المكالمة نفسها بأن جارنا ذهب لجلب الطحين من منزله، لكنه تعرض للقنص من جنود إسرائيليين، وفقد حياته لأنه لم يستطع أن يقاوم جوعه.
لكن ما زلت أفكر وينشغل ذهني بالوساوس السوداء، خاصة بعد انقطاع شبكة الاتصال عن كل قطاع غزة من جديد، ماذا سيفعل أخي بعد نفاد الكيس المتعفن من الطحين الذي في حوزته؟ ما الذي من الممكن أن يفعله الناس أمام هذا الجوع الإجباري؟
في شمال غزة، يذهب الآباء إلى الأسواق من أجل شراء الطحين الأبيض، أو القمح الأسود، فلا يجدون ما يسد جوعهم وجوع أبنائهم، حتى معلبات اللحوم المصنعة، والبازيلاء، والفاصوليا البيضاء، والفول والحمص، التي تمتلئ بالمواد الحافظة، والتي يتاح لنا تناولها في جنوب القطاع، بأثمان باهظة، باتت هي أيضًا مفقودة هناك.

أن تأكل طعام الحيوانات
وخلال الأيام القليلة الماضية، انتشرت مناشدات شديدة الخطورة من أهل شمال غزة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفيديوهات، تعبر عن وحشية الجوع الذي يضرب الناس. وبسبب فقدان الطحين والمواد الغذائية، لجأ الناس في منطقة جباليا إلى طحن الشعير المخصص كطعام للحيوانات، من أجل الحصول منه على خبز يقيتهم، بهدف إطالة فرصة بقائهم على قيد الحياة أيامًا أخرى. لكن هنالك كثير من الناس لا يمتلك هذا الشعير، وحتى إن تواجد، فإنهم لا يمتلكون النقود من أجل شرائه، وهو ما يشير إلى أن كارثة إنسانية قد بدأت بالفعل داخل القطاع المحاصر من قبل الاحتلال الإسرائيلي.

توقف التكية
منذ أيام، توقفت موائد "التكيّة" في شمال قطاع غزة عن صنع الطعام للناس، وهي عبارة عن فرق تقوم بإعداد طبخ جماعي تدعمه مؤسسات خيرية، أو مؤسسات تابعة للأمم المتحدة. هذا الطعام كان يسد رمق الجائعين ومعدومي الدخل، الذين انقطعت بهم السبل منذ بداية الحرب على غزة، الماضية في شهرها الخامس، وهذا يزيد من سوء المصير، ويضاعف من فرص حدوث المجاعات الجماعية لشعب لا تتوقف الآلات الحربية الإسرائيلية عن تشريده وقتله طيلة الحرب.
إن المآل الذي تذوي إليه الأوضاع في الشمال، تضع البشرية جميعها، أمام سؤال أخلاقي كبير، في عصر أصبح فيه العالم غرفة واحدة، وتسوده أدوات التكنولوجيا المتطورة، بحيث يمكن نقل صرخة الجوع من شمال غزة إلى أبعد مكان، شمال الكرة الأرضية: لماذا يحدث هذا كله في غزة؟ وكيف لكل هذه الحضارة أن تصمت على حدوث مجاعة لشعب يطالب بحقه في الحرية؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.