يُمكن لعدة هوامش مُختارة مما يدور حولنا في حياتنا الاعتيادية أن تؤلف كتابًا في مرجعيات الكتابة التي لا تنتمي إلى جنس أدبي وضعه النقاد بما يحدد لون وشكل النصوص. ولن يكون مثل هذا الكتاب قصة أو قصصًا أو رواية، لكنه يمكن أن يكون هذا كله؛ تجتمع به فنون الأدب؛ فما بعد الأجناس الأدبية القارّة يمكن أن تتداخل ببعضها من دون الحاجة التعريفية لها، أو منحها مسمّىً أدبيًا لغرض تجنيسها وحصرها في مصطلح أو مفهوم واحد.
اشتغالات ما بعد الحداثة الأدبية رأت أنّ تداخل الأجناس الأدبية حالة مشروعة بغض النظر أن تكون هذه رواية أو تلك كتابة جمالية أو قصة قصيرة؛ فالسرديات باتت بعمومها تتلاقح معرفيًا وتُنتج مساحة كتابية تمتزج مع بعضها لإظهار نص جديد؛ هو إنتاج جينات معرفية وجمالية وشكلية التقت ببعضها وأفرزت قامة نص له جمالياته الشخصية وقوامه الأدبي، هو ما يسمونه بالكتابة الحرة... ونحن نسميه متعة الهوامش السردية كما سيرد.
الرواية المعرفية المستحدثة تقع تحت هذا الباب، لأنها لم تبتعد عن معارف التاريخ والجغرافية والفلك والسماء والأرض، وسيكولوجية المجتمعات والعلوم الحيوانية والإنسانية والعلمية والفنية والطبيعة وأسرارها، والإلكترونيات الجديدة وشواغلها اللاقطة السريعة، وكل هذا الفيض المعرفي يمكن أن تستوعبه الرواية أو تستوعب بعضه للتوظيف المعرفي- الفني، فمثل هذا الناظم يتوفر في تلك المساحات المتاحة كثيرًا والتي كانت الروايات تنأى عنه لأسبابها القديمة.
حتى الشعر له أن يقدم مرويات مروره عبر هذا الاتصال الجمالي معها وستكون إفرازاته اللغوية ساندًا يقوّم من سيرة الكتابة والنص الشعري على مدار امتلائه بثراء بالمعرفة متعددة المنابع والمشارب. ففكرة الأجناس الأدبية المتعارف عليها تاريخيًا، تبدو لنا بأنها لم تصبح معضلة تسمية أو رؤية نقدية أمام الساردين والشعراء، فالحرية الجمالية انطلقت لتأكيد أن الهوامش الحياتية، هي متون حياتية لا غنى للإنسان عنها، والعلوم الاجتماعية يمكن لها أن ترفد الآداب بأنساق جمالية أكثر صلة بالحياة والخيال والتأويل والمعالجات الفنية أيضًا، كما هو أدب الرحلات المتحرر من شروط السرد الحديثة، لا سيما أدب الرحلات العربي الذي قاده ابن بطوطة وابن فضلان وابن جبير والمسعودي وغيرهم. وإذا كانت هذه الرحلات معرفية وجغرافية فإنها تنطوي على الكثير من الهوامش المتروكة في السرديات القديمة والحديثة. وتهتم بها وتبرزها كما في كتاب (تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) لابن بطوطة الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة، لا شاردة ولا واردة إلا دوّنها بذاكرة قوية، ورغبة في ترك الأثر الجمالي عند العامّة، في كل الأمصار التي استغرقتها رحلته العجيبة إلى العالم. وتذكيرًا لهم بأن هناك أشياء مارّة في الزمان والمكان، ينبغي أن توضَع في موضعها وألا تُهمل. ولعله أراد أن يقول في لاوعي الكتابة، إن الهوامش ساندة للمتون، بل ربما تتفوق عليها أحيانًا، لموقعها من الرصد الواعي لتوثيق زاوية من زوايا الكتابة.
وإذا كانت هذه عموميات في الهوامش التي نعنيها هنا، فإن شبيهتها في الأثر الأدبي هو أدب السيرة الذاتية، الذي لا يُعنى بالمتون الفنية قدر اهتمامه بزمنية الحياة وتسلسلها وأمكنتها المتحركة، لكنه أيضًا يستدرك الكثير من الأمور الصغيرة والهامشية المساعدة التي تعمل عمل الفاصلة أو الفارزة في اللغة، لربطها مع الأسطر بعد توقفات طبيعية لالتقاط الأنفاس. وهناك أمثلة مشرقة في هذا الجانب، سياسية وأدبية ودينية واجتماعية منها: مذكرات المهاتما غاندي، لا سيما يومياته الغذائية النباتية. ومذكرات نيلسون مانديلا التي تبدو ثابتة في مكانها لكنها تتحرك في الوعي السياسي العظيم. و"على خط النار" لبرويز مشرف ومغامرة الصعود إلى الأعلى في انقلاب عسكري غير متوقع. والدالاي لاما وسحر الاختيار المستقبلي للبوذيين في هضبة التبت. وألبيرتو مورافيا عن رسائله في الصحراء. وباموق عن ذكرياته في إسطنبول، وسيرة فوكوزاوا، وتينيسي وليامز، وستيفان زفايغ، وماركيز، وكازانتزاكي... وسواهم.
عدا هذا التعميم السياسي- الأدبي في الأثر السيري فإن هناك عينًا أدبية راصدة لموضوعة واحدة. أي لهامش واحد وجعله متنًا أساسيًا، تنحدر تحته المتون لتصبح هي الهوامش في إبداع الكتابة وتجليات الكاتب الحاذق، كما فعل رولان بارت حينما كتب عن (غرفة التظهير) الخاصة بتحميض أفلام الصور الشخصية، ويوهان هوتسينغا في (ديناميكية اللعب) وتاريخيته الحضارية، وباسكال دريبي الذي كتب مقاربة أنثروبولوجية عن (الباب) بوصفه عتبة البيت أو الدولة، و(تاريخ البكاء) لتوم لوتز متتبعًا تاريخ الدموع البشرية، و(الجسد) في آلامه الكثيرة، ومثاله الجميل ما كتبته إلين سكاري، و(تاريخ ثقافة النحل) لرالف دوتلي، و(الخبز) لبريد راج ماتفليجيتفيتش، و(الشاي) لكريستوف بيترز، و(العيش في الشوارع- أنثربولوجيا التشرد) لارين غلاسر ورا برجمان، ولعل ميشيل فوكو فلسف الجنون في (تاريخ الجنون) مما يُحفزنا لأن ندعو إلى استقلالية تلك المتعة مع الهوامش الحيّة لتصبح ما يشبه الفسحة الأنثروبولوجية الاجتماعية في فضائها الأدبي، أو الكتابة التي تصنع لوجودها ذاتية خاصة ومصطلحًا شخصيًا، فتكون لونًا من ألوان الأدب، ينفصل عن التجنيس المعروف كليًا... هذه هي متعة الهوامش.
إن هناك عينًا أدبية راصدة لموضوعة واحدة. أي لهامش واحد وجعله متنًا أساسيًا، تنحدر تحته المتون لتصبح هي الهوامش في إبداع الكتابة وتجليات الكاتب الحاذق |
هذا حصل ويحصل كثيرًا في الغرب الأدبي منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم، من دون أن يكون له ما يقابله في الشرق الأدبي من وجود إجناسي يهز الثوابت المعتادة في التعاطي الإبداعي في القصة والرواية والمسرح والدراسات الأكاديمية عمومًا، ويفترق عن المجموع المعتاد الثقافي، مؤسسًا لكيان حر بعيدًا عن نظريات وقوانين الأجناس الأدبية الأخرى. تلك التي تقولب النص في إطارها السميك في كثير من الأحيان.
الهامش ليس هو الذي يُدوّن في ذيل الورقة، شارحًا، أو رقمًا مصدريًا أكاديميًا، أو معرِّفًا، أو مستدركًا. إنما هو الذي يكون متنًا أساسيًا في رؤية موجودات المجتمع غير المنظورة كليًا في الأدب العام. أو تلك التي لا تقع عليها عيون الرواية والقصة والمسرح. بمعنى الكتابة عن الذي لا يُكتب عنه لكونه من تأثيثات الحياة في وجوده اليومي، عابرًا أمام العين، والسرديات والتأمل والأفكار. وبالتالي فإن الإمساك بموضوعته من دون النظر إلى تجنيسه، بسبب ثانويته كما يُعتقد، انما لأنه متنٌ كتابي متكامل. فالهامش موجود في الشارع والرصيف والمقهى والبيت والغرفة والسطح والمطار والذكريات والنهر والصور والأصابع وكرة القدم والدموع والشبابيك والأبواب والعتبات والشط والبحر والبستان والسيارة والثياب والمطابخ والحمامات... هذه الجزئيات؛ متعالينَ عليها؛ التي لا نهتم بها في الكتابة، وربما لا تشكل مصدرًا فكريًا لنا كأدباء، ونعدّها من باب الهوامش البسيطة التي تعبرها الكتابة ولا تقف عندها، في حين أنها مصدر راقٍ للتأمل والإحالة التاريخية والتأويل والفكر والقراءة والجمال الأثري في الحالات كلها.
على سبيل المثال، لو تأملنا حدوة الفرس، وهي في قاع الحصان، سنجد فيها ميثولوجيا شعوب قديمة جدًا، كعلامة من علامات طرد الحسد والشرور في شكلها المقوس المفتوح، بينما الأحذية التي نُدخل أقدامنا ونعبر الشوارع بها تحت المطر، نستجلي عبرها تاريخ الإنسان الحافي في مشقاته اليومية المتكررة، ولو جلسنا على كرسي الحلاق فمن اليقين أن ذاكرة الرؤوس لها طباع حلولية عند الحلاق الذي يمارس مهنته بسرعة وثرثرة وذاكرة متقدة. كذلك نجد في المطبخ خيال النار القديم من العصر الحجري حتى العصر النووي المخيف. وفي كرة القدم الشعبية جدًا في العالم، سنقرأ الكثير من الإرسال والتلقي بين الأقدام. وفي السفر- كحالة رائجة- يداهمنا خيال الجغرافية وأساطيره القديمة في البر والبحر والجبال والثلوج. لكن التصوير الشمسي القديم يُقرر لنا تقريبًا تاريخ الوجوه الثابتة والمحنطة أمام صندوق التصوير بالأسود والأبيض. ونعرف منه التواريخ القروية والمدينية على حد سواء، وربما يتوضح الزمن الذي كان مقيمًا فيها بظروفه الاجتماعية والسياسية. وهكذا نجد في المخدّة - حاضنة- الرأس استلقاءاتها الأزلية، ومثلها الستارة كأنثى فارعة الطول في البيت، والقنفة كشّافة الضيوف، وجواز السفر الذي يتعاقب المؤلفون الرسميون عليه بأختامهم التي ستصبح أثرية بمرور الزمنين الاجتماعي والسياسي. والورقة البيضاء التي كانت نباتًا، تشبه الناي الذي كان غصنًا متروكًا في شجرة مركونة على النهر... وهكذا تسحبنا أمثلة الهوامش الأدبية إلى متونها الرئيسية وأساسيتها التي غلّفها الزمن.
يسمونها الكتابة الحرة. ونحن نسميها سرديات في (متعة الهوامش) فهذه الأفكار المهجورة هي مادة الكتابة الخام ومتنها القوي في تقريب الأجناس إلى وحدة أدبية شاملة، تتسع ولا تضيق عليها.
الهوامش:
- يوهان هوتسينغا: تقلد منصب أستاذ التاريخ الهندي في جامعة أمستردام. من كتبه "خريف العصور الوسطى" و"في ظل أشباح الغد" و"شروط استرجاع الحضارة" و"عالم مستباح" و"ديناميكية اللعب".
- باسكال ديبي: أستاذ في جامعة السوربون الفرنسية. من كتبه "أصول الأبواب" الذي ترجم إلى العربية بعنوان "الباب- مقاربة أنثروبولوجية".
- توم لوتز: أكاديمي أميركي. له كتاب "تاريخ البكاء".
- إلين سكاري: استاذة اللغة الإنكليزية والأدب الأميركي بجامعة بنسلفانيا سابقًا. أستاذة الجماليات بجامعة هارفارد حاليًا. حصلت على جائزة ترومان كابوت في النقد الأدبي عام 2000 عن كتابها "الحلم بالكتاب".
- ميشيل فوكو: من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في كتابه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، وعالج مواضيع مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون.
- كريستوف بيترز: كاتب يقيم في لندن. نالت أولى رواياته "مدينة. بلد. نهر" جائزة اسْبكتة الأدبية. وحاز على جائزة فريدريس هولدرينت. كما صدر له "السيد ياماشيرو يفضل البطاطس" و"ذراع الأخطبوط" و"عام القط"، وترجمت بعض رواياته ومجموعاته القصصية للعربية منها "استئناس الغربة" و"حجرة في دار الحرب".