}

"شعرية العمر": في تجربة محمود عبد الوهاب

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 13 سبتمبر 2024
آراء "شعرية العمر": في تجربة محمود عبد الوهاب
محمود عبد الوهّاب
(1)
كان القاصّ العراقيّ الراحل محمود عبد الوهّاب (1920-2011) مُقلًّا في تجربته القصصية، بالرغم من أنّه - جيليًّا - يُعدّ من الرُّوّاد الخمسينيين الذين شهدوا نشوء وإرهاصات الأدب العراقيّ بتجلّياته المتعدّدة في فترات أدبية وثقافية متعاقبة، تنوّع فيها السياسيّ على حساب الثقافيّ عبر معاصرته لأكثر من ستة أجيال أدبية تقريبًا، إلّا أنّه بقي قليل النشر، محتفظًا بهذا النسق الشخصيّ، عازفًا عن أن يكون في الواجهة الأدبية لحسابات فنّية أو غيرها؛ زاهدًا في الظهور، شأنه بذلك شأن الشاعر الراحل محمود البريكان. وفضّل أن يكون متفاعلًا مع الظواهر الأدبية في القصة والرواية والشعر، مكتنزًا لمعارف علمية وثقافية متنوّعة، ساعدته أن يكون صوتًا ثقافيًّا مبدعًا متميّزًا منذ أن نشر قصته "القطار الصاعد إلى بغداد" في مجلة "الآداب" البيروتية عام 1954.
حتى في القليل الذي نشره في فترات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات، بقي أحد الرموز الثقافية العراقية المبدعة التي يذكرها النقد العراقيّ بالريادة القصصية، التي حسمت الموضوع الفنّيّ على حساب الواقعيّ المحض الذي ساد في أوقات زمنية سابقة، لم تكن فيه القصة العراقية القصيرة على ناصية الفنّ كما هي اليوم، وربما لهذا السبب أو غيره، بقي عبد الوهّاب زاهدًا في النشر قياسًا بأقرانه من كتّاب القصة القصيرة، يُنضج تجربته الفعلية لوقت غير قصير شأنه شأن الرائد الراحل عبد الملك نوري. لذلك فالتأنّي من سماته الشخصية والأدبية بخليط من الصبر الشخصيّ والمطالعة الدائمة لإفرازات الأجيال الأدبية الجديدة التي تناوبت في العطاء الجيليّ القصصيّ الأدبيّ.

محمد خضير 

(2)
"شعرية العمر" آخر كتبه المقالية الذي استوعب 44 مقالًا أدبيًّا وثقافيًّا كشف عن رؤيته الشخصية في ظواهر ثقافية وأدبية عراقية وعربية، محاوِرًا وفاحصًا وجدليًّا في المسألة الثقافية ووجودها، وذلك عبر ثلاثة أقسام وضعها عبد الوهّاب في هذا الكتاب الذي يمثّل الكثير من فهمه ورؤيته الأدبية في تشكّلاتها المختلفة؛ ولنا أن نقول بيقين إنّه بعضٌ من السيرة الثقافية والمعرفية للراحل وتجلّياته في هضْم المعطيات الجمالية لها بشكل عامّ. تلك السيرة الذهبية التي ميّزته عن كثيرين من مجايليه وما بعدهم، في دروس التأمّل والصبر الأدبيّ، والزهد الحقيقيّ الذي عُرف الراحل به.
المقال "شعرية العمر" من بين تلك المقالات التي حفل الكتابُ بها. مقال قصير اختصر فيه الراحل رحلة عمرية أدبية طويلة. أشبه بالسيرة الاجتماعية التي يمرّ بها الأدباء عادة منذ يفاعتهم، وإخبار أوّليّ عن الإلهام السرّيّ الذي يواجه الأديب الناشئ في تكوينه الأول. لذلك فإنّ مراحل العمر في شعريته التسعينية يحدّدها عبد الوهّاب كصورة واضحة وغير ملتبسة هي:
  • في ديمومة الدهشة، وهي الشباب الذي لا يشيخ... شعرية أولى
  • تمرّ طالبات المدرسة المجاورة... شعرية ثانية
  • كنّا داخل الصفّ نصغي معًا إلى أساتذتنا الكبار ونزداد كلّ لحظة علمًا ووعيًا... شعرية ثالثة
  • نصغي معًا إلى أساتذتنا الكبار... إنّهم أنت لكنّ شخصهم غيرك... شعرية رابعة
  • ليل المطار موحش... شعرية خامسة
  • أدركتَ أنّكَ عشتَ وكنتَ سعيدًا حتى بهذا العمر... شعرية سادسة.

هذه المراحل الست، تبدأ بالطفولة وتنتهي بالوحدة والعزلة، تبدو في سياقها الشخصيّ وحتى العامّ كمرثية لعمر طويل يريد أن ينتهي في بيت وحيد وأعزل إلّا من الكتب والكتابات والموسيقى والوحدة المطلقة، وهي وحدة فعلية عاشها الراحل وتطامن معها، ولم يغيّرها عبر تلك المراحل المتتالية التي كان فيها. لذلك فإنّ قراءة تلك المراحل ستوصل القارئ إلى حكمة بارعة قالها عبد الوهّاب بتجلٍّ: (السعيدُ، السعيد مَن يشيخُ بشكل جيّد).

(3)
الشعريّات الست التي اختزل فيها تجربته الاجتماعية هي تجربة حياتية لا مفرّ من قراءتها بضوء إنتاجه الأدبي، فمثل هذه تُعدّ قوانين داخلية ونفسية للنص الأدبي، بمعنى أنّ الراحل الذي مرّ بتلك المراحل الطبيعية أوحى بنظرية اجتماعية شخصية، ليست جديدة في النسق الاجتماعي العام، لكنها -ربما- أحد مفاتيح القراءة لعالمه الأدبي، فالمتلقي العام في قراءاته لنصوصه لا يفصل مراحل النشأة والمكونات الشعرية الأولى عن مجمل النصوص الأدبية التي مثّلت شعرية شخصية، طرحها في قصصه وكتاباته الجمالية الأخرى.




وهذا اللا فصل ليس قسريًّا، إنما هو مراجعة اجتماعية ليست صورية في الأحوال كلها، لكنها ترتبط بالمزاج الأدبي الإبداعي، مهما حاول المبدع الابتعاد عنها. لهذا فالكثير من الشعريات التي تخضع إلى التأويل إنما هي تهيّئ إلى تفاعلات مشتركة بينها وبين المتلقي العام. ولا تستبعد الشعرية الاجتماعية كونها أداة توصيل بين الماضي وحاضر الكتابة في مخزونها السري الذي يفاجئ الكاتب، قبل أن يفاجئ القارئ. فمن الشعرية الأولى "الدهشة" حتى آخِر شعرية "وكنتَ سعيدًا حتى بهذا العمر" مرورًا بـ "طالبات المدرسة المجاورة" و"نصغي معًا إلى أساتذتنا الكبار" و"ليل المطار موحش" هناك محطات في الوعي واستدراج للمعرفة، والانتباه إلى عالَم آخر يمارس تكثيف الواقع ويصغي إلى أحلامه وأوهامه معًا. لذلك كان الراحل ينتبه إلى هذه الإصغاءات السرية، منذ الشعرية الثانية "تمر طالبات المدرسة المجاورة وهن يترققنَ في مشيهن، وترتمي فجأة رقتهن في صدورنا..."، كإشعال موقد يتهيّأ لاستقبال شرار البدايات "مهما بدت ساذجة ولا منطقية إلا أنها الظلال الداخلية للمبدع الذي سيكون..."، وهذا وعي لا أقول متأخرًا، بل إنه حقيقي أدركه المبدع عبد الوهاب فالكتابة كما يقول في موضع آخر من الكتاب "ليست تحديًا شخصيًّا قائمًا على أوهام، لكنها تعديل وإضافة معرفية مدعومة بحقائق وقرائن في المجال الذي يتدارسه الكاتب".
وكل ذلك التعديل والإضافة رافقه الكثير من الخيال الإبداعي كضرورة من ضرورات الكتابة السردية، لكونه استبطانًا قائمًا "على مقدار ما أمسك به من حقيقة الاستذكار والمعرفة وعلى مقدار ما أعجز عن إمساكه استبطانًا أو لغة". لذلك، عندما يمتلك الكاتب وعي الكتابة، بخيال شاق لتكثيف الواقع وتفتيت نظرياته القارّة في الوعي الأول للكاتب، تظهر عنده "القدرة والاستعداد لإنتاج الصور في ذاتها، بالاستقلال عن الواقع ومحدوديته". وهذا الرأي المُحكَم هو ما كانهُ المبدع محمود عبد الوهاب، عندما جعل من شعرية الواقع بمراحله الست، عبورًا إلى ضفة الجمال والإبداع. وبالتالي وطّد علاقته بمعطيات الواقع في تتابعاته الجيلية التي اقترنت بالتطور الإبداعي منذ خمسينيات القرن الماضي، من دون أن يتخلى عن تشكيل ذاته الأولى، فالأدب "مبعثه مكنونات ذاتية" تستوعب وتتطور ولا تغادر طفولتها السرية ولا بيئتها، مهما كانت حولها المتغيرات حاسمة. لكنها بالمقابل تؤمن بحتمية التطور وتغيير الحقائق أينما كانت وتحت أي ظرف فـ "من السذاجة أن نفخر بثبات أفكارنا ما دامت الحقائق تتغير". لذلك فإن المتابع للسيرة الثقافية للراحل محمود عبد الوهاب، سيجده متغيرًا هو أيضًا في تعاطيه مع النصوص القصصية القليلة التي نشرها في سنواتٍ متباعدة. وهذا التغير مُلزم له، كونه قطبًا متفاعلًا مع معطيات العصر وجمالياته الكثيرة.

محمود البريكان 


قال عنه القاص محمد خضير: "لا أعجب أن يتعكّز القاص محمود عبد الوهاب على عصا، لا عن تقدم في السن وإنما عن ثقل في الأفكار، فرأسه مملوء بالأفكار، وإن شخصيات قصص محمود عبد الوهاب غالبًا ما تكون غير مسماة وتعيش حالة من الوحدة تختلف عن شخصيات فؤاد التكرلي مثلًا التي تعيش حالة اغتراب، وحدة شخصيات محمود وحدة إنسانية عاطفية تصادفية، وربما انعكست هذه الوحدة على محمود نفسه، وحدة المؤلف مع وحدة شخصياته تؤلف كمثرى موسيقية تعزف أوركسترا الإنسانية، قصصه تشبه كمثرات الخطاط هاشم، أو طغراوات محمد سعيد الصكار، هذه التي تتدلى في غابة الأسماء وتلتف بخطوطها كما تلتف شرايين قلب محمود عبد الوهاب". (ويكيبيديا- الموسوعة الحرة)

هوامش:
أصدر محمود عبد الوهاب:

  • "رائحة الشتاء"، مجموعة قصصية، دار الشؤون الثقافية - بغداد 1997 و"رغوة السحاب"، رواية، دار الشؤون الثقافية - بغداد 2000 و"ثريا النص" دار الشؤون الثقافية- بغداد - 1995
  • محمد خضير: قاصّ وروائي عربي عراقي ولد في البصرة عام 1942. يعد من أبرز كتّاب القصة القصيرة العربية بفضل تجربته الأدبية التي مالت إلى المغايرة والتحديث. ترجمت قصصه إلى اللغات العالمية منها الإنكليزية والروسية والفرنسية. اشتهر على صعيد العالم العربي بعد نشره قصتي "الأرجوحة" و"تقاسيم على وتر ربابة" في مجلة "الآداب" البيروتية. (الموسوعة الحرة- ويكيبيديا)
  • محمود البريكان (1931 -2002): يُعد من الشعراء الرواد والمجددين في الشعر العربي مثل السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وأمل دنقل وغيرهم. كان السيّاب من أصدقاء البريكان المقربين. وكان الملمح الأبرز في حياته هو العزلة، والعزوف عن النشر والظهور في المحافل الأدبية والأمسيات الشعرية. (الموسوعة الحرة - ويكيبيديا)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.