أصدر المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت عام 2023، كتابًا فلسفيًا مهمًا عنوانه "مستعصيات على الترجمة... في الأخلاقيات". وعنوانه في الفرنسية Dictionnaire des Intraduisibles. Vocabulaire Européen de Philosophie (Le Seuil/ Le Robert, 2004) والترجمة بإشراف نبراس شحيّد وجيوم دوفو (الأول دكتور في الفلسفة الأوروبية الحديثة، والثاني دكتور في الفلسفة الإسلامية)، ولحجم المعجم ساهم في إنجاز الترجمة كل من نجم بو فاضل، جان جبور، جولان حاجي، محمود حمادي، رلى ذبيان، باسل الزين، إيليان سعادة، سارة سليمان دفو، ترايسي عازر، سايد مطر، محمّد مطر، جوزيف معلوف. وأشرفت الفيلسوفة الفرنسية الشهيرة بربارا كاسان على إعداد هذا المعجم قي نسخته الفرنسية، وهي أخصائية في الفلسفة الإغريقية وفي فقه اللغة. وعام 2018 شغلت رقم 36 في الأكاديمية الفرنسية، وصارت المرأة الخامسة التي انتخبت في هذه المؤسسة العريقة التي أسسها الكردينال ريشوليو عام 1635، والتي تسمّى بـ"مجمع الخالدين" (40 عضوًا منذ ذلك الحين، لا يزيدون ولا ينقصون). واختار المشرفان على النسخة العربية أن يضاف إلى المداخل الثلاثين الأساسية للمعجم عدد من الملاحق (11) الخاصة عربيًا وأوروبيًا (ومنها: وجْد، في أسماء الحب، أدب، مصير الجنس العربي، مروءة، قلق عند كيركيغارد وهايدغر)؛ كما اختارا مجموعة من المؤطرات (وعددها 14) انتقتها المشرفة على المعجم الفرنسي.
وبربارا كاسان هي باحثة في المركز الوطني للبحث العلمي وحاصلة على مجموعة من الجوائز العالمية والفرنسية، ولها أكثر من 50 كتابًا مؤلفًا ومترجمًا. ومن بين كتبها أذكر: "حنّة أردنت... أزمة الثقافة" (مترجم، 1972)، "لو أن بارميندس استخدم المقدّمات" (1980)، "البلاغة والسياسة: تحوّلات بروتاغوراس" (1990)، "التوق: أوليس، إينياس، أرندت" (2013)، "البلاغة في نظر الفلسفة" (2015)، "مديح الترجمة" (2016)، "دروب الترجمة" (2017)، "بيوت الحكمة، الترجمة مغامرة جديدة" (2021)، "ما تستطيعه الكلمات" (2022)...
وشارك في معجم "مستعصيات على الترجمة" عدد من الباحثين المشهورين، ومنهم شارل بالادييه، إتيين باليبار، ألان دو ليبيرا، ألان باديو، إيمانويل فاي... وعناوين المداخل الأساسية مقتبسة من 10 لغات أوروبية، وتحتل اللغتان الإغريقية واللاتينية مرتبة متميزة بينها. وأتى المعجم بـ551 صفحة. وغلافه للفنّان الكبير سمير صائغ، وعنوانه: "أن لا تقول شيئًا وأن تقول كل شيء"، وصمّمته الفنّانة كرمة طعمة.
ما يلفت النظر في هذا المعجم أنه على جانب كبير من الدقة: في التنضيد الحديث والإخراج والتبويب والاتساق، قلما نجد مثيلًا لها في دور النشر العربية، وتضاهي الإخراج العلمي الحديث الذي نراه عند دور النشر العالمية الكبرى. فعلامات الوقف محترمة بحِرَفية لافتة، وكتابة المراجع العربية والأجنبية منضبطة تمامًا. يضاف إلى ذلك أن المشرفَين على المعجم نجحا في نقل الأسماء والكلمات والعبارات الإغريقية واللاتينية والألمانية واللغات الأخرى بدقة لافتة.
وُزّع العمل على المترجمين حسب الاختصاص الفلسفي والثقافي واللغوي لكل منهم وحسب موضوع المدخل الذي ستتمّ ترجمته. فمترجم المدخل الإيطالي – مع أن النص مكتوب باللغة الفرنسية – يعرف اللغة الإيطالية ويتقنها.
ولا بد من الاعتراف بأن عبارة "مستعصَيات على الترجمة" هي عبارة إشكالية، لأن كلمة الاستعصاء تقارب كلمة الاستحالة. ويقول المشرفان في مقدمة المعجم: "حين تحيل كلمة ما على مجموعة أفكار لا يوجد توافق حقيقي بينها، فهي رهينة مصادفات اللغة. قد تطرح الكلمة أولًا مشكلة في الترجمة بسبب تعدّد معانيها [...]. فكلمة côte الفرنسية يمكن أن تعني "ضلع" و"قيمة" و"بروز" و"شاطئ"، مما يجعل ترجمتها أمرًا مستعصيًا إذا ما أردنا الإحاطة بكل هذه المعاني في لفظ واحد" (ص 15). ويظهر الاستعصاء، كما يقولان في الالتباس النحوي الخاص ببنية الجمل لا بالمفردات، وهو ما أسماه أرسطو بالـ"أمفيبوليّا" الذي يحيل إلى جوهر اللغة، كما قالت بربارا كاسان في كتابها "مديح الترجمة". ويظهر أيضًا في فكرة "التأطير" découpage، كما قال پول ريكور في كتابه "حول الترجمة" (ص 54). أي في "التعارض بين اللغات ليس بين كلمة وكلمة، بل بين نظام معجمي ونظام معجمي" (ص 17 من المعجم). فما إن تكون "هناك كلمة أو جملة ملتبسة – كما يقول المشرفان – حتى لا نجد ترجمة واحدة لها بل عدة ترجمات حقيقية في آن، وكل واحدة منها تحمل المعاني المحتملة لهذا الالتباس" (ص 18).
ويضيف المشرفان: هذه دعوة "للخروج مما أسميناه بالكآبة الترجمية التي تتأتى من وفاء مطلق وهوامي للنص الأصلي، كآبة المترجم والمترجمة أمام استحالة إنتاج صنو للمصدر. وهي دعوة إلى استضافة المفاهيم في لغة ستبقى غريبة على اللغة المترجَم منها، على نحو تمنح فيه هذه الاستضافة المفاهيم المترجمة حيوات جديدة لا يمكن توقّعها، وتصير اللغة المستقبِلة مستقبل الفكر الأصل" (تقديم الكتاب على شبكة الإنترنت).
أشرفت الفيلسوفة الفرنسية بربارا كاسان على إعداد هذا المعجم بنسخته الفرنسية، وهي أخصائية في الفلسفة الإغريقية وفي فقه اللغة. وعام 2018 شغلت رقم 36 في الأكاديمية الفرنسية (Getty) |
وفي معرض حديث أومبرتو إيكو عن ترجمته رواية "سيلفي" لجيرار دو نرفال إلى الإيطالية، رأى أن الترجمة الأدبية تحتوي على خسائر عديدة، ومنها الألوان وتدرجاتها ودلالاتها، ومنها الترجمة الحرفية التي لا تصل إلى المعنى المقصود، ومنها بعض التراكيب والأمثال السائدة وأسماء النباتات... فيلجأ المترجم المتلجلج أحيانًا إلى بعض الإسقاطات كي يتخلّص من المأزق. وهو أمر مستنكر، لأن المترجم مؤتمن على النص الأصلي ولا يحق له أن يحذف منه شيئًا أو يزيد شيئًا، بما فيها المتواليات واللوائح المفرداتية التي يعشقها إيكو ويقهقه أمام العسر والعناد اللذين يجابههما المترجم، بانتظار النتيجة. ويرى أن المترجمين المهرة يلجؤون إلى تعويض هذه الخسائر. ولكنه يحذّر من "تحاشي إثراء النص"، باللجوء إلى بعض الإضافات. كما لا يحبّذ تحسين النص الأصلي لأسباب إبهاربة بل ينصح بالتعويض القائم على إعادة الصياغة.
الترجمة الأدبية هي التي تصل دقّتها إلى 90-95% وبما أن اللغة الفلسفية هي على جانب عالٍ من العلمية والعقلانية، أرى أن ترجمة المداخلات الثلاثين هنا تتجاوز هذه النسبة، لأن النص المترجم خضع للتدقيق والتصويب المتأنيين، فخفّت الثغرات، إن لم نقل زالت.
درج معجم المستعصيات على وضع عنوان المدخل بحرف بارز باللغة المختارة في الأصل وأدرج ترجمتها إلى العربية، ثم أبرزَ معادلات المفردة باليونانية واللاتينية والفرنسية والألمانية والإنكليزية والإيطالية والإسبانية... ثم كتب اسم مؤلف المدخل بالعربية وبالأحرف اللاتينية، ثم ذكر اسم المترجم. ويبدأ من ثم شرح المفردة تأثيليًا وتفصيليًا مع تبيان تفرعاتها في اللغات المدرجة في أعلى المدخل وإبراز الفروق بينها. بعد ذلك يأتي دور المَراجع: بالعربية أولًا ثم باللغات الأخرى. لنأخذ على سبيل المثال مدخل كلمة sujet التي ترجمها المعجم بـ: موضوع، ذات، خضوع. يتوقّف المدخل عند مشتقات هذه الكلمة وعند مكافِآتها في عدد من اللغات، لا سيما اليونانية واللاتينية. ثم ينطلق التحليل من كلمة "وبوكيمِنون" اليونانية، وينتقل من ثم إلى "اليقين الذاتي" انطلاقًا من أدبيات القرون الوسطى وفلسفة ابن رشد (بناء على دراسة ألان دو ليبيرا)، ويتوقّف عند الذاتية والخضوع حسب نيتشه وباتاي وهايدغر وكانط ولاكان وفوكو وحنة آرندت. وبعد الخوض في تفاصيل الفروق بين هؤلاء الفلاسفة وتشعّباتها، نصل إلى 6 مراجع باللغة العربية، وإلى 49 مرجعًا بلغات أوروبية متعدّدة. ويُعدّ هذا المدخل أطول مدخل في المعجم إذ يشغل 46 صفحة من المعجم.
وإذا انتقلنا إلى الملاحق الأحد عشر، وتوقفنا مثلًا عند ملحق "الوجْد"، للاحظنا أن النص يبدأ بالقول: "اختلف المتصوفون وجامعو أخبارهم في تعريف الوجد، فهو عند بعضهم خوف وقلق، وعند آخرين فرح وحزن في آن، وعند فرقةٍ منهم غاية في ذاته وعند أخرى وهم يجب تجاوزه. وعلى الرغم من هذه التباينات، طغى على مقارباتهم المتنوعة البعد الشعوري للوجد، فهو، بحسب الجنيد،: ما صادف القلب من غم أو فرح"، وهذا أيضًا رأي الكلاباذي: "معنى الوجد هو ما صادف القلب من فزع أو غمّ أو رؤية معنى من أحوال الآخرة، أو كشف حالة بين العبد والله عزّ وجلّ" (ص 59). ويذكر المدخل ما أورده جورج قنواتي ولويس غارديه عن الوجد عند ابن عربي والحلاج؛ ويتوقّف عند "وجد الصورة" و"وجد الصدى" و"وجد الكلمة" و"وجد الذبيحة والغفران"، فيقول الحلاج وهو على الصليب: "وهؤلاء عبادك قد تجمّعوا لقتلي تعصّبًا لدينك وتقربًا إليك. فاغفر لهم، فإنك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترتَ عني ما سترتَ عنهم لما ابتليت بما ابتليت". ثم سكت وناجى سرًا قبل أن يموت (ص 21-22).
وفي ملحق "مروءة" التي استقطبت عددًا من المستشرقين الذين أعجبوا بمدلولات هذه المفردة العربية، يقول مؤلف المدخل مستندًا إلى كتاب "مقاييس اللغة" لابن فارس: "المروءة كمال الرجولية" (ص 493). ويتوقف المدخل عند العلاقة بين "المرء" (الواحد من بني آدم، كما قال المعرّي) وبين "المروءة" أي فضيلة الفردانية (الأرستقراطية)، فقيل عن إحدى الماجدات: "كانت وفيّة خيرية ذات مروءة وسعة خلوق" (ص 494). فصارت المروءة مع "الأدب" و"الأخلاق" تشكّل شبكة دلالية متّسقة للغاية، وتتوجّه حصرًا إلى الخاصّة، وليس إلى العامّة.
وإذا توقفنا عند المؤطرات الأربعة عشر – ولنأخذ أولّها تحديدًا، وهو "طبيعة وثقافة" (پايدييا) أو Bildung cultura، وهو من وضع بربارا كاسان – للاحظنا أن المفردة الإغريقية تنحدر من كلمة païs (طفل)، وتعني التميّز الذي يكتسبه الطفل للمرة الأولى. وتعني أيضًا "الوسيلة لإكمال تحقيق الإنسان كحيّ ناطق، أي كحيّ يمتلك اللوغوس" (ص 129). بدءًا من هذه الحوارات السقراطية وصولًا إلى صرامة القوانين، "يكون كل شيء عند أفلاطون إقناعيًا وبيداغوجيًا، وموجّهًا نحو الفضيلة" (ص 129). وتنتقل كاسان من ثم إلى علاقة الإنسان بالعالم، حسب الثقافة الإغريقية. وتستشهد بـ"خطبة العزاء" التي ألقاها بريكليس، مؤسس الديمقراطية، حسب المؤرخ الشهير ثوكيديدس، وقال فيها: "نحن نحبّ الحُسن داخل حدود الأحكام السياسية، ونتفلسف دون رذيلة التراخي البربرية". وفيها يجتمع الجمال والحكمة معًا.
وتتوقف كاسان من ثمّ عند كلمة cultura اللاتينية المشتقة من فعل colere التي تعني: أقام، زرع، مارس، أبقى. وتتضمّن علاقة الناس بالآلهة، وعلاقة الآلهة بالبشر. وترى أن "الفلسفة هي زراعة cultura وتنمية للروح".
وتنتقل من ثم إلى الـBildung الألمانية التي ترتبط بالـtechné اليونانية: أي الفن والصناعة والإنتاج. فكما تحيل إلى الفنّان، تحيل أيضًا إلى الفنّان ونموذجه modèle "المحرك الموجود دائمًا في الذهن". فكلمة Bildung الألمانية "تنظر إلى الإنسان كعمل فنّي، وترث حركة الـ"بايدييا" ذاتها. وتلي هذا العرض لائحة تضم 10 مراجع أساسية بالألمانية والفرنسية والإنكليزية.
وبما أن المعجم يهتم بالترجمة ومستعصياتها، سأتوقف عند مؤطَّر عنوانه "هوبز والترجمة" (ص 330-331). يبدأ النص بالتصريح التالي: "لدى هوبز نظرية في الترجمة يرى فيها اختبارًا للوضوح الفلسفي والصدق. في مواجهة التقليد السكولائي الذي استمرّ في استخدام اللاتينية في القرن السابع عشر، أبدى ازدراء كبيرًا لهذه اللغة المشوّهة والمتعِبة، التي لم تعد تتوافق مع لغة النماذج الرومانية العظيمة". فكلمات اللاهوت تعجّ بالمفردات الغريبة والهمجية التي "يأباها شيشرون وفارو وكل نحويي روما القديمة" ذلك أنها فقدت أصالة الماضي، ولا تستطيع أن تضاهي "أية لغة حديثة كالفرنسية أو الإنكليزية، أو أية لغة أخرى". ويصبّ هوبز جام غضبه على هذه اللغة اللاتينية التي تعطي الناس انطباعًا بأنهم يمتلكون الحقيقة، "فتصبح إمكانية الترجمة معيارًا للحقيقة". ويشيد هوبز بالترجمة إلى اللغات الحية، لأنها تحوّل الفلسفة إلى تحليل وتوضيح، وليس إلى تكرار قوالب جاهزة وقارّة وموميائية. وهذا ما ورد في كتابه "اللفياثان" الذي ترجمته ديانا حرب وبشرى صعب، ونشرته سلسلة "كلمة" في أبو ظبي عام 2012.
معجم "مستعصيات على الترجمة" ليس معجمًا فلسفيًا شاملًا، بل يتناول المفردات الفلسفية الأوروبية الخاصة بالأخلاق. ولأنها كثيرة، اختارت بربارا كاسان مجموعة منها تشمل 30 مدخلًا: الحب، السآمة، القلق، التنشئة، الواجب، الحرية، الإنصاف، الجندر، السعادة، الغفران، الاستقامة، العار، الفضيلة، الهناء... والمعجم مكتوب بلغة رصينة ومنضبطة وعلمية. ويعدّ – في نظري – مفخرة بين المعاجم المتعددة اللغات التي صدرت باللغة العربية خلال العقود الماضية.