}

اللغة التي لا تنصف ضحايا التمييز: العودة إلى الشباب

بلال خبيز 8 مايو 2024
آراء اللغة التي لا تنصف ضحايا التمييز: العودة إلى الشباب
(ريم الديني)



تبدو جليلة بكار أكبر العجائز الثلاث سنًا، في مسرحية "فاميليا" التي أخرجها فاضل الجعايبي عام 1993، بلا ملامح. حين يتغضّن الوجه وتغزوه التجاعيد، وترتخي عضلاته، يصبح بلا ملامح. وجه يشبه أي شيء إلا أن يكون معبّرًا ومعرّفًا بصاحبه أو صاحبته. لكن وجه جليلة بكار في هذه المسرحية، لم يكن بلا ملامح لأنه تغضّن وغزته التجاعيد، كان وجهًا مصنوعًا بحرفة الممثلة. في نهاية المسرحية، ترخي جليلة بكار عضلات وجهها واحدة إثر الأخرى، لتتكشف عن امرأة فاتنة. ربما أكثر من حقيقة فتنتها، ذلك أنها بجهد عضلي مدروس استطاعت أن تعيد للوجه ملامحه، وأن تسيّده على الجسم الذي ما أن استقامت حتى بدا فتيًا وغضًّا. الفتنة التي تفرضها جليلة بكار على المشاهدين عارمة ولا تحد، ربما لأن أحداث المسرحية طوال وقت التمثيل، كانت تدور في بيت سيء الإضاءة، إذ ما حاجة عجائز ثلاث ليتملين في وجوههن تحت نور باهر؟ أيضًا، لا حاجة بنا نحن المشاهدين إلى الأضواء الساطعة لنتملى في وجه عجوز. ذلك أنها إن كانت تشبه أحدًا فإنها ستشبه جنسًا كاملًا، عددًا لا يحصى من الكائنات التي بلغت هذه السن. أما أن تكون شابة فذلك أدعى لأن نتملى، وتتملى هي أيضًا، في وجهها وجسمها. فشبابها يميزها عن غيرها ويصنع لها هويتها. على الأقل هذا ما كانت توحي به العقود السابقة على انتشار عمليات التجميل التي جعلت كل الوجوه متشابهة كما لو أنها وجوه عجائز. لكن حقيقة أن هذه الإضاءة الخافتة التي تمنع المشاهد من تملي الوجوه، وتتركه متصالحًا مع نفسه، إذ ليس ثمة على الخشبة ما يستحق الـتأمل والتملي والتحديق. تجعل المشاهد القابع في طمأنينته نادمًا على زمن السهو الذي أمضاه طوال فترة العرض، لأن الممثلة نجحت في النهاية في جعله يتحقق من جهله وكسله على نحو صارخ، ما أن أثبتت أنها لم تكن ما هي عليه في المسرحية.

جليلة بكار تستطيع أن تسحرنا بفتنتها وجمالها. مثل هذه الفتنة لم تتكرر كثيرًا في المسرح، وتواترت قليلًا في السينما. لكن السينما خادعة، فنانو الماكياج يستطيعون أن يوهمونا، وليس بوسعنا إلا أن نصدق. أما أن يحدث مثل هذا التحوّل على خشبة مسرح، فهذا حدث يفترض بنا تعليم زمن حصوله بعلامة بيضاء.

جميلة في رواية "الآنسة جميلة" لنسرين النقوزي فتاة بلغت سن من يفوتهن قطار الزواج في بلادنا العربية


صناعة الضحية والمتضامنون معها

جميلة في رواية "الآنسة جميلة" لنسرين النقوزي فتاة بلغت سن من يفوتهن قطار الزواج في بلادنا العربية. هذه الـ "جميلة" تصف نفسها ولا يصفها لنا أحد. مشكلتنا معها أنها الراوية في جزء أساسي من الرواية. لهذا حين تقول إنها لا تطيق رائحتها، لا يسعنا إلا أن نصدق. وحين تصف زوجة أبيها كامرأة مثيرة ومعتنية بنفسها وجمالها، لا نستطيع إلا أن نحسب أنها، هي نفسها، ليست مثيرة ولا جميلة. لكن جميلة تخبر ولا تتموضع للصورة. والحال نحن كقرّاء مجبرون على تصديق ما تقوله عن نفسها. إنما لنفترض أن جميلة وصفت نفسها بأنها أجمل نساء الأرض وأكثرهن إثارة، فهل كنا سنصدقها؟ أغلب الظن أننا لم نكن لنصدق. ذلك أن الاعتراف بجمال شخص ما، والتواطؤ على هذا الحكم، يشبه أكثر ما يشبه تمييزًا عنصريًا له عن بقية الناس. الاستحسان الذي نبديه حيال الجميلات والجميلين هو في حقيقته استبعاد وتمييز لهؤلاء الذين نقرر أنهم ليسوا كذلك. وحيازة هذا التاج، تاج الجمال، ليست ممكنة من دون مشاهدين وناظرين. لذا سنصدق جميلة وهي تصف نفسها، ومنذ لحظة تصديقنا لهذا الوصف، سنبدي تعاطفنا معها، لأنها بلا رأسمال. نتضامن معها كضحية، لكننا أبدًا لن نعتقد أنها من المحظوظين.

ولنتصور أن مخرجًا مسرحيًا قرر تحويل هذه الرواية إلى مسرحية، فأي ممثلة ستنجح في أن تظهر على الوصف الذي وصفت الروائية شخصيتها الرئيسية عليه؟ تبدو الرواية بهذا المعنى مستعصية على التصوير بكل أشكاله. ولأنها كذلك فهي كلام خالص من كل شائبة تشوبه. تنجح النقوزي في تصوير امرأة بلا ملامح على الإطلاق. امرأة لا يمكن تخيّلها، ذلك أننا حتى حين ننظر لمن يفتقدون للوسامة الواضحة المعالم، لا بد وأن نحيل بعض ما فيهم إلى صور أخرى لأشخاص جميلين ووسيمين. لكن النقوزي تمنع عنا مثل هذا الخيار، وتريدنا أن نقلع عن التخيل، وأن نكتفي بما تقوله لنا عن شخصيتها الرئيسية.

سيندي كراوفورد وهي تعرض صورتها وتقول إنها لا تحب ساقيها تشبه جليلة بكار التي توهمنا أنها عجوز شائخة ثم تنتفض أمامنا امرأة مثيرة


مع ذلك يجدر بنا أن نفكر قليلًا في ما تصفه الروائية. ذات يوم حين كانت سيندي كراوفورد تتربع على عرش خيالات العالم أجمع، صرحت بأنها لا تحب ساقيها. لكننا كنا نراقب صورها ونعرف أن ما تقوله لا يعدو كونه استدرارًا لمديح ساقيها. الآنسة جميلة لا تظهر لنا صورتها، لهذا حين تصفها الروائية تجعلنا نتعامل معها كمتضامنين يتضامنون مع ضحية. ضحية أي أمر؟ إنها ضحية التمييز الجمالي الذي يطرد ملايين البشر من جنة الحظ.

سيندي كراوفورد وهي تعرض صورتها وتقول إنها لا تحب ساقيها تشبه جليلة بكار التي توهمنا أنها عجوز شائخة ثم تنتفض أمامنا امرأة مثيرة. ونحن في الحالين سنعجب بساقي كراوفورد أكثر مما كنا من قبل تصريحها، وبوجه بكار أكثر مما كنا قبل ختام مسرحيتها.

الآنسة جميلة المصنوعة من لغة بلا تصاوير هي المرأة التي نعاملها كضحية. قد نتضامن معها وقد نتجاهلها، لكننا على الأغلب نشكر المصادفات التي جعلتها سجينة الرواية ولا تستطيع أن تخرج منها إلى المسرح أو السينما أو حتى إلى الشارع.

هوامش:

(*) "فاميليا" مسرحية أخرجها التونسي فاضل الجعايبي عام 1993، عن نص لفاضل الجعايبي وجليلة بكار التي لعبت دورا رئيسيا فيها إلى جانب زهيرة بن عمار وفاطمة سعيدان وكمال التواتي.

(**) "الآنسة جميلة" رواية للبنانية نسرين النقوزي، صدرت عن دار النهضة بيروت عام 2023.

 

  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.