لا تضاهي متعة التجول بين أروقة المكتبة أي متعة أخرى مهما استطابت، أو هكذا يظن كل قارئ على الأقل! ففي صباح أحد الأيام المشرقة منذ فترة ليست ببعيدة، وجدتني أقصد مكتبة تقع في مدينة الدوحة، شاهقة كحرف الألف تتصدّر - كصدارته الأحرف- ما يحيط بها من فضاء رحب... تُدعى "مكتبة ألف".
وعلى الرغم من أنني حين دخلتها للمرة الأولى في ذلك اليوم لأجل كتاب بعينه، فقد خرجت بحصيلة ثرية لم تكن في الحسبان! كم يطيب لي الحديث عن كل كتاب صار في حوزتي، لكنني آثرت الحديث عن عشرة منها فقط... تتحدث بشوق عن فلسطين.
يأتي الكتاب الأول بعنوان "الطب الشرعي في فلسطين: دراسة أنثروبولوجية"، وفيه تتتبع الباحثة د. سهاد ظاهر مسار الجسد الفلسطيني لحظة إعلان وفاته في مؤسسة محلية للطب الشرعي، لتكشف عن منظومة من تفاعلات دينية واجتماعية وسياسية وقضائية وصحية يديرها الاستعمار من خلال إجراءات بيروقراطية، في ظل غياب سيادة الدولة الحديثة على مؤسساتها! وفي سياق البحث الذي عني بالإنسان في كينونته الوجودية بين قضايا النفس والجسد والموت والحياة، تؤكد الباحثة على أن ذلك الجسد المسجى وهو يجسّد قراءة حية لتاريخ ممارسات الموت في المجتمع الفلسطيني، إنما هو جسد فاعل يمارس دوريه السياسي والاجتماعي وهو يكشف عن واقع الأجساد حية وميتة، قبل التشريح الطبي وفي أثنائه وبعده. تقول د. سهاد عن الجسد الفلسطيني في "الاحتلال الإسرائيلي": في حزيران/ يونيو 1967 بدأت عمليات تشريح الجثامين الفلسطينية تجري في المركز الإسرائيلي للطب الشرعي (أبو كبير). وتبدأ هذه العملية بقرار صادر عن النائب العام الفلسطيني الذي يقرّر ضرورة إجراء تشريح ويصدر أمرًا بذلك. وفي حال وافق الحاكم العسكري على الأمر يُنقل الجثمان إلى المركز الإسرائيلي للطب الشرعي. وفي هذا السياق يتذكر طبيب من معهد الطب العدلي الفلسطيني قائلًا: "يُصدر النائب العام الفلسطيني أمرًا يطلب فيه إجراء عملية التشريح، فيوافق الحاكم العسكري الإسرائيلي، ويُنقل الجثمان إلى أبو كبير بسيارة إسعاف. ويشرح نائب عام فلسطيني سابق ما يلي: "بصفتي مدّعيًا عامًا كنت أعطي كل المعلومات عن قضية معينة وأحدد الجثامين التي يجب تشريحها، ولا سيما في القضايا المدنية، إضافة إلى وجوب الحصول على موافقة موقعة من أحد أفراد العائلة. أما في القضايا السياسية، فكان الإسرائيليون أصحاب القرار لا أنا ولا العائلات". إذًا في مجال الطب الشرعي، "تم تحديد مسارين لجسد الفلسطيني الميت، مسار اجتماعي ومسار سياسي. وفي النهاية تكون السيادة المطلقة لقوى الاحتلال الإسرائيلية".
أما الكتاب الثاني "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة: 1908-1948" فيكشف فيه المؤرخ د. ماهر الشريف عن مشروع فكري حداثي كانت قد خطّطت له مجموعة من المثقفين الفلسطينيين في الفترة التي شهدت انحسار الحكم العثماني مرورًا بالانتداب البريطاني، وهم الذين تأثروا بروّاد النهضة العربية آنذاك وبالثقافة الأوروبية الحديثة ككل. وقد كان مشروعهم يهدف إلى نقل المجتمع من التقليد إلى الحداثة، لا سيما أنه كانت من أبرز ملامح المجتمع آنذاك انعتاق العلم من ربقة الدين، مع ما شهد من دور ملحوظ للصحافة ونشاط حركتي الترجمة والطباعة. يقول المؤلف في "تصوّر المثقف الفلسطيني دوره في المجتمع": "أما بشأن واقع الثقافة الفلسطينية والأوضاع التي تحيط بمنتجها، في بلد يناضل شعبه ضد الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني، فقد أشار قدري حافظ طوقان إلى أن هذه الأوضاع تؤثر في المثقفين والأدباء تأثيرًا كبيرًا، فتأخذ قسطًا كبيرًا من أوقاتهم ومجهوداتهم وتفكيرهم يصرفونها في ميادين السياسة لدرء الأخطار المحدقة ولتخفيف المصائب المنصبة علينا انصبابًا من كل جانب"، متسائلًا: "وكيف يمكن لثقافة أن تنمو، ولقريحة أن تنتج وتبدع، إذا لم تكن تلك القريحة في جو من الحرية وفي محيط خال من القيود والأغلال؟" ومؤكدًا، في الوقت نفسه، أن كل هذه الأوضاع يجب ألا تحول دون اضطلاع المثقف الفلسطيني بدوره في المجتمع، من خلال "توجيه التعليم والثقافة توجيهًا يخلق في النشء روح الاعتزاز بالقومية"، وبث روح النضال وروح الكرامة الشخصية والقومية بين صفوف الناشئة، وتعريفها بالتاريخ القومي والتراث العربي "لا للمباهاة والفخر بل لكي نستلهم من ذلك العزيمة التي تساعد على الاستمرار والقوة التي تزيد في سرعة الاندفاع"، ولكي ننشئ "شبابًا مؤمنين عاملين على رفع مستوى البلاد، مثقفين تثقيفًا قوميًا وطنيًا، يعرفون كيف يخدمون الوطن".
وفي الكتاب الثالث الذي بدأ من حيث انتهى الكتاب السابق "الرواية الفلسطينية: من سنة 1948 حتى الحاضر"، يوضح الناقد والمحاضر بشير أبو منّة أثر نكبة الشعب الفلسطيني، وما تبعها من تهجير قسري وتشرّد وشتات، على تطور أدب الرواية الفلسطينية، في المنفى وتحت نير الاحتلال على حد سواء، وما ارتبط بها بالضرورة من فكر تنويري وقيم حريات، ورغبة في التحرّر من القيود، والمقاومة ومناهضة الاستعمار، وانعكاسات اليأس والأمل معًا... وقد ركّز - مستشهدًا بأعمال بعض الأدباء أمثال غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا- على قيم إنسانية تُعنى بالنضال والتضحية بالنفس وحق تقرير المصير. والكتاب إذ يعرض السياق النظري للرواية الفلسطينية، تصبح الرواية في حدّ ذاتها بأبطالها الرمزية، الحاضنة التي بلورت كامل الهوية الفلسطينية. يقول أبو منّة في "المسارات الفلسطينية": "إذا ما نظرنا إلى الثورة الفلسطينية في الفترة 1936-1939 نرى التقاء وتصاعد عدة عوامل لوكاتشية، مثل التاريخ كتجربة اجتماعية وحياة شعبية، والثورة البورجوازية، والثورية الجماهيرية، والمضطهدين كموضوعات قضايا تاريخية. لقد كانت عبارة عن ثورة فلاحين واسعة النطاق مع حراك في المدن، رافقتها انتهازية النخبة وعجزها، مع عدم توفر استراتيجيا للتحرير ولمواجهة عراقيل هائلة في وجه نجاحها، ثم هزيمتها النهائية. وهذه كلها عوامل تأسيسية تحدّد قصة النضال الفلسطيني ضد الاستعمار الصهيوني والحضور الإمبريالي البريطاني، كما تتزامن مع ميلاد أدب فلسطيني مميز ينفرد بكونه جداليًا وتحريريًا في آن واحد. لكن من المهم البدء بتحديد الحقبة التاريخية المعنية قبل استخلاص أية روابط ثقافية".
لذا، يأتي الكتاب الرابع ليجسّد أثرًا من ملامح تلك الهوية الفلسطينية وبواقعية، حيث يحمّل الصحافي والأسير علي جرادات في كتابه "لست وحدك: ذاكرة حرية تتدفق" ذكريات مؤلمة عايشها ومن معه من المناضلين في سجون الاحتلال، حيث الصراع بين روح أبيّة تنشد النصر، وكيان متغطرس مدجج بالسلاح... وهو الصراع الذي رغم ضآلة حيّزه خلف قضبان الأسر، وعتمة السماء الذي كان يحجبها سوره العالي، اتسع في قلب الأسير اتساع الوطن الحر. يقول جرادات في "الانصهار في الجماعة": "لست وحدك، وأنت السجين من أجل حرية فلسطين التي تسير في دروب الجلجلة... فمعك جميع الحالمين من البشر بزوال عتمة طالت... معك كل الذين واجهوا عالم الظلم بـ "لا كبيرة" هي بحجم عالم الحلم... معك شعوب ترفع قبضاتها في وجه الريح السموم... معك عرب لوحت وجوههم شمس الصحراء... معك أفارقة ما انفكوا يكسرون قيود العبودية بأسنانهم... معك من قاوموا سلخ فروة رأسهم لتقدم إلى السيد الأبيض... معك كل الذين يرزحون تحت مكبس القهر الطبقي في العالم... معك وفي قلبك وبين ثنايا خيالك جميع الماضين في درب الشمس الطويلة السائرين نحو أفق من الحرية والعدل والمساواة لا أرحب".
وفي نفس سياق الحديث عن الهوية الفلسطينية، يأتي الكتاب الخامس "ثلاث أمهات وثلاث بنات" والذي وضعه طبيب نفسي يهودي- أميركي يُدعى مايكل غوركن بالتعاون مع الكاتبة رفيقة عثمان، ليسرد لمحة عن الواقع اليومي لحياة نساء فلسطينيات ينتمين لأجيال متباينة ومناطق مختلفة، يحكين أحداثًا تاريخية عاصرنها مع الكثير من القصص الإنسانية وطرائف التعليم والزواج وبناء البيوت ومشاركة الرجال العمل في الحقول... في محاولة للتقريب بين الخطاب النظري والشهادة الشخصية، بحيث تعتبر يومياتهن ومنازلهن وهمومهن وصراعاتهن ومقاومتهن نموذجًا كلًا على حدة لمستوى محلي من المعاش اليومي، لكنه يعكس في مجمله شكل الثقافة السياسية السائد. تقول سميرة، إحدى تلك النسوة، وهي تروي جانب من حكايتها في حماس ظاهر: "حدّثني أبي أيضًا عن شقيقه الأكبر الذي حارب سنة 1936م ضد الانتداب البريطاني. كان بطلًا من الفدائيين، وساعدته أمه في قتاله هذا ضد البريطانيين بجلبها الذخيرة له. كان بإمكانها التسلّل من بين الجنود البريطانيين لأنها امرأة، ولم يفكروا أبدًا في إيقافها. أبي لم يكن فدائيًا، بل مجرد ولد صغير عندما دارت هذه الأحداث، لكنه معجب بأخيه وأمه كذلك. سألت كل ما يخطر على البال من الأسئلة عن هذا الموضوع... الكلام عنها كان بيأسرني كتير، وحبيت أعرف كل شي عن اللي صار سنة 1948، كيف وصلنا لحد التهجير من القرية ووين رحنا... كنت بدي أعرف كل شي بالضبط".
وفيما الحديث لا يزال في طابعه الاجتماعي، يأتي الكتاب السادس: "أحوال الزواج في قرية فلسطينية" والذي تصف فيه الباحثة الفنلندية هيلما غرانكفست تلك الأحوال الشعبية كما عاينتها في قرية أرطاس، الواقعة جنوبي بيت لحم، منتصف القرن العشرين، لا سيما وأن شؤون الزواج تعدّ كمصدر توثيقي مهم للحياة آنذاك وحتى الآن، إلى جانب الولادة والموت، كسن الزواج، والزواج المبكر، ومعايير اختيار الزوجة، وشروط الخطوبة، ومراسم عقد الزواج، وطقوس انتقال الزوجة إلى بيت الزوج، وتلقيّ التهاني، ومظاهر الاحتفال والرقص والغناء وإعداد الولائم، وشكل الحياة الزوجية ككل فيما بعد، متضمنة طرق المعاملة بين الزوجين والعلاقة بالأقارب واحتمالية انضمام الضرائر ووقوع الطلاق وحتى الترمّل. تقول هيلما في "من يختار العروس؟": "الأب هو من يحوز عروسًا لابنه، والأب هو من يتكفل بزواج ابنته، وإذا ما أغفل هذا، أو مات قبل أن يبلغ أطفاله من الزواج، نهضت الأم بذلك وحدها، أو بالتشاور مع الأقارب المقربين؛ كالأخ الأكبر أو العم، على سبيل المثال. ويجب على الإخوة أن يساعدوا أخاهم غير المتزوج في الحصول على زوجة، ولكن مما يستحسنه الفلاحون أن يقال عن رجل إنه زوج جميع أبنائه وهو في قيد الحياة "الأب بجوّز الولد وهو جوّز كل أولاده وهو طيب"، فيكون قد أدى الواجب الأهم في حياته. ويُفهم من قولهم "زوّجه أبوه" أن أباه دفع تكاليف الزواج كلها، فلكلام الناس تأثير بالغ في الآباء، ولولاه لما زوّج كثير من الآباء أبنائهم".
وبعد تلك الحياة الهانئة في بساطتها، يأتي الكتاب السابع: "القدس: التطهير العرقي وأساليب المقاومة" الذي وضعته مجموعة من المؤلفين وقامت بتحريره الباحثة آيات حمدان، ليواجه عمليات التهويد الممنهجة ضد مدينة القدس، سكانيًا وعمرانيًا، وهي السياسة التي تستند في كل ذلك على أسس قانونية وإدارية فضلًا عن مناهج التعليم وتشكيل الوعي، كما هي الحال في بناء جدار الفصل العنصري وإنشاء المستوطنات وفرض السيطرة وأساليب الدفاع... التطهير العرقي الذي ساهم في تفجّر الصراع وطوّر من آليات المقاومة الفلسطينية. يقول عصام نصار- وهو أحد المؤلفين- في "القدس: المدينة والمكان": "للقدس تاريخ تليد يعود إلى آلاف السنين. كان موقعها مسكونًا ومأهولًا قبل قرون من ظهور الأديان الثلاثة؛ اليهودية والمسيحية والإسلام. وفيها قامت مجتمعات وعاشت شعوب نطقت بلغات وطقوس اجتماعية ودينية مختلفة. لكن ترتبط مركزية المدينة/ الموقع إلى درجة كبرى بصلتها بالأديان الثلاثة. وهي بوصفها مدينة وفضاءً اجتماعيًا ثقافيًا واقتصاديًا أيضًا، فإنها سابقة على علاقتها بهذه الأديان التي ارتبطت المدينة بها؛ كونها موجودة مدينة أولًا، قبل أن تكون موقعًا دينيًا، وإن تغيّر اسمها عبر الأزمان".
وبينما يستمر العدوان والمقاومة، يأتي الكتاب الثامن: "إسرائيل: دولة بلا هوية" والذي اشترك فيه الباحث د. عقل صلاح والروائي الأسير السابق كميل أبو حنيش، وقدّم له أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والأسير السابق كذلك أحمد سعدات، ليفضح الازدواجية التي تعتمل في قلب الكيان المحتل، ما بين تطلعّات استعمارية سنّها هرتزل تحقق حلم العودة للحضن الأوروبي من بعد أرض الميعاد، وبين صراع الهويات العرقية لمجموعات الشتات التي هربت من المجازر الأوروبية في القرن الماضي واستوطنت فلسطين! وبما أن تحديد هوية الدولة يؤسس لشرعيتها بشكل عام، فإن إسرائيل واقعة في حيص بيص جرّاء التخبط بين هوية دينية وأخرى قومية وثالثة ديمقراطية، ما يجعلها دولة بلا هوية كما يخلص الباحثان، وذلك من خلال ما يثبته تاريخ فلسطين القديم والحديث للصهيونية. يقول الكتاب في "خرافة الهوية الإسرائيلية": "اكتشفت الصهيونية، وفيما بعد إسرائيل، أن حل المسألة اليهودية لا ينتهي بإقامة الدولة، وأن هذا الحل ينطوي على إشكاليات أخرى لم ترد في الحسبان، وأن حل التعارضات المنطوية على الفكرة القومية لا يكمن في خلق هوية يهودية من خلال ما عُرف بسياسة بوتقة الصهر. وتعاني إسرائيل أزمة هوية شاملة مرتبطة بطبيعة تكوينها بخليط عرقي إثني متعدد، وأزمة أخرى نجمت عن فشل سياسة بوتقة الصهر، وأظهرت تجمعات أو مجتمعات واضحة رفضت تبني ثقافة الجماعة المؤسسة أي الأشكناز. وقد ارتكز التفاوت القائم في إسرائيل من الناحية التقليدية على التمييز بين شكلين متوازيين في الخطاب يظهر أنهما لا يلتقيان على الإطلاق، الخطاب الإثني والخطاب القومي. فالخطاب الإثني ينظر إليه بوصفه خطابًا يهوديًا داخليًا بمعنى الانقسام بين الأشكنازيين والشرقيين، بينما يعد الآخر خطابًا قوميًا يهوديًا".
عزمي بشارة: في تناقضات الديمقراطية اليهودية
لا تتوقف دوامة الاعتداء الصهيوني والمقاومة الفلسطينية عن الكرّ والفرّ، وعليها لا يتوقف الحديث، حيث يأتي المفكر د. عزمي بشارة في الكتاب التاسع "من يهودية الدولة حتى شارون" ليلقي نظرة نقدية عامة على الداخل الإسرائيلي اجتماعيًا وسياسيًا، ويستكمل تقريع تلك الازدواجية الموسوم بها الكيان المحتل، لكن من حيث ديمقراطيته المزعومة التي تتخبّط في مفهومها بين الدين والقومية تارة، وبين يهودية الدولة ومواطنة اليهود تارة أخرى، وهو بالتالي كيان عاجز عن تحقيق المساواة بين فئات مواطنيه كشرط أساسي للديمقراطية، فضلًا عن إجراءاته الأمنية وهويته الاستعمارية التي تمثّله كدولة يستشري فيها التمييز العنصري! يقول د. بشارة في "تناقضات الديمقراطية اليهودية": "وإشكال الديمقراطية الإسرائيلية الثاني هو إشكال المواطنة ويهودية الدولة. وهو ينقسم إلى إشكاليتين: الأولى أن يهودية الدولة تستند إلى عدم الفصل بين الدين والقومية، وتقود بالتالي إلى عدم الفصل بين الدين والدولة. والثانية أن الدولة ليست يهودية فقط بحكم الأغلبية اليهودية فيها، بل أيضا بحكم كونها دولة اليهود. أي أن إسرائيل بحكم رؤيتها وتعريفها لذاتها ليست دولة جزء كبير من مواطنيها، وهي في الوقت ذاته دولة كثيرين ليسوا مواطنين فيها بعد. وتعني هذه الـ ‘بعد‘ أن الدولة ترى لذاتها مهمة أيديولوجية في إقناع هؤلاء أن لهم دولة غير الدولة التي يعيشون فيها عليهم أن يبادلوها الولاء وأن ينتقلوا إليها. الإشكالية الأولى هي إشكالية عدم تمكن الدولة من تحقيق المساواة. أما الإشكالية الثانية فهي إشكالية المواطنة المؤدلجة بالمواطنة الصهيونية. ويفترض أن المواطنة في الديمقراطية الليبرالية محيّدة أيديولوجيا".
"شيرين أبو عاقلة: الشاهدة والشهيدة"
أما في الكتاب العاشر: "شيرين أبو عاقلة: الشاهدة والشهيدة"، وهو مسك الختام، فيسطّر الإعلامي هيثم زعيتر سيرة حياة الصحافية الراحلة لا سيما دورها البارز في تغطية مستجدات القضية الفلسطينية من قلب الحدث، وفضح مزاعم الكيان المحتل في المقابل، جهارًا نهارًا، ما دفعه لتنفيذ عملية اغتيالها على الهواء مباشرة، وهي تغطي انتهاكاته في مخيّم جنين عام 2022، إضافة إلى عرض التبجّح الإسرائيلي في محاولاته تضليل ارتكابه للعملية، فضلًا عن اعتداءه السافر في أثناء مراسم تشييع جنازتها، مع تسليط الضوء على الحراك القانوني الذي لا يزال مستمرًا، سواء من جانب ذويها أو الحقوقيين أو نقابة الصحافيين أو شبكة الجزيرة الإعلامية. يقول زعيتر في مقدمته: "إن هذا الكتاب يشهد لشيرين الشهيدة إصرارها على متابعة جرائم الاحتلال بحق شعبها أطفالًا ونساءً ورجالًا وشيوخًا. ويشهد لها وهي تنقل رسائلها الإعلامية من القدس تدنيس الاحتلال للمقدسات الإسلامية والمسيحية، وامتهان كرامة المؤمنين في المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة. يستعرض هذا العمل سياسة الاحتلال الممنهجة في استهداف الصحافيين الناقلين للحقيقة في فلسطين، واستطاع تقديم الاحتلال الإسرائيلي كنموذج فريد في انتهاك القوانين الدولية ليس بحق الصحافيين الأحياء فحسب، وإنما بحق جثامينهم والمشيعين لها، ومحاولته سرقة جثمانها الطاهر بعد أن سرق حياتها، لكنه لم يتمكن من سرقة الحقيقة التي دفعت الشهيدة حياتها ثمنًا لها. وبالمقابل يُظهر الكتاب في صفحاته وفاء شعبنا ومحبته لشيرين حية وشهيدة، فقد ودعتها جنين ومخيمها الذي ارتوى بدمائها، واحتضنتها مدينة القدس مسقط رأسها وشيعتها بكل فخر واعتزاز، فكان مشهدًا عظيمًا يليق بعظمة الشهداء".
وعود على بدء والحديث عن فلسطين ذو شجون، أختم بمأثور القول الذي جادت به قريحة الأديب والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله في القراءة الإبداعية حين قال: "أفضل فترات الإبداع هي أفضل فترات القراءة"، وقد اعتبر القراءة في حدّ ذاتها عملًا إبداعيًا... وهي رؤية لا تختلف عن تصوّري في القراءة كفعل خشوع يستلزم طقسًا... يشبه صلاة قديس في محرابه!