على وقع الانهيار الاقتصادي الذي جعل من المقاهي والمطاعم والمنتجعات الترفيهية حلمًا بعيد المنال بالنسبة لـ 70% من اللبنانيين، أضحت المساحات العامة، على محدوديّتها في بيروت، وخصوصًا منها ما يقع بمحاذاة البحر، مقصودة بشكل غير مسبوق من قبل سكان المدينة وجوارها. وقد نشطت منذ بضع سنوات، عدة منظمات غير حكومية من أجل الحفاظ على المساحات العامة في بيروت، باعتبارها فضاء عامًا للسكان، وطالبوا المسؤولين بوضع حدّ للتعدّيات عليها، واستحداث المزيد منها، محذّرين من أن تناقصها يؤدي إلى "تفتت المجتمع". استندت هذه المطالبات في عمقها إلى الأهمية التي أولاها المصمّمون الحضريّون العالميون للمساحات العامة في المدن، من بينها اعتبارها فضاء للالتقاء والتفاعل الاجتماعي، ما يجعلها مساحات سوسيو ـ مكانية، ذات ذاكرة وهوية وتاريخ.
ووفق ما ذكر، باستطاعتنا النظر إلى المساحات العامة كمختبر اجتماعي يعكس وظيفتها وإشغالاتها من خلال ممارسات وسلوكيات الرواد.
نعرض هنا حصيلة جولة إثنوغرافية مشهدية- بصرية للمساحة الواقعة في محيط "الزيتونة باي".
بين الخاص والعام
لم تكن الواجهة البحرية الجديدة لبيروت أو ما يسمى waterfront، المحاذية لزيتونة باي، التي تملكها شركة سوليدير، متاحة لسنوات خلت للعوام، وقد كانت في السابق، تضم عددًا من المطاعم وصالات السهر المخصّصة لأبناء الطبقات الميسورة ومن بينها الميوزيك هول Music Hall والكيدز موندو Kids Mondo، مدينة الألعاب الأشهر آنذاك المخصصة للأولاد، والتي أقفلت كلها.
باستطاعة المراقب اليوم أن يلاحظ هجانة هذه الواجهة، بين ما كانت عليه كمجال خاص، وما صارت إليه كمجال عام لفترة نجهل مدتها، فكل ما يحيط بهذه البقعة من فنادق فخمة ومؤسسات ترفيهية حديثة المنشأ، تبدو اليوم منفصلة عن الرواد الذين أصبحوا يقصدونها من مختلف الطبقات ومن مختلف المناطق، بعد أن تناقصت المساحات العامة في المدينة بشكل كبير. فباستطاعة قاصدي هذا المجال أن يروا بأم العين رواد النوادي الرياضية ذات الواجهات الزجاجية يتمرنون فوق الآلات المتنوعة، وإلى جانب النوادي الرياضية هناك شركة Beirut by bike للدراجات الهوائية التي أصبحت مقصدًا لهواة هذه الرياضة، يافعين وأطفالًا وبالغين، وهناك المستشفى الميداني المخصص لمرضى الكورونا الذي بني بدعم من دولة شقيقة، أقفل بعد افتتاحه بأسابيع قليلة، يبدو أطلالًا فيما الشجيرات التي زرعت أمام بوابات الدخول لا زالت في مكانها يابسة، وفي نهاية الرصيف الذي يطل على مرفأ بيروت، تأسس حديثًا مطعم Parasol الذي لا يظهر للمارة منه سوى خلفيته.
تناقضات نحو العادية والثبات
"تُظهَر الصفات الإنسانية للمدينة من ممارساتنا في الفضاءات المتنوعة فيها، وإن كانت هذه الفضاءات تخضع للتسييج والسيطرة الاجتماعية، والتخصيص، سواء لمصالح خاصة أو عامة" (David Harvey)، من هنا يعكس مجال الزيتونة باي وما يحيط به، تناقضاته ليس فقط كمجال كان في السابق خاصًا أصبح اليوم عامًا ـ هجينًا، بل تناقضات تعزّزها سلوكيات الرواد، التي يبدو أنها اكتسبت عاديّتها وقبولها وثباتها في حياة الجماعات اللبنانية، كأن نرى عريًا وحجابًا في مساحة واحدة تظلّلها صداقات وعلاقات ودّ وحوارات فكرية، أو تسير فتاة بلباس الشادور إلى جانب فتاة أخرى ترتدي زيًا رياضيًا مؤلفًا من شورت قطني يلتصق بجسدها مع بلوزة قصيرة ترتفع تظهر نصف بطنها، محجبة أخرى تلبس زيًا رياضيًا يلتصق بجسدها مع ماكياج ساطع تخوض نقاشًا مع شاب حول حفلة الليلة، شباب وشابات يعزلون أنفسهم عن العالم بوضع سماعات الهواتف على آذانهم، وضعوا على زنودهم آلات لاحتساب الخطوات والسعرات الحرارية، امرأة تبيع نسخًا من الإنجيل، رجل ثمانيني يقطع الكورنيش ذهابًا وإيابًا عددًا من المرات مع حركات تعكس فخره واعتزازه بقوته البدنية. على الكورنيش السفلي، جلس شبان وشابات من بينهم محجبات يمّموا وجوههم صوب البحر، ينتظرون هبوط الليل، ليسترق أحدهم قبلة أو أكثر.
نفايات وأغان وشتائم...!
لطالما شكلت المساحات العامة موضوع خلاف بين الجهات المدافعة عنها كإحدى المساحات الحضرية التي هي حق لسكان المدينة، إلا أن مشاهد النفايات المتراكمة والمنتشرة في كل مكان تجعلك تدرك أن حسّ المسؤولية غائب عند عدد كبير من المواطنين الذين يلقون الاتهامات تباعًا على غيرهم، بينما لا يكلّف أحدهم نفسه عناء وضع عبوة مياه فارغة في البراميل المخصصة للقمامة الموجودة على جنبات الكورنيش، والتي لم يسلم عدد كبير منها من السرقة والتكسير. نستذكر في هذا السياق قولًا للفيلسوف الروماني الأصل سيروان: "كل مجتمع عاجز عن إنجاب يوتوبيا وتكريس نفسه لها هو مجتمع يتهدّده التيبّس والخراب"، وهو ما يشبه حالنا اليوم، الكل يتهم الكل، فيما القمامة تكاد تغطي إسمنت الكورنيش بأكمله، آلاف من أكياس بطاطا تشيبس الفارغة، أعقاب السجائر، بقايا طعام، مخلفات الحيوانات التي تركها أصحابها بدون مراعاة للمارة، المحارم الورقية، ألعاب مكسرة، قشور بزر وحفاضات أطفال حُشرت بين نباتات الطيون في الأرض المحاذية للكورنيش.
الآراء الشاجبة يسمعها الزائر ومن بينها "شعب مجوي وبلا مسؤولية، تفو عليهن، ما بنضفوا وراهم، هيك بيعملوا ببيوتهن؟ وينية البلدية؟ ما في دولة!". وإذا أشرت إلى أحدهم بأن لا يرمي الأوساخ، يقول "شو وقفت عليي". سيارة تابعة لبلدية بيروت تقف إلى جانب الطريق وبداخلها عدد من العمال، ينظرون إلى الكورنيش وملامح الحيرة تعلو وجوههم، يقول أحدهم "منين نبلش يا الله، منين نبلش"!
لم تكن الواجهة البحرية الجديدة لبيروت أو ما يسمى waterfront، المحاذية لزيتونة باي، التي تملكها شركة سوليدير، متاحة لسنوات خلت للعوام (Getty) |
مشاهدات يومية على الكورنيش
قسم من الكورنيش لا تدخله السيارات، هذا ما جعله متاحًا للعب الأطفال ولجلسات عائلية، منهم من جلب معه طاولة وكراسي ولوازم العصرونية، وأولها الأرغيلة وبزر وفحم وبطيخ وعصائر. ثمة حيوانات أليفة جلبها أصحابها من أجل النزهة أو قضاء حاجتها، نعرف أسماء الكلاب من مناداة أصحابها "شيكو، بيلا، دوكس". تتسرّب إلى آذان المارة ما يدور بين المشاة من نقاشات: "ليكي ولي شو إنت هبلة حتى تخليه يتمقطع فيكي، كم مرة قلتلك ألبطيه بإجرك واقطعي له كرت"، "دخيلك مفكرة حالها إنها هيك صارت أحلى، وجهها كبير ومنخارها أد النملة، مش ظابط ع وجهها أبدًا، من هوي هالحكيم الحمار يلي عاملها العملية". رجل يشفط نفس أرغيلة ثم يوجّه كلامه إلى زوجته: "مش شايفة ابنك مش عم يهدا، هلق بيحرق حاله بالأرغيلة، شو بكي قاعدة، خذيه خليني خلص هالنفس عرواق". شاب ترك عنان الموسيقى العالية تنطلق من آلة تسجيل ضخمة أحضرها معه "عالهوارة". المكان مغر لمراقبة غروب الشمس، هذا ما أقنع فتاة أن تحضر بفستان الزفاف لكي تتصور والشمس خلفها، الأراضي الواسعة الترابية على جانب الكورنيش تصبح في المساء مكانًا ملائمًا ووحيدًا لقضاء حاجة الأطفال بين نبات الطيون المنتشر بكثافة.
حرب وكَيْف تحت سماء لبنان
إنه 30 تموز/ يوليو (2024)، يوم دخلت الحرب، التي تشنّها إسرائيل على لبنان بالتزامن مع الحرب على غزة، شهرها التاسع، إلا أن ذلك لم يكن مانعًا من أن يكون موسم الاصطياف واعدًا في عدد من البلدات ومن بينها البعيدة عن القصف. يحيلنا المشهد المذكور إلى أن نستبدل المثل القائل "صيف وشتا تحت سقف واحد"، إلى حرب وسلم تحت سماء واحدة ومساحة صغيرة هي لبنان، إلا أن البلدات البعيدة عن الحرب ليست وحدها من كانت تحيي حفلات الصيف، بل إن مدينة بيروت التي لا تبعد عن الضاحية الجنوبية المستهدفة بعدوان كانت إسرائيل تعدّ له العدّة، سوى كيلومترات قليلة، والحفلات فيها قائمة على قدم وساق. لقد سبق للفنان عمرو دياب أن نظّم حفلة في منتصف شهر تموز/ يوليو، في قطعة الأرض المحاذية للكورنيش، نفدت كل البطاقات رغم أسعارها المرتفعة، وها هي الشركة المنظمة لحفل الفنان السوري عبد الرحمن فواز الملقب بـ"الشامي"، وفي نفس المكان تضع اللمسات الأخيرة لحفل سيقام بعد ساعات، وكل التحضيرات يشاهدها رواد الكورنيش، رافعات، منصات تنبعث منها ألوان بعيدة المدى صوب البحر والسماء وعلى العمارات المواجهة التي تتلون بألوانها، كابلات، بروفات.
العنف يعلو ثم يخفت، في آراء رواد الكورنيش حيال الأوضاع السياسية والأمنية، منها ما يتسرّب إلى الآذان عن انتخاب رئيس جمهورية للبنان "يا خيي من هلق لـ الله يفرجها، رئيس جمهورية ما في، ناطرين التعليمات من برا"، يرد آخر "إي دخلك لشو، هيانا عايشين وماشي حالنا". ثلاثة شبان وضع كل منهم أرغيلة أمامه مع مشروب الطاقة: "مبارح المقاومة قصفت كريات شمونة، أي وحياتك صارت كريات مشوية"، أحدهم يقول: "بتعرف بيتنا بالجنوب صمد كل هالحروب وما صابوا ولا رصاصة، مبارح تساوى بالأرض". امرأة تقول لصديقتها: "بتعرفي، ما عدت قادرة شوف ولا مشهد عن غزة، بس يحطو أي صورة بشيلها دغري"، "الله أكبر، على كل من طغى وتجبّر".
فجأة ثمة ما يؤشر إلى حدث ما، في المشهد رواد كثر بدأوا يقلبون في هواتفهم، صبية تركض باتجاه أصدقائها وتصرخ "ضربوا الضاحية، ضربوا، الضاحية"؛ أقترب وأستفسر منها عن المكان الذي قصف؟ ترد: "مستشفى بهمن"، وما هي إلا دقائق حتى بدأ الكورنيش يخلو من الرواد.
نحب الحياة ونلعنها
فجر 31 تموز/ يوليو، استفاق العالم على صور فؤاد شكر وإسماعيل هنيّة اللذين اغتالتهما إسرائيل مع عدد من المدنيين تملأ الشاشات، وبين الصورة والأخرى تظهر مقاطع من حفل الشامي الذي عرفنا أنه لم يلغ، بل أنه كان "مفوّل" و"شهد محاولات عدة لاقتحام المسرح من قبل الجمهور"، وردّد الآلاف مع المطرب أغنيتيه الأكثر شهرة "يا ليل ويا لعين" و"سميتك سما". ثمة انتقادات نقرأها لعدم إلغاء الحفل الذي أقيم بعد ساعات قليلة من انفجار الضاحية، "شعب مفصوم"، بالمقابل كان مؤيدون يرفقون كلامهم بالجملة الشائعة التي بات لبنانيون كثر يردّدونها عقب كل حادثة مماثلة "شو بدك، اللبناني بحب الحياة"!
"شعب يحبّ الحياة"، قول كهذا في الظروف التي نعيشها يبدو أقرب إلى الاستهلاك من الواقع، فالعنف يقيم فينا، يحاصرنا في معظم نواحي حياتنا، في حواراتنا، في قيادتنا لسياراتنا، في حكمنا على بعضنا البعض، تحاصرنا الانهيارات الاقتصادية، والانقسامات على أصغر المسائل وأكبرها، بل إن أي اختلاف في الرأي يجعل من الآخر عدوًا ومستبعدًا. الانتخابات، الحرب، ملف النفايات، المساحات العامة، الزواج المدني، الحريات العامة، الحجاب، المقاومة، المصارف، المثلية الجنسية... إلخ، مساحاتنا العامة اليتيمة التي قاتلنا طويلًا من أجل أن تتاح لنا، نرمي فيها نفاياتنا، نخرّبها ونحرق أشجارها، نلوّث الهواء والبحر، ثم نحب الحياة، ونكره الحروب، ونعود لنتحارب من جديد.
"ونحن نحب الحياة اذا ما استطعنا إليها سبيلًا"، قول كهذا للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش دفعني وأنا أسير على الكورنيش إلى أن أفتش عن هذا السبيل علّني أجد منفذًا إليه في ظل ما نعيشه من أوضاع سوداوية، ضبابية، شائكة، وضاغطة، إلا أن خرقًا لجدار الصوت يذكّرني بواقع يكاد أن يصبح ثابتًا في حياتنا نحن اللبنانيين، أن هناك حربًا جديدة تدمّر اليوم قرانا ومدننا وتقتل أهلنا وتهجّرهم. هكذا ربما نحب الحياة وربما نلعنها، إلا أننا اليوم ننتظر خلاصنا.