}

"القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربي"(1 -2):الرجل والمرأة

 

المرأة والرجل

 

أطلق الغربيون كلمة "سكس" – Sex – على الخصائص التي تميّز كلًّا من الذكر والأنثى في الأعضاء والوظائف والوجهات النفسية، وهذه كلمة مشتقة من فعل (سكار) اللاتيني غالبًا ومعناه "قطع" إشارةً إلى أن المرأة مقطوعة من ضلع الرجل. وهم يعالجون قضايا الرجل والمرأة تحت عنوانها وقد أحسنوا في ذلك لأنها تُشير إلى الجنسين في آن واحد. وخير كلمة تترجم بها إلى العربية كلمة "شق" ومعناها في معاجم اللغة "الجانب الواحد من الإنسان" ومنها الشقيق بمعنى الأخ كأنهُ شق نسبه أو جسمِه من أخيهِ. وذهب بعض الفضلاء إلى أن الكلمة الإفرنجية مأخوذة من العربية لفظًا ومعنىً. وفي وسعنا أن نفسّر "الشق" أو الخصائص التي تميّز الذكورة والأنوثة من وجهة علم الحياة بقولنا أن التلقيح – أي اتحاد بيضتي فردين مختلفين ذكر وأنثى – هو عمل كبير الشأن في تخليد معظم الأحياء لا جرم أن يكون تمسّك الطبيعة بهِ هو السبب الذي أدى إلى التفريق بين الذكر والأنثى والاحتفاظ بميزات كل منهما وفقًا لما تتطلّبهُ الحياة من البقاء أو الاستمرار. والتلقيح هو الطريقة التي يتم بها التوالد في الحيوانات إجمالًا فتكون أعضاء التناسل إما في حيوان واحد كما هو الحال في بعض الديدان أو تكون في حيوانين مختلفين من ذكر وأنثى كما هو الحال في معظم الحيوانات العليا، وطريقة التلقيح هذه تُدعى في كتب الحياة "الطريقة الشقية" في حين تتوالد معظم الحيوانات الدنيا كذات الخلية الواحدة بطريقة غير شقية ليس فيها ذكر ولا أنثى بل بمجرد انقسام الحيوان الواحد إلى نصفين مثلًا بحيث يصبح كلٌّ منهما فردًا مستقلًّا.

ولم ينل موضوع الشق في البشر حقه من العناية إلّا في أبحاث المتأخرين؛ لأن المتقدمين وجَّهوا جل عنايتهم للرجل وجعلوا المرأة ذيلًا  له، وقد تساوى في هذا الإهمال أهل الشرق والغرب معًا وربما كان الشرقيون (على خلاف الشائع) أقرب إلى الإنصاف، إلّا أن هذا الإفراط في شأن الرجل أخذ يعقبه تفريط إلى درجة بعيدة، حتى أن بعض علماء الحياة ممن عالجوا قضية التلقيح الاصطناعي في كثير من الحيوانات قال إن الذكر من الوجهة الفنية يكاد يكون فضلة يجوز الاستغناء عنها. بيد أننا إذا تركنا التطرف جانبًا فلم نقع في إهمال المتقدمين ولا حفلنا بسفسطة الحيويين المتأخرين ونظرنا إلى الذكر والأنثى جزئين يتمم الواحد منهما الآخر – وهذا هو المعنى المقصود من كلمة الشق – كانت معالجتنا لهذا الموضوع الاجتماعي الخطير متمشية مع العلم الصحيح وبعيدةً عن الأغراض والانفعالات. وتزداد حاجتنا إلى الاسترشاد بنور العلم بسبب ما ابتلينا بهِ من طغمات المتعصبين ممن استمرأوا الحملة على الشرق وعاداته في الزواج فأدخلوا في الأذهان بعض الآراء العتيقة العنيفة التي تحول دون تفهم الحقيقة مع أن هذا الشرق النابه هو أحوج البلدان في نهضتهِ الحاضرة إلى بناء إصلاحه على الأسس الثابتة التي لا دخل للأوهام فيها.

تعقد الموضوع وصعوبة الحل

ولا أدلّ على خطأ المتسرّعين في وضع القواعد العامة من النظر الى الموقف الحاضر في أمر الزواج وبناء الأسرة وتشعب الآراء والتطبيقات فيها. فقد أخذت ورقًا وقلمًا وجهزت قوائم متعددة بعضها بأسماء أهلي وأصحابي وجيراني وهم ممن عرفتهم من المسلمين وبعضها الآخر بأمثالهم من المسيحيين واليهود وغيرهم من أهل الأديان الأخرى. ووضعت بجانب كل اسم ما يدل على سعادة زواج صاحبه أو شقائِه وهل الطلاق يحلُ الإشكال أو يزيد في الارتباك وغير ذلك من الملاحظات ومنها ما يتعلق بالضر والتسري والمتعة واتخاذ الخلائل على الطريقة الأوربية فلم تكن النتيجة بجانب قائمة من تلك القوائم إجمالًا، حتى أن الاستشهاد ببعض الأساتذة من المبشرين ممن ملأوا الدنيا تشهيرًا بوضع الزواج في الشرق لا يغير النتيجة كثيرًا.

وإلى القارئ بعض الأمثلة التي أخذتها لأنني عرفتها بنفسي أو سعيت في إصلاحها: فقد حدث أن كاتبًا في محلٍّ تجاري معروفٍ في البرازيل استولى على قلب إبنة صاحب هذا المحل وهي فتاة أديبة سليمة في نحو العشرين من العمر فما زال يستهويها بالزخارف ويستميلها بالتزويق حتى قبلتهُ بعلًا لها فكان الزفاف وكان شهر العسل ثم كانت العودة بالعروس إلى الوطن ومعها البائنة التي تزوج بها من أجلها فلم صار في بلده وبين أهله قلب لها ظهر المجن وحوّل الزخارف إلى مكاره والتزويق إلى منغصات، مما انتهى بفرار العروس إلى خارج  القطر السوري وهي من زينتها وحليّها بجلدها فقط وها هي اليوم تحرق الأرَّم على ما فرط منها وتطلب الخلاص ولا خلاص.

أما الحوادث التي تكون فيها المرأة هي المزخرفة والمزوقة على عكس المثال المتقدم إلى أن يتم العرس وينتهي شهر العسل قبل أن تُكشر عن نابها فأكثر من أن تحصى. وإحصاء سطحي في الحيّ وبين الأهل والعشيرة فيه المقنع الكافي. ولا شك في أن مثل هذا الزواج المتنافر حمل طائفة كبيرة من الدول المسيحية حتى العريقة في البروتستنتية منها كالدولة الأميركية على إباحة الطلاق والخروج عن قاعدة "فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان".

أما المثال الآتي فيتطلب خطة غير الخطة المتقدمة. فقد حدث أن سيدة تزوَّجت برجل طاعن في السن فأقام معها على أتم وفاق عشرين سنة كاملة كانت له في خلالها حارسًا أمينًا وقرينًا صادقًا إلى أن أقعدته الشيخوخة وأضعفت مداركه الأيام فطمع أهله في اقصائها عنه ليستقلوا بثروته دونها فما كان من بناته من زوجته السابقة وأولادهن إلّا أن تألّبوا عليه فقعدوا حوله مجلسًا مصطنعًا من موظفين شرعيين وعلى رأسهم مفتي الديار الشامية. وهنالك بشيء من الاستفزاز والإغواء حملوه على طلاقها، فلا الزوج المقعد المسكين كان راضيًا بهذا الفراق وهو في شيخوخته ولا الزوجة التي كانت في زيارة أهلها حيث فوجئت في مساء العيد بهذا النبأ المجرم. وغني عن البيان أنه لولا سهولة الطلاق ما حدث مثل هذا الفعل المنكر. وأعرف رجلًا من بيت مشهور في مدينة سورية كبيرة وهو الآن في نحو العقد السادس من العمر قد تزوج بأكثر من خمسين امرأة ثيبات وأبكارًا؛ فكانت عادته أن يبث العيون والأرصاد لاستكشاف زوجةً من البيوت المتوسطة أو الفقيرة ليصرف معها ردحًا من الزمن، فإذا قضى منها لبانته طلقها ونقدها متأخرها بعد ما نقدها الصداق المقدم المتفق عليه. وقد قصّ عليّ كيف كان يحصل على التقارير التي تهمه في هذا الشأن فإنهُ كان يستأجر نساء اخصائيات في فحص الأبدن كما يفحص القصَّاب الغنم السمينة فينتشرون في الأحياء ويدخلن البيوت خاطبات حتى إذا رأين من أعجبتهن بهيئتها وطولها وعرضها قمن إليها فكشفن عن عنقها وصدرها وساقها إلى أخمص قدمها ثم رفعن إليه التقرير عنها شفهيًّا فإذا صادفت هذه الصورة هوى من نفسه عقد وبنى ثم طلّق ليعقد من جديد من غير توانٍ كأنه آلة ميكانيكية.

ومما هو جدير بالالتفات أن تلك المدينة وقد أظهرت عناية كبيرة بالشؤون الدينية وأقامت الأرض واقعدتها لكل حادثة لم تطمئن إليها نفسها لم نسمع لها صوتًا واحدًا بالاحتجاج على هذا الانحراف مما يدل على أن الذين يعنون بالشؤون الشرعية في تلك الأصقاع لم يجدوا شيئًا من الشذوذ في عمل هذا الرجل المطلاق "المزواج" الذي سخّر بنات الناس لإرادته واستثمر ماله فيهن بربًا فاحش جدًّا.

إن مثل هذه الحوادث التي تتكرر بين سمعنا وبصرنا كل يوم تتطلب من المصلح الاجتماعي أن يعالج هذا الموضوع الخطير بالروح العلمية النزيهة خصوصًا من بعد ما انتشرت الآراء الشيوعية المتطرفة وأصبحت بعض البلدان كبلدان الاتحاد السوفيتي الروسية شبيهة بالإباحية لولا بقية عادات دينية وتقاليد متوارثة لا تزال تجاهد جهاد الجبابرة في الدفاع عن الأسرة المهدّدة.

 

الروابط الاجتماعية الأولى في الأعصر الخالية

نريد بالأعصر الخالية تلك الأيام السحيقة التي سبقت عصر التاريخ إذ كان الإنسان على حالة من الهمجية هي أقرب إلى حالة القردة منها إلى حالة البشر. وقد اختلفت أنظار الباحثين على البواعث التي أدّت بالأفراد إلى اجتماعهم عُصَبًا كطوائف القردة تجوب الغابات وكيف تحوَّلت هذه العصب بالتدريج حتى صارت جماهير منظّمة. ولكن هناك شبه اتفاق على أن من أوائل هذه البواعث وأهمها الباعث الشقي الطبيعي بين الذكر والأنثى ولذة المصاحبة الناشئة عنهُ ثم ما يحدث بسبب الاقتران فالحمل فالولادة من التآلف بين الأم وأولادها وما يتخلل ذلك من حنان وعطف وتعاون. لا جرم أن تكون الأسس "العائلية" والحالة هذه سبب الاجتماع الابتدائي الذي تحوَّل فصار اجتماعًا عتريًّا – نسبة إلى عترة الرجل وهي ولد الرجل وذرّيته – ثم قبليًّا وانتهى بشكله المدني الحاضر وحمل كثيرًا من الكتّاب المتقدمين أمثال إبن خلدون على القول أن الإنسان مدنيٌّ بالطبع.

 

الأسرة الأولى باعتبارها وحدة اجتماعية

مهما تغيّر التنظيم الاجتماعي وتبدّل بناؤه فالأسرة لا تزال وحدة ثابتة حتى في البلاد المهددة بالبلشفة، وهي أصغر انضمام اجتماعي وأقواه وقد بقيت إلى أجل قريب مصدر الثروة في المجتمع وأداة توزيعها واستهلاكها. ونحن في الأسرة كما قال "الموجز في علم الاجتماع" نتعلم أبلغ الدروس الاجتماعية العملية فنمارس فيها حقوقنا الشخصية وننشأ على قاعدة التملك التي تحاربها الاشتراكية المتطرفة ونتعلم كبح جماح النفس وحسن السلوك والانقياد والخدمة والمعروف والواجبات المتبادلة. وفي الأسرة نرى بوادر الدين والأخلاق والتهذيب وكل منا مطبوع بطابعها الدائم.

ولئن كان من المستحيل تعيين شكل الأسرة الأولى بالنص، وذلك لأن التنظيم "العائلي" أمر سابق للتاريخ فليس من المستحيل الوصول إلى هذا الشكل بالظن والتخمين والقياس. وعلينا بادئ ذي بدءٍ أن نذكر في تعليل وظيفة الأسرة، الأساس الآتي دائمًا وهو أن تعاون الوالدين على تربية الأولاد أمرٌ ذو قيمة حيوية كبرى في بقاء الجنس. وهذا وحده كاف من الوجهة الطبيعية للاحتفاظ بهذا التعاون وعض النواجذ عليهِ لأن الطبيعة حريصة على كل ما من شأنه بقاء الأحياء.


إماطة اللثام عن الأسرة الأولى

يرجع الفضل الأكبر إلى مباحث العلاَّمة جي.جي اتكنسن في إماطة اللثام عن حالة الأسرة الأولى وذلك فيما كتبه بعنوان "الأصول الاجتماعية والسنّة الأولى" وتعدُّ آراؤه في المقام الأول وإن دخل عليها شيءٌ من التعديل لم يغيّر جوهرها.

وقد بدأ اتكنسن أساس نظريته بما هو معروف في المجتمع الإنساني عامة من تحريم الزواج بين المحارم كالأخ والأخت أولًا ثم بما هو منتشر من عادة خطف النساء ثانيًا وهي عادة لا تزال آثارها ماثلة في كثير من المجتمعات البشرية، فقال أن العصبة الاجتماعية الأولى كانت شبيهةً بالسرب الاجتماعي عند القردة في الحاضر – يعني أن تلك العصبة كانت كناية عن عترة يقودها ذكر كبير. وكان هذا القائد يطارد جميع الذكور ممن يبلغون سن الإدراك في العترة لما يشعر بهِ من مزاحمتهم له ولكنهُ كان يحتفظ بمعظم الإناث ويستولدهن. ولا يمنع هذا الحال اثنين أو ثلاثة ممن طردوا أن يجوبوا الأصقاع متحدين بل أن يصيدوا امرأة قد شردت من عترتها. ومثل هذه الشرذمة المطرودة التي لا قائد لها كثيرة الوقوع في أصناف القردة ولكنها نادرة في العترة البشرية. وتكون الغيرة الملتهبة في الذكر على إناثه والمكان الذي يعيش فيهِ سببًا كفيلًا بتثبيت الشكل الذي تُبنى عليهِ هذه العصبة الاجتماعية الابتدائية وإن شئت هذه الأسرة الأولى وبإعادة تنظيمها كلما طرأ عليها خلل، وهذا النوع من التجمع والانضمام عمل يصلح للمعيشة في الغابات حيث الطعام مبعثر ولا يكفي غير القليل من الأفراد. ولا عجب أن يستمر هذا النوع من الانضمام الاجتماعي الشكل النموذجي لقردة الغابات وإن انتظم البغام وهو الشمبانزي في بعض الأحيان بشكل أجواق أوسع من ذلك.

ولما كان الإنسان الأولّ في تركيبه أقل صلاحًا للمعيشة في الغابات وأكثر ميلًا للأطعمة اللحمية وأكثر تكيّفًا للمعيشة في الأصقاع الصخرية التي تنبت فيها الحشائش والأعشاب وحيث تكون الفواكه والجذور أقل من الفريسة تصطادها الجماعة بالتعاون فهو يستفيد من كل تكيّف عقلي أو مزاجي يأذن للأسر الأولى بالنمو والانضمام بشكل وحدات اجتماعية أكبر. وقد صار هذا التكيف ممكنًا بسبب التفاعل المتولد من بعض الميول الطبيعية الموجودة بين النساء والأحداث من الذكور.

وقصارى القول أن الأمهات مثل معظم ذوات الثدي تميل إلى حضانة الذكر من نسلها ومراعاته كما تميل إلى حضانة الأنثى ومراعاتها. إلّا أن الذكر البالغ يكون في فصل الولادة – وجميع فصول السنة هي فصول الولادة في الحيوانات الصدور – قليل التسامح مع من يزاحمهُ من الذكور وميّالًا إلى الشدة. ولكي يحفظ الأمهات أبناءهن عندهن فهن مضطرات إلى إدخال الرهبة في قلب الصغير منهم من الكبير خصوصًا من الشيخ الزعيم في العترة وإلى تحذير هذا الصغير من التجاوز عن حقوقهِ وإثارة الغيرة في نفسه، وبالأمثلة الحسية والأوامر والنواهي الابتدائية اتخذت الرهبة الطبيعية في قلب الصغير من قوة والده والخوف من غضبهِ شكلًا محدّدًا واتجاهًا معيّنًا، فقد نشأ الصغار على اعتبار ما يمتلكه هذا الشيخ ولا سيما النساء في العترة من المحرمات عليهم وأنهم لا يجوز لهم مباشرة بعض الأعمال في حضرته أو بالقرب منه. وكان الخوف من الشيخ الكبير "رأس الحكمة". واستمرت هذه الميول الصبيانية الطبيعية في كثير منهم إلى سن المراهقة وما بعده فكان الأحداث من الرجال يذعنون للشيوخ وهكذا تعلم الرجال مبادئ كبح جماح النفس وتولدت في المجتمع الخالي فكرة الخطايا ولا سيما خطيئة التزوج بالمحارم. ومن هنا نشأت تلك المشاعر المخنوقة والمستورة بالضغط التي اتخذها علماء النفس أخيرًا بإرشاد البحّاثة النمسوي سيجموند فرويد أساسًا لنظرية التحليل النفسي وخلاصتها أن الأمراض العصبية المبنية على الخلل في الوظيفة تنشأ عن صدمةٍ شقية في الجهاز التناسلي في غضون الطفولة، ويستطيع الأخصائي بواسطة ما كشفتهُ هذه النظرية من الحقائق أن يحلّل البواعث الخفية والمشاعر المخنوقة التي تسيّر الناس وتتحكم في مجموعتهم العصبية من غير أن يشعروا بها وهذا هو "الوعي المستتر" أو "العقل الباطن".


لوحة للفنان العراقي ضياء العزاوي


والمجتمع مدين في وجوده إلى هذا الكبح لجماح النفس الذي ذكرنا منشأة ومن المتعذر أن نرى إمكان حدوثه بطريق آخر. ونحن لا نعرف حيوانًا من الحيوانات يبدي أقل تردد أو اعتراض على الاقتران بالمحارم. وأما كون هذا الاعتراض عملًا تقليديًّا متوارثًا لا عملًا غريزيًّا، فظاهر، كما قال أصحاب كتاب "علم الحياة" الذين اعتمدنا عليهم في نقل هذه الخلاصة من سجلات أية محكمة جنائية في الأرياف. وثمة بعض الاجتماعيين المشهورين أمثال الدكتور هوبهوس  ممن يخالفون هذا الرأي ويذهبون إلى أن الامتناع عن المحارم هو إمتناع غريزي ولكن جميع الدلائل المستقاة من الحقائق الثابتة تدل على أن العادة الموضوعة هي السبب المانع من هذا الاتصال.

وهنا نبلغ الخطوة الثانية من تاريخ الأوضاع الإنسانية الأساسية. فالشاب وقد نمت قوته ونشطت رغبته يرود حدود المنطقة التي تعيش فيها أسرته أو عترته وهو متململ ساخط فيرى أن هناك نساءً أخرى في العالم غير نساء الشيخ الزعيم وهن لا ينالهن التحريم المذكور فيجري في أثر واحدة منهن ويدركها كلما سنحت له الفرصة.

ولنا أن نقول عن هذه المرأة أنها لو كانت شاردةً أو فَضْلةً زائدة في سرب "عائلي" آخر أو كانت امرأة في عترةِ زعيمها ذبح أو أقعده المرض لكان خروجها أيضًا من باب البحث عن الشاب الشارد. ثم إذا فرضنا أن من عادة الشيوخ المتقدمين في السن أن يفتكوا بالأحداث من الذكور لازدادت ارجحية هذه الفضلة الزائدة من النساء. وقد لاحظ ولز وإخوانه أن اتكنسن كتب هذه الآراء الاستنتاجية منذ نحو ربع قرن فلا غروَ أنهُ مثَّل الذكر في حالة الهجوم القاهر على المرأة الشاردة دائمًا والعمل على اختطافها لأن ستارًا من الحياء كان يومئذٍ مسدولًا عند الكتّاب على رغائب المرأة الغريزية ومشروعاتها الطبيعية. لذلك قد لا تكون ثمّة حاجة إلى الهجوم إذ يأتي الشاب بالمرأة الغريبة إلى بيته في العشيرة أو في أطرافها أو ربما جاءت هي معه امرأة له باختيارها من غير ارغام. وقد تضله في بعض الأحيان الطريق فلا تزال تلهيه حتى توصله إلى منازل أهلها – إلى حي الرجل الشيخ الذي كانت في حوزته. فلو كانت هي الغريبة وقد قدمت معه إلى أهله فمن الطبيعي أن تعلق عليه أملها وتجعله معتمدها فتكون والحالة هذه قد اختارته برضائها فلا تسلم نفسها للشيخ الزعيم. أما النساء الأخرى [الأخريات] في العترة فلا يردنها ضرّةً لهن ولا مزاحمة، بل يلتزمن جانب الشاب في مقاومة كل تدخل من قبل هذا الشيخ في شأن هذا الكسب اللطيف الذي انضم إلى العشيرة. وكنَّ حريصات على إقامة حدّ من التحريم بينها وبينهُ. أما إذا انتقل الشاب إلى أهل الشاردة فإقامة حدود من التحريم مقابلة لهذه الحدود تصبح ضرورية.


المحارم بين الانسان والحيوان

هذه خلاصة النظرية التي قالّ بها اتكنسن عن الزواج الخالي وهي نتيجة تفكير عميق من جهة وتطابق للوقائع في الحيوانات العليا وللعادات الإنسانية المتعلقة بالمحارم من جهة أخرى. وهي عادات لا توجد نظرية تفسرها خير من هذه النظرية. وفي وسعنا أن نتصور تكرار هذا الشكل من الزواج كما قال أصحاب "علم الحياة" ملايين ملايين المرات في غضون عشرات الألوف من السنين الى أن استقرت عادة "الزواج الخارجي" (exogamy) على مهل وتولدت معها فكرة المحارم في الزواج بين الحماة وصهرها وبين الكنَّة وحميها – وهذا التحريم فذ في علم الحياة خاص بالإنسان وعام في مجتمعه، لأن سائر الحيوانات تتزاوج من غير أن تقيم حدًّا من حدود المحارم.

لكن هذا الإطلاق عن منع زواج المحرم يحتاج إلى شيءٍ من الإيضاح لأن الناس في القرون الأولى لم يكونوا يأنفون من التزوج بالمحارم من الأقارب اللجّ كما نأنف نحنُ وخصوصًا ملوكهم، فإننا نرى في تاريخ البطالسة في مصر مثلًا أن الواحد منهم كان يتزوج أخته، وفي تاريخ الفراعنة أن رعمسيس الثاني  فعل ما فعله قورش ملك الفرس فتزوج اثنتين من بناته وأما ساماتيخوس الأول فتزوج ابنة واحدة فقط وذكر وسترمارك عن بعض السياح أن ملوك ألانكا في بلاد البيرو في أميركا الجنوبية استنوا سُّنة واجبة الاتباع وهي أن وليّ العهد في المملكة مرغمٌ على التزوج بشقيقته الكبرى. والظاهر أن هذا العمل كان خاصًّا بالملوك. وجاء في التوراة أن إبراهيم تزوج ساره أخته لأبيه وفي الأصحاح الثالث عشر من صموئيل الثاني أن أمنون راود أخته ثامار عن نفسها فقالت له "لا يا أخي لا تذلني" ومما يدل على أن الملوك كانوا يبيحون هذا الطلب قولها فيما بعد "والآن كلّم الملك لأنهُ لا يمنعني منك".

وذكر مالو في كتابه "آثار جزيرة هاواي" في المحيط الهادئ أن خير خليلة لأكبر أمير هي أخته الشقيقة. وكان مثل هذ الزواج يدعى بيو أي قوسًا للدلالة على الانحناء والتقاء الطرفين فإذا ما أثمر ثمرة من الأبناء الصالحين دعي الولد "نيناوبيو" أي أميرًا من الطبقة الأولى ويبلغ من التقديس أن كل من دخل عليهِ سجد له تعظيمًا وإجلالًا.

وأباحت الشريعة لليهودي أن يتزوج ابنة أخته وابنة أخيه ولكنها لم تبح للعمّة أن تتزوج ابن أخيها ولا للخالة ابن اختها على أن الشريعة في جرمانيا وفي ولاية نيويورك إباحتهما كليهما. وفيما عدا زواج الخال بابنة أخته والعم بابنة أخيه عند اليهود (وهم يتشاءمون منهُ في الشرق) ومسألة الرضاع عند المسلمين فالاختلاف بينهما بسيط. وهذا نص المحارم في الإسلام: ﴿ولاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 22]. ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء:23] ".

ويدل القسم الأول من هذا النص على تلك العادة المنكرة التي كانت منتشرة في الجاهلية من إباحة تزوج الرجل بامرأة أبيه لأنها حسبت من جملة مخلفاته إلى أن أبطلها الإسلام ودعاها بحق فحشًا ومقتًا. ومن أغرب ما ذكر عن الحلائل وزواجهن قول وسترمارك عن الفلاحين الروسيين أن الوالد منهم وهو حريص جدًّا على تزويج إبنه صغيرًا كي يستعين بامرأة أخرى تساعده في زراعتهِ يضطجع معها أي مع الكِنَّة إلى أن يبلغ ابنه وهو زوجها الشرعي سن الرشد، وإن هذا النوع من الزواج المشترك إلى حين بين الوالد وولده لا يزال معمولًا بهِ في سيبيريا.

ذكرنا المحارم في الإسلام وهي بالإجمال محارم العرب في الجاهلية إلّا مسألة امرأة الأب التي أشار إليها الكتاب العزيز، ولا حاجة بنا بعد الاختبارات المستقاة من علم الحياة إلى القول أن الاقتصار في الزواج على الحلقات الأهلية القريبة يؤول بالنسل إلى الانحلال وهذا هو تعليل قضية المحارم من الوجهة الحيوية إجمالًا. فمثل هذه الاختبارات القيمة عرفها الزراع أيضًا إذ لاحظوا الأضرار البليغة التي تصيب بيادرهم من الاقتصار في انتخاب التقاوي على المحصولات الموضعية.

هذه هي خلاصة الرأي الشائع عند علماء الحياة والاجتماع في أصل الأسرة الأولى ونظريتهم في المحارم وخطف النساء فإذا ما تذكرناها ونزعنا من أنفسنا الأوهام العالقة بها عن الزواج في سن الصغر ومن روايات العجائز وعنعنات المقلدين وخصوصًا بعض الغربيين الذين جعلوا دأبهم الطعن في الشرق وأوضاعه كان في طاقتنا أن تعالج في المقال الآتي الطلاق والزواج وحرمة الأسرة والدواعي التي تهدد روابطها بالانحلال وغير ذلك بالروح العلمية اللائقة.

على أن تسرب الأخبار الكاذبة بواسطة السياح المصدقين والملفقين إلى أوربا لم يخل من تأثير قبيح الطبع حتى في أبعد العلماء عن التعصب الديني كما حدث لرودلف بايندر مثلًا وهو أستاذ الاجتماع في أكبر معهد علمي في نيويورك فقد ذكر في كتابه "القضايا الاجتماعية الكبرى" أن العرب والبربر في شمال إفريقيا "يقرون الضيف بتقديمهم نساءهم وبناتهم للاضطجاع معه وأن من عادة (عرب الحسنية) أن يزوجوا المرأة من نسائهم لمدة أربعة أيام في الأسبوع وأن يتركوا لها الحبل على الغارب في الأيام الثلاثة الباقية". ولا يجوز لمثل هذه السخافات أن تبقى في كتب العلم، والتحقيق في أمرها لا يحتاج الى أكثر من زيارة لمضارب البدو على بعد كيلومترات من حواضر الشام والعراق يزورها الكاتب فيرى بعينيه قيمة العِرض في نظر العرب والفرق في ذلك بينهم وبين الإفرنج.



*استعادة من كتاب "القضايا الاجتماعية الكبرى"لعبد الرحمن الشهبندر (دمشق 1882 - 1940)، صدر في طبعته الأولىعن مجلة المقتطف عام 1936 سيصدر، حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، في اطار سلسلة "طي الذاكرة".

للمزيد عن الشهبندر:

http://www.marefa.org/%D8%B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%85%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%87%D8%A8%D9%86%D8%AF%D8%B1

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.