}

شكيب الجابري.. رائد الرواية الفنية الأولى في سورية

فيصل خرتش 16 نوفمبر 2019
استعادات شكيب الجابري.. رائد الرواية الفنية الأولى في سورية
شكيب الجابري
شكيب الجابري هو روائي ومهندس في الكيمياء والمعادن، ودكتور في العلوم الفيزيائية، وفي التنقيب عن المعادن، وُلِدَ في حلب عام 1922، وتوفي في البقيع عام 1992. أرسله والده إلى بيروت للدراسة في الجامعة الوطنية في عالية، ثم سافر إلى جنيف لإكمال دراسته، وهناك حصل على دبلوم مهندس كيمياء من جامعتها، كما حصل على دكتوراة في العلوم الفيزيائية، وحصل على شهادة للتنقيب عن المعادن.
كان رئيساً لاتحاد الطلاب العرب، وخطيب مؤتمر الشباب العربي. شارك في المظاهرات ضد الفرنسيين، وفي إحدى السنوات عاد إلى سورية لقضاء العطلة الصيفية، ورأى البلد وما آلت إليه، فشارك في المظاهرات التي اندلعت في حلب، فأصيب في رأسه وذراعه، وقبض عليه، وتعرض للسجن أكثر من مرّة، ونفي إلى خارج الوطن، ثم أفرج عنه على أن يغادر البلاد. توظف في جنيف، فعُيّن هناك سكرتيراً في عصبة الأمم، ثم وزيراً مفوضاً لسورية في إيران وبلاد الأفغان. وحين عاد إلى سورية، أصبح مديراً للمعادن، ومراقباً للشركات الأجنبية، فمديراً لمعمل الزجاج في دمشق. بعدها، ترك الوظيفة ليتفرّغ لمهنة الأدب، متنقلاً بين دمشق، وحلب، وبيروت، وأوروبا.
خبر الجابري الحياة بكلّ أبعادها، فهو يتقن اللغات الألمانية، والفرنسية، ويلمّ بالإنكليزية. عاش في الغربة والوطن حياة حافلة تستدعيه أن يكتب روايات عنها، فكتب رواية "نهم"، وهي البداية الفنية شبه المكتملة للرواية السورية. كان هاجسه الأوّل الصدام بين الشرق والغرب، كعادة الأوائل الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، فصوّروا حضارة الغرب على أنها مادية أمام حضارة الشرق على أنها روحانية، فالغرب مادي، كلّه نساء وسهر، وهذا القادم من الشرق بطهرانيته ينغمس في مادية هذا الغرب، فهو جائع إلى النساء والخمر، لا يشبع منهما، ثم يصحو على رسالة تأتيه من الوطن، فيعود إليه ليجد الأب وهو يحتضر، ويبلغه بأنه الوريث الوحيد لكلّ أمواله وأعماله، فيعود إلى أوروبا ويصفي أعماله فيها، من نساء ودراسة. هذه الحكايات شغلت المحور الفكري لدى شكيب الجابري، لكن بدرجات متفاوتة، فرواية "نهم" تتحدث عن رجل من أصول شركسية، وسيم ومغامر، ينتقل عبر أوروبا، معروف بحبّه للنساء، فهو يطاردهن من مكان إلى مكان، بما أنعم الله عليه من مال ووسامة وقوة. تنتهي الرواية بأن يلتحق هذا الرجل بالثوار الإسبان الذين يقومون بالثورة على الجنرال فرانكو، حينذاك يعلق بحبّ واحدة إسبانية، وحين تسأله "وهل تحبّ النساء كثيراً؟" فيجيبها متلعثماً، لا أعلم، ثم يتمتم بلغته الأم: "رباه لماذا خلقت في عروقنا هذه الجذوة تشتعل فينا حتى آخر نسمة في دمنا". فهل لهذا علاقة بموقف الكاتب ذي الأصول الشرقية، وأن الشخصية الرئيسية، رغم أنه شركسي، تمثل جذور الكاتب بشرقيته وحبّه للنساء.
في رواية "قوس قزح"، التي صدرت في عام 1942، نجدها قائمة على الرسائل، وهي طريقة جديدة على الرواية العربية في تلك الأيام. إنها قصة حبّ بين طالب عربي يدرس في ألمانيا، وشابة ألمانية، وعلى الطريقة ذاتها، يعود الطالب إلى وطنه، وفي إحدى المرات يذهب إلى بيروت للعمل، ثم وفي وقت استراحته، يلجأ إلى ملهى، وهناك يجد الفتاة الألمانية تعمل كراقصة، يتعرّف عليها، ويعرف أنها جاءت إلى هنا خلفه، وأنها أنجبت ولداً أسمته محمّداً علي، وأخيراً تموت الراقصة بمرض السل، رغم أنه حاول المستحيل لإنقاذها...
الرواية هي خلط بين روايتين، وتنتهي الأولى، أي "قوس قزح"، حين يعود الطالب إلى وطنه، لتبدأ الثانية "قدر يلهو" حين يذهب إلى بيروت ويتعرّف إلى الراقصة.
في روايته "وداعاً يا أفاميا"، نجد شكيب الجابري قد تطور كثيراً من حيث المتانة والقوّة والجرس الموسيقي بين الجمل وفخامة التعبير، إننا أمام نصّ يدلّ على ثقافة عربية عميقة يتبدّى كلّ ذلك من خلال بعثة أوروبية تتواجد في أفاميا في شمال سورية، وتعمل معهم جود، الفتاة البدوية، التي يصف جمالها شكلاً ومضموناً. إننا أمام فتاة تبارك الخلاق عندما أعطاها هذا الحسن وهذه البراءة، يغويها أحد رجال البعثة، وفي لحظة طيش تستسلم له، وعندما يتنكر لعمله، تضطر إلى الهرب خوفاً من انتقام العشيرة، تهرب إلى الغاب، حيث تلتقي بمهندس شاب سوري كان يعمل في التنقيب عن المعادن، أحبّها وأحبّته، وكانت الخاتمة بالزواج.
هذا الصراع الذي دار في العمل الروائي، الذي تجسد بين نجود، وأحد أفراد البعثة، صراع بين الشرق والغرب، بين البداوة والحضارة، صنعه الكاتب في روايته هذه. لقد أراد الدفاع عن قيم شرقية، أمام فكر غربي، مع أنه ذهب إلى الغرب، وعايشه، وبقي هناك لسنوات، لأنه مأزوم من الداخل، ولا يستطيع التخلي عن شرقيته. المهم في ذلك أنه حصل من الغرب على تقنيته وعلومه، وبقي محنطاً تجاه هذه الأخلاقيات، يقول هو عن ذلك: "أنا طريد المدنيتين".

الجابري البطل الأصلي

إنّ البطل الأصلي للروايات الأربع هو شكيب الجابري، شاء من شاء، وأبى من أبى، فسيرة الكاتب تتقاطع كثيراً مع الأحداث التي تمرّ على أبطاله: المشاركة في التظاهرات، والتعرض إلى السجن، وجرح في اليد وكسر في الجمجمة... إلخ، والإشارة إلى الشخصية الرئيسية في رواية "وداعاً يا أفاميا" هو مهندس التعدين الذي ينقب عن المعادن، وبطل رواية "قدر يلهو" يفكر في اعتزال العالم في دار شيدها فوق تلال الزبداني، القريب من دمشق، وهي الإشارة إلى التحفة المعمارية التي بناها شكيب الجابري هناك، وأسمّاها بقلعة الكوكو، فقد اشترى هضاباً صخرية في شرق الزبداني، غرب دمشق، وبنى فوقها منزلاً عجيباً، وأحيا حوله سلسلة من الحدائق، غرسها بالأشجار المثمرة وغير المثمرة، وقد زاره الشاعر سليمان العيسى، وزوجته، وكتب فيه القصيدة التالية التي نقتطف منها ما يلي:

حين زرت اليوم (دارته) الرائعة
التي نحتها في الصخر
شاهدت أبدع رواية كتبها
الرجل في حياته
كانت روايته الأخيرة بالتأكيد
"وداعاً يا أفاميا"
لقد سماها... قلعة الكوكو

إنّه يرغب في التجديد بشكل دائم، ويتماهي مع شخصياته، ويذوب فيها، حتى لكأنه فيها، في الروايات الأربع. هكذا هو شكيب الجابري.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.