}

ذكرى فؤاد الشايب.. من رواد فن القصة القصيرة بسورية

فيصل خرتش 7 ديسمبر 2020
استعادات ذكرى فؤاد الشايب.. من رواد فن القصة القصيرة بسورية
فؤاد الشايب (1911- 1970)

مع بداية تطلّع سورية إلى شقّ طريقها الحضاري والثقافي والاجتماعي في ثلاثينيات القرن الماضي، صعودًا إلى ركب الحضارة الحديثة والتخلي عن أسر التقاليد البالية ورواسب عصر الانحطاط، بدأ فؤاد الشايب (1911- 1970) عطاءه محملًا ببذور التجديد من خلال معرفته بالأدب الغربي وإحاطته بالأدب العربي لينتج المجموعة القصصية الفنية الأولى، وله شرف الريادة في ذلك.
وُلِدَ الكاتب في معلولا (القرية التي لا تزال تتكلم بلغة المسيح عليه السلام) في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 1911، وحاز على الدراسة الثانوية وسجل في معهد الحقوق في دمشق، وتخرج منه، ثم سافر إلى فرنسا لدراسة اللغة الفرنسية، وعاد منها بعد أن تشبع بثقافة وروح الحضارة الأوروبية. عمل في جريدة "فتى العرب" التي كان يديرها معروف الأرناؤوط، وسافر بعدها إلى العراق ليعمل في التدريس، ثم عاد إلى دمشق واستلم ديوانًا للمطبوعات، وفي تلك الفترة أصدر مجموعته الأوّل "تاريخ جرح" في بيروت عام 1942، ثم عمل مديرًا عامًا للدعاية والأنباء، واستلم بالإضافة إلى عمله مجلة "المعرفة"، وعمل مديرًا للإذاعة والتلفزيون، فمديرًا للإرشاد القومي في وزارة الثقافة، ثم مديرًا لمكتب الجامعة العربية في بوينس آيرس، وقد اعتدي عليه بتفجير قنبلة من قبل أحد الصهاينة وهو يحاضر على منبر في عاصمة الأرجنتين، فسدّ ذلك الاعتداء شريانًا في قلبه، ولمّا تماثل للشفاء عاوده مرّة ثانية، حتى جيء به إلى سورية جسدًا مسجى عام 1970، ودفن فيها.
كانت حياته سلسلة من الثوابت، وكان يعامل بالمحبة والتقدير، رحب الصدر، متنوع الثقافة، جاء إلى وطنه يحمل بذور التجديد ويجمع في أدبه بين تجديد الغرب وتقديس الشرق، كان يتقن الفرنسية والإنكليزية.

اشتهر فؤاد الشايب في عالم القصة بأنّه مؤلف مجموعة "تاريخ جرح"، وقد أثارت عند ظهورها اهتمامًا واسعًا، مما جعلته يتربع على عرش القصة القصيرة، ويختلف عن أبناء جيله من الكتاب الذين كانت أسلوبيتهم جامدة ومصطنعة وخالية من الإدهاش. إنه فارس الأسلوب الجمالي والوظيفي في وقت واحد، وقصصه فتوحات في عالم القصة في ذلك الحين، لقد صقلت القصة القصيرة موهبته وأعطتها بريقًا والتماعًا، إنه يتمتع بالحضور الذهني الكثيف، والكشف عن طبيعة الإنسان، ومشكلة الخير والشر تقعان في لبّ الاهتمام الفكري له، يعدّ بحق سيدًا من سادة التألق الأسلوبي في الأدب العربي الحديث، فقد استطاع أن يقدّم ألوانًا بصرية رائعة، وارتباطات سمعية مثيرة، وكان أسلوبه رائعًا متألقًا ناصعًا بعيدًا عن التحذلق والإغراب. أبطاله فصيحون مثله وميّالون إلى القول الجميل، يقول عن قصصه: "هذه المجموعة كانت بين 1930 و1940 وهي تعبر عن تطورات نفسي في مراحل معينة، وتتضمن كلّ ما أحب وما أبغض في لحظة ما".

كانت حياته سلسلة من الثوابت، وكان يعامل بالمحبة والتقدير، رحب الصدر،
متنوع الثقافة، جاء إلى وطنه يحمل بذور التجديد ويجمع
في أدبه بين تجديد الغرب وتقديس الشرق



كان يفضل أن يصنع القصة لا أن يتحدث عنها: "أن يقول الكاتب لنفسه (سأصنع فنًا) يجب أن يكون هذا الفن فيضًا نفسيًا تلقائيًا وتعبيرًا صافيًا عن النفس، شأنه شأن كلّ فن أصيل".
"القصة عنده لا تخضع للتخطيط المسبق، وهي ليست صناعة ولا مهنة، وإنما هي أفق نفسي تتمرد على القواعد والقوانين"، واعتبر القواعد المرسومة قيودًا تحجب حرية انبثاق نفسه وتعوق استدراج الصورة الكامنة فيها، "تكبل نشوء ظهورها إلى النور"، ويجب أن تكون القصة صورة طبيعية متوهجة لا يتحكم بأبعادها وأحداثها ومغزاها ومآلها الكاتب، لأنها تتشكل بفعل عوامل نفسية لا تطفو على ساحة الوعي، وإنما تعتمل داخل النفس وفي قلب اللاشعور؛ "إنني أسير وراء الحوادث لا أمامها ولا أجرب أن أستبقها وأطأ على براعمها المنبثقة".
لقد اعتبره عبد السلام العجيلي كاتب القصة القصيرة الأوّل، ويروي عنه هذه الحادثة، فقد أخذ فؤاد الشايب إلى الزعيم حسني الزعيم، فأصدر هذا أمره إليه بأن يعد بلاغ الانقلاب، وأن يتكلم في الإذاعة ويعدّد سيئات العهد الذي مضى، لكن الشايب لم يلب الأمر الذي أوكل إليه، فأسمعه الزعيم قوارص الكلام وحلق شعره، وكانت هذه العقوبة وسامًا على رأسه.
إن "تاريخ جرح" هي المجموعة الوحيدة التي أعاد اتحاد الكتّاب طبعها، كونها تقدّم برهانًا ساطعًا على نضوج القصة لدى صاحبها، وهي تعطيه معنى الريادة في فن القصة، وترتقي بفن القصة إلى مستوى أدبي رقيق وعميق.
بعد ذلك أقلع فؤاد الشايب عن كتابة القصة القصيرة، وتطلع إلى كتابة الرواية، ربما أيقن أن أضواء الشهرة تحوم حول الفن الروائي، وذلك من خلال معرفته بالأدب الغربي، فقد مارس الكتّاب الكبار القصة القصيرة، وذلك قبل أن يلتفتوا إلى الرواية، ابتداء من هنري جيمس، إلى لورنس وجيمس جويس، إلى همنغواي ووليام فوكنر.
كتب الرواية ولم يكملها، وبعدها تطلع إلى البحث والتأليف، وبعدهما تطلع إلى تطعيم الثقافة بالاقتصاد، وكانت له جولات في مجلة "المعرفة" التي أنشأها في رحاب وزارة الثقافة، ولكن الجولات بقيت تراوح في مكانها.
وهكذا فارق فؤاد الشايب الدنيا، وترك لنا آثاره ناقصة مشعثة، ترك الدنيا ولم يترك القلق، يشهد بذلك كلّ سطر مخطوط خلّقه... وكلّه مشع كالحجر الكريم، ولكن كلّه قلق واضطراب.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.