}

"رسومات كافكا".. الفنان قبل الكاتب

نجيب مبارك 16 نوفمبر 2021
اشتهر فرانز كافكا ككاتب أكثر من كونه رسّامًا، بالرغم من أنه ترك رسومات كثيرة تشهد على أنه كان فنّانًا حقيقيًّا. وهناك عدة أسباب لذلك، أولها عبقريته الأدبية التي لا ينكرها أحد. لكن أهم هذه الأسباب على الإطلاق هو أن أغلب رسومات كافكا ظلت مجهولة حتى اليوم، وذلك على مدى قرن تقريبًا من رحيله في عام 1924، ولم يتح لها أن تنشر كاملة إلا خلال هذا الشهر، بشكل متزامن في كثير من أنحاء العالم، حيث صدرت نسختها الفرنسية يوم 4 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري بعنوان "رسومات كافكا" (ليكايي ديسيني، 2021).


الجدل حول أرشيف كافكا

ظلت جميع رسومات كافكا، باستثناء القليل منها، حتى عام 2019، محفوظة بشكل آمن في أحد بنوك زيوريخ. لكنها بدءًا من هذا الشهر صارت في متناول الجمهور، بعد أن ضُمّت أخيرًا في كتاب للمرة الأولى. لكن، لماذا تأخر نشرها كل هذا الوقت؟ الجواب هو أن الجميع وقع ضحية مسلسل منازعات قضائية لانهائية، حول من له أحقية التصرف في أرشيف كافكا، منذ وفاة صديقه ماكس برود في عام 1968، ثم وفاة سكرتيرته (وعشيقته على الأرجح) إستير هوف عام 2007، وادعاء ابنتيها الحق في تنفيذ وصية برود، وهو المسلسل الطويل الذي انتهى عام 2016، مع الحكم النهائي للمحكمة العليا بوضع هذا الأرشيف تحت المسؤولية الحصرية للجامعة الإسرائيلية في تل أبيب. ولا ننسى أن هذه الرسومات كان محكومًا عليها أيضًا بالحرق من طرف كافكا نفسه، قبل وفاته بفترة قصيرة، مثل المخطوطات والرسائل وغيرها، لكن لحسن الحظ لم ينفذ ماكس برود وصية صديقه، ليحقق بذلك واحدة من أشهر "الخيانات" في تاريخ الأدب العالمي.

يضم الكتاب الجديد أربعة نصوص مصاحبة لنسخ من هذه الرسومات: اثنان من تأليف أندرياس كيلشر، يدرس أحدهما بدقة تاريخ هذا النقل المعقد لملكية الأرشيف، والآخر بعنوان "الرسم والكتابة في كافكا"، بالإضافة إلى "فهرس الأعمال" الذي وضعه بافل شميدت (ترجمه من الألمانية فيرجيني بيرونين) ومساهمة من جوديث بتلر عن "حياة الأجساد في تخطيطات كافكا" (ترجمه من الإنكليزية جايل كوجان).

فرانز الكاتب، كافكا الرسام

خلال السنة التي قضاها في وظيفته الأولى (1907- 1908) داخل شركة تابعة لمجموعة التأمين الإيطالية الكبيرة Assicurazioni Generali، كان فرانز كافكا يشعر بأنه رسام أكثر من كونه كاتبًا [قبل الالتحاق بكلية الحقوق، كان في الواقع قد تلقى دروسًا في الرسم لعدة أشهر]. في رسالة إلى فيليس باور، كتب [دون أن يتخلى عن روح الدعابة]: "في زمن آخر، كنت رسامًا رائعًا، لكنني تعلمت الرسم في مؤسسة أكاديمية على يد رسّامة رديئة، تسبّبت في فقداني كلّ موهبتي". لكن الواقع أن فرانز كافكا كان يرسم بشكل مكثف بين عامي 1901 و1907، وعلى حوامل مختلفة: دفاتر، رسائل، بطاقات بريدية، ونشرات أو دوريات في القانون. كان يلتقط جميع أنواع الشخصيات على الفور، ويصورها في هيئة كائنات هشة وغير مستقرة، تبدو غامضة بقدر ما هي بسيطة، متحرّرة من الجاذبية بقدر تحرّرها من أجسادها الواقعية. وكما هو الحال في أعماله المكتوبة، ينتقل المشاهد بين الحلم والواقع دون حواجز، مستسلما لإيقاعات مقلقة تتاخم حدود الغرابة. وقد نجا من هذه الرسومات دفتر كامل يكشف للقارئ هذا الجانب غير المعروف لواحد من أبرز الكتاب عبقرية وتفردًا في القرن العشرين.

من رسومات كافكا ومنها  نص ورسومات عن البهلوانيين



تقدم النصوص المصاحبة لكتاب الرسومات، بأقلام أندرياس كيلشر وجوديث بتلر وبافل شميدت، إلى القارئ، مفاتيح لاقتحام هذا العالم الغرائبي، حيث تضحك السخرية من المأساة، ويتجاور الحلم مع اليأس. كتب أندرياس كيلشر: "نجد عند كافكا صراعًا بين الكتابة والصورة: إنهما لا يجتمعان بل يتعارضان". وتنقسم الرسوم المنشورة هنا إلى مجموعات: "منشورات وحزم صغيرة 1901-1907"، "كتاب الرسم" الذي ذكره ماكس برود لأول مرة في عام 1954، "رسومات مجلات السفر 1911-1912"، "رسومات ضمن المراسلات 1909-1921"، "رسومات في الصحف والدفاتر 1909-1924"، و"مخطوطات بزخارف وتصاميم تزيينية 1913-1922". يوضح أندرياس كيلشر كيف أصبح كافكا مهتمًا بالفن منذ سنوات مراهقته، وكيف تأثر بإميل أورليك، فنان براغ الذي كان شغوفًا بفنون الشرق الأقصى، لذلك أعلن كافكا عن رغبته في كتابة محاضرة (لم ينجزها) بعنوان "اليابان ونحن". يمكن للمرء أن يتساءل بشكل شرعي إلى أي مدى كان إدماج "النزعة اليابانية" في الفن الأوروبي الحديث بواسطة أورليك، حاسمًا في التوجه الجمالي ليس فقط في رسومات كافكا، ولكن في كتاباته أيضًا. ومهما يكن الأمر، فإن الجمالية المحددة للرسم الياباني المتمثلة في الانتقال من الرسم التقريبي إلى الكتابة أثارت اهتمامًا كبيرًا من طرف كافكا في نهاية عام 1902.



التأثر بالفن الياباني

في أوائل القرن العشرين، لم تنجح جهود ماكس برود لتحريض كافكا على الاتصال بالفنانين المعاصرين. كان برود يهدف إلى ترسيخ حضور كافكا كـ"فنان عظيم جدًا" من خلال المشاركة في المعارض على سبيل المثال، حسب ما كتب أندرياس كيلشر. وعمومًا، لقد وصفت رسومات كافكا، عبر نصوص الكتاب، بأنها "تعبيرية نموذجية"، أو تكعيبية، أو يابانية. ويبدو خلال عام 1908 أن كافكا كان يرسم أقل ويكتب أكثر، فاتسمت العلاقة بين الرسم والكتابة ببعض الغموض. كانت رسوماته معبرة بشكل أوضح بحيث تتعارض حدودها مع الكتابة. وحتى التعبير المجازي صار يميل في اتجاه إلى المجرد. وبعبارة موجزة، هذا يعني أن رسومات كافكا كانت، بطريقة ما، صورًا غير متخيلة. ويقتبس أندرياس كيلشر مرة أخرى كافكا (نص الأشجار) ليشرح أن "الكتابة والصورة متراكبتان هنا لتشكيل صورة كتابة مفتوحة إلى أجل غير مسمى": "لأننا مثل جذوع الأشجار في الثلج. يبدو أنها مدفونة بشكل مسطح وبقليل من الدفع نستطيع إخراجها من هناك. ولكن لا، لا يمكننا ذلك، لأنها راسخة بقوة في الأرض. رغم علمنا بأن هذه مجرد مظاهر".

من رسومات كافكا



في عام 1909، حضر كافكا عرضًا للبهلوانيين اليابانيين ثم كتب في مذكراته عن "عدم قدرته على الكتابة": "كل الأشياء التي تتبادر إلى الذهن لا تأتي من الجذور، بل من مكان ما في الوسط. إذا حاول شخص ما الاستيلاء عليها، فهذا يشبه محاولة الاستيلاء على نصل من العشب لم يشرع في النمو حتى منتصف الساق. هذا ما يستطيع البعض القيام به، على سبيل المثال البهلوانيون اليابانيون الذين يتسلقون سلمًا لا يتكئ على الأرض، ولكن على نعل مساعد نصف مستلق، مرتفع قليلًا عن الأرض بلا دعامة، وغير مستند على جدار، لكنه معلق في الهواء. أنا لا أستطيع فعل ذلك، حتى أنني أتجاهل حقيقة أن سلّمي لا يستند على هذه النعال. بالطبع هذا ليس كل شيء، ومثل هذه المكالمة لا تقودني إلى التعبير عن نفسي. لكن كل يوم يجب أن يستهدفني خط واحد على الأقل كما يستهدف المرء المذنبات باستخدام التلسكوبات...".


أما جوديث بتلر، فتبدأ نصها بعنوان "ولكن أي تربة؟ أي جدار؟"، وتحت عنوان "حياة الأجساد في تخطيطات كافكا" تكتب: "إن كتابات ورسومات كافكا تطرح السؤال التالي: هل من الممكن لمس الأرض؟ هل تصميم الجسم يلغي الحاجة إلى الأرضية؟ وبينما يبدو أن عدم القدرة على لمس الأرض أمر متكرر في أعمال كافكا، فإن البقاء على الأرض أو حتى الاتكاء على الحائط يمثل مشكلة بنفس القدر. ومع ذلك، حتى الأشكال المعلقة بشكل غير معقول، أو التي تتحرك بأعجوبة على طول الجدران والسقوف دون خوف من السقوط، لا تتحرر من الجاذبية" (يذكرنا هذا بقصة كافكا الطويلة "التحول" أو "المسخ"). لكن جوديث بتلر تعود إلى الرسومات المكتملة، وإلى الرسومات الأكثر رصانة، حيث يبدو أن الأشكال التي تم تقليصها إلى خطوط، فتحررت من الحجم والوزن والجاذبية، كرست صورة جسم نحيف وهزيل، كأنه مصاب بسوء التغذية: "فهي تستبعد الاحتمال أن يكون الجسم باردًا، وأنه يحتاج إلى طعام أو مأوى، وأن يشارك في التبعية والاستعراض والهشاشة، على غرار الحياة الجسدية. [...] لا تحتوي الخطوط أبدًا على الجسد الذي تسعى إلى أن تحلّ محله. اللون الأبيض حاضر دائمًا، فهو يفصل الرأس الكروي عن الخيوط مما يشير إلى المكان الذي يقف فيه الجسد، أي حيث نتوقع العثور عليه".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.