}

ما الذي يثير الشغف بفكر فرانز فانون؟

إدريس الخضراوي إدريس الخضراوي 29 ديسمبر 2021
استعادات ما الذي يثير الشغف بفكر فرانز فانون؟
(Revistacult.uol.com.br)



تَندرجُ القراءةُ التي أنجزها محمد برادة بعنوان "فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة"[1] (1963)، بالاشتراك مع الكاتب الجزائري مولود معمري والمؤرخ المغربي محمد زنيبر، في سياق الاهتمام المكثف في مطلع الستينيات بالمسألة الثقافية من قبل أدباء مغاربة ومثقفين ومهتمين بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، كما أنها تكتسب قيمتها من كونها أنجزت في السنة نفسها التي ظهر فيها كتاب فرانز فانون "معذبو الأرض" في ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي إلى العربية سنة 1963. وبالتالي يكشف الاهتمام بعمل فانون عن رغبة أكيدة في الاستفادة من مكاسب الحداثة ومبادئها وقيمها، وتمثل مقترحات الفكر ما بعد الكولونيالي الذي يعدّ النصّان الفانوني والغرامشي من أبرز مصادره الإلهامية. 

نعتقد أن هذه القراءة لفانون التي تجد الأرضية الأساس في ماركسية نقدية تنهل من الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، تكشف عن الاختلاف الذي ميز الفكر المغربي المعاصر إبّان الستينيات، وهي الفترة التي أبدى فيها المثقف المغربي اهتمامًا بمرجعيات فكرية وفلسفية مغايرة تُتيحُ له الاشتغال بمفاهيم جديدة، كما تساعده على تطوير أدواته النقدية وتعميق منظوراته الفكرية. وها نحن نرى من حولنا في تيارات الدراسات الأدبية الحديثة، خاصة الدراسات والأعمال التي تندرجُ في حقل ما بعد الكولونيالية الذي يعنى بمساءلة العلاقات المعقدة بين القوة والمعرفة، كيف أن علاقة النقد الأدبي المعاصر بفكر فانون تزداد تضافرًا وتتخذُ أبعادًا جديدةً بحيث لا تجد سندها فقط بكون فانون يصعب اختزاله أو تكثيفه في تصنيف محدد، بل تجده أيضا في علاقة الأدب بالزمن، وتعبيره عن أسئلة الإنسان ومغامراته وبحثه اللاهث عن الحقيقة، بالإضافة إلى متغيرات التاريخ ومستجدات الواقع العربي والتحولات التي طرأت على عمليات المثاقفة.

يقتضي تلمّس الجهد والحماس اللذين بذلهما المؤلفون في استقراء مؤلفات فانون وتحليلها وتأويلها بصورة موضوعية ونقدية، أن ننطلقَ من المنظور ما بعد الكولونيالي بشكل عامّ، خاصة في نقده النزعة الإنسانية الأوروبية، وفكرة الكونية سعيًا نحو التحرّر الإنساني، فالفكر ما بعد الكولونيالي يتجذّر في المستقبل، كما يكتب أشيل مبيمبي[2]، لأن هدفه الأساس هو فتح آفاق واعدة أمام البشرية من خلال الاعتراف بالآخر كإنسان. وهذا المعنى الذي يتأسسُ على التبادلية والمساواة هو الذي يتخللُ كتابات فرانز فانون، وليوبولد سيدار سنغور، وإدوارد سعيد، وبول إلروي... كما ينبغي بالإضافة إلى ذلك، أن نأخذ بتصور إدوارد سعيد للنقد بشكل خاص، ومفاده أن فعل القراءة، بما في ذلك قراءة الأرشيف الغربي، يتحقق بشكل مثمر وكثيف عندما نضعُ النص في السياق، وننظر إليه باعتباره جزءًا لا يتجزأ من شبكة كاملة من العلاقات يلعبُ محيطها ونفوذها دورًا إخباريًا في النص. إن هذا التشديد على البعد التاريخي للقراءة، وعلى كونها نسبية وغير مكتملة، هو السبيل للتفكير بطريقة نقدية، وبالتالي فهم المقاصد والمرامي الكامنة في صميم عملية إنتاج النصوص، وتقصّي العلاقات التي تقيمها مع نصوص تنتمي إلى ثقافات وسياقات أخرى.

نعتبر أن صدور كتاب "فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة" سنة 1963، أي بعد وفاة فانون بسنتين، ينطوي على دلالات قوية. إذ يمكنُ اعتباره، من جهة، تكريمًا لهذا المثقف الثوري المتطور الذي اهتمّ بتحرر الشعوب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، واعترافًا بالدور الطليعي الذي نهضَ به دفاعًا عن معذبي الأرض. ففانون من بين الكتاب والمثقفين الذين تنطوي أعمالهم على تمثيل هموم هذا العصر الذي اتخذت فيه الهيمنة أشكال مظاهر متعددة؛ فهي لا تستند فقط إلى القوة والغلبة العسكرية، وإنما أيضًا إلى المعرفة التي تتعين بكونها سلطة متعالية تمتلك الحقيقة. لنقل إن فكر فانون ورؤاه السياسية والاجتماعية لا تزالُ تحملُ في طياتها الأفكار المستنيرة والمتبصّرة التي تلهمُ المدافعين عن نزعة إنسانية جديدة. ومن جهة أخرى، فالكتابُ صدر في فترة مفصلية من تاريخ المغرب، أي فترة ما بعد الاستقلال التي اشتد فيها الصراعُ بين السّلطة والقوى الاجتماعية الواسعة التي كانت تطمحُ إلى التغيير الجذري الذي يفتحُ أبواب المستقبل أمام الجميع. ورغم أن هذه القراءة التي قام بها مؤلفو الكتاب محددة بسياق تاريخي خاص يضبطُ أسئلتها ومحتوياتها، فإن استعادتها اليوم في سياق مرحلة ما بعد الربيع العربي، تبيّنُ أن التوسّل بفانون، ذلك المثقف المارتينيكي الملتزم، والطبيب النفساني المبدع الذي احتك بالاستعمار وأدرك الشروخ العميقة التي يحدثها في جسم الأمة، فناصرَ القوى التحررية في "العالم الثالث" وانضم إلى الثورة الجزائرية، هو توسّلٌ بمثقفٍ ومفكرٍ ما فتئت أعماله تلهمُ المخيلة ما بعد الكولونيالية في سعيها للردّ ليس فقط على سرديات الاستعمار وافتراضاته المشوهة لتواريخ المهمشين والمستضعفين في الأرض، وإنما كذلك على الأنظمة القمعية التي أسّست شرعيتها على ترهيبِ الشعوبِ وتشتيتِ قواها. لذلك فمنجزه النظري الذي تَبلورَ خلال سنوات الخمسينيات، يظلَّ ينطوي على كثير من الأفكار والتصورات التي تلهمُ حركات التحرر ومناهضة التمييز العنصري في العالم. وقد تعرّف المثقفون والقراءُ المغاربة، كغيرهم من قرّاء العالم، على كتاباته التي أتاحت لهم مجالًا للاقتراب من مثقف ثوري شكلت افتراضاته مستقرًا تلتقي في رحابه أسئلة الراهن العربي، ومصدرًا للتحرّر الاجتماعي والاقتصادي والنفسي.




يعلق الباحث المغربي العربي الرّامي على هذه المرحلة فيقول: "لعلّ هذا هو الملمح الذي هيمن على الإنتاج الثقافي المغربي إلى حدود نهاية العقد السبعيني، ولا شيء يدعو إلى الاستغراب، والحال أن هذه الثقافة تخلّقت، ونمت في أحضان الحركة الوطنية متشبعة بالروح النضالية التي صنعت الاستقلال. الشيء الذي أجبر الثقافي على أن يستمرّ في خدمة السياسي والإيديولوجي بكلّ تفان وصدق"[3]. ولأن تحليل فانون يستمدّ جذوره من الراهن، فمن شأن طروحاته في سياق تتعاظم فيه التحديات أن تدعم حركة التحديث بوضع أسس ثقافة وطنية تنهضُ بدورها التنويري المضاد، سواء في نقد وتفكيك علاقة السلطة بالمعطّلات الثقافية والاقتصادية التي أبقتها التجربة الاستعمارية، أو في إسناد ودعم الفئات الاجتماعية المهمشة التي تكافحُ من أجل مستقبل أفضل يعوضها عن التضحيات الجسام التي قدمتها في سبيل الاستقلال. وبمقياس فانون فإن المجتمع الذي اجتثّ الاستعمار لا يمكنُ أن تكونَ وظيفته سوى خدمة الاحتياجات الإنسانية[4].

الظروف الخاصة

لا يعني هذا أن القراءة التي قدمها هؤلاء المثقفون لفانون كان المقصود بها أن تَعهدَ لهذا المفكرِ والمناضلِ أن يَرسُمَ طريقَ الخلاص بالنسبة للجماهير الشعبية المكافحة، وإنما هي قراءة، إذا استعرنا تعبير المفكّر مشير عون متحدثًا عن هايدغر[5]، تراهنُ عَبْرَ فانون وتجربته في البحث والنضال على اجتراح إمكانية للفكر المغربي في مجال معركته ضِدَّ التخلفِ في أبعاده المختلفة أن يسعى هو بنفسه إلى الوقوف على إمكانات محتملة يستلهمها لتمكنه من بلوغ الاختبار الخاص بالثقافة المغربية في عُمقِ مسعاها التاريخي الخصوصي. ويرى برادة أن هذا الاختبار واجهه فانون حينما قدم استقالته للسّلطات الفرنسية من المستشفى الذي كان يعملُ فيه، وعاد إلى حياة "المنفى" ليتضح له "أن إنسان الدول المقهورة يخدع نفسه عندما يظنّ إمكانية تطبيق المبادئ التي علمه إياها الغرب. إنه يتحتم عليه أن يرفضَ تلك المثل الجوفاء، وأن يبحثَ عن خلاصه في مسالك جديدة أوجدتها ظروفه الخاصة، فراح يهتفُ: يجب أن نصنع بشرة جديدة، وأن نخلقَ فكرًا جديدًا من أجل إيجاد إنسان جديد"[6]. كما واجهه في مرحلة متأخرة من تجربته حينما توجه بالنقد إلى مستضعفي الأرض، خاصة شعوب "العالم الثالث" فنبّههم إلى انحراف البرجوازية الوطنية ومهادنتها للاستعمار الجديد[7].

إذا كان برادة ينتمي من جهة الاشتغالِ المعرفي إلى النقد الأدبي الذي تمثلُ النصوص الأدبية مجاله الأساس الذي يُعنَى فيه بتحليلها والكشف عن شروط إنتاجها، واستقصاء المعرفةِ التي تكتنزها حول الفردِ والمجتمعِ، فإنه عندما يُحاورُ فانون وغيره من مثقفي الغرب الذين ناهضوا التجربة الاستعمارية، والتحموا بأحلام الشعوب المضطهدة في الحرية والعدالة والكرامة، يعطي أساسًا متينًا للممارسة الأدبية، خاصة من جهة النقد وعمليات تأصيله. إن تأصيل النقد "مشروط بامّحائه وزواله من جهة كونه سلطة متعالية تمتلك الحقيقة، لاسترداده من جهة كونه ضربًا من الكتابة لا تكتفي بشرح النصّ أو تقييمه بل تتعدى الشرح والتأويل إلى الإحاطة بأسئلة الأدب من جهة كونها مستقرًا في رحابه تلتقي أسئلة الراهن الثقافي العربي"[8]. ومن هذه الزاوية تنطبقُ على قراءة برادة لفانون، الملاحظة التي التقطها الباحث الجزائري بشير ربّوح في دراسته القيّمة لإدوارد سعيد والفلسفة، حيث بَرهنَ على أن تحرّك سعيد بعدّته المعرفية نحو الفلسفة لم يكن من أجل امتلاك ناصية التفلسف بالمعنى الأكاديمي الخالص، وإنما كان بِهدفِ البحثِ في الفلسفةِ عمّا يُعمّقُ رؤيته النقدية ومقاربته الاستكشافية، سواء للاستشراق أو للثقافة والإمبريالية أو للمقاومة الثقافية. هكذا أتاحَت الفلسفة لإدوارد سعيد أن يستمدَّ منها مفردات عديدة مثل الخيال والسرد والثقافة والإمبريالية والآخر والتابع والهوية والتحرر والشرقي الكسول والمترهل والأصلاني والنص والخطاب[9]. وبنفس القدر أتاحت الفلسفة لبرادة إمكانيات تعميقِ المنظور للنقد الأدبي، مما أهله لأن يأخذ النقد إلى ما هو أبعد من ثنائية الشكل والمضمون، الحقيقة والخيال، أي إلى الاهتمام بإنتاج معرفة جديدة حول الأدب لا يكونُ فيها أي تعارضٍ بين استقلاليته الذاتية، الفنية والجمالية، ووظيفته النقدية الاجتماعية والسياسية. وكما يقول بيير ماشري في تحديده لكل من النقد والأدب، فالناقدُ عندما يَجترحُ لغةً جديدةً لقراءة موضوعه (الأدب)، فإنه يَستطيعُ أن يَنزعَ الحجب عن الاختلاف الكامن فيه، وأن يكشفَ فيه عن صورة جديدة تختلفُ عن الصورة التي كانَ عليها عندما أنتجه المؤلفُ أول مرّة[10]

يميزُ محمد برادة بين ثلاث محطات يعتبرها أساسية في مسار هذا المثقف الثوري المفتون بالتجربة الإنسانية المعاشة، الذي اكتوى بلده المارتينيك بنار الاستعمار منذ سنة 1635 عندما بدأت فرنسا في عهد ريشيليو تضعُ الأسس الأولى لمستعمراتها. المحطة الأولى تبدأ من هجرته إلى فرنسا لمتابعة دراساته العليا، حيث ظل قريبًا من معاناة شعبه والشعوب الواقعة تحت الاستعمار. "فطيلة سنوات دراسته للتحليل النفساني، كان يشارك بفعالية في النشاط السياسي لطلبة الأقطار المستعمرة، فكان يتصلُ بالشخصيات والهيئات التقدمية ويدعو لقضية بلاده وضرورة تحريرها. ولم يكن يعتمدُ في كفاحه على عاطفة الوطنية الطبيعية، بل كان يعملُ بوحي من وعيه العميق وثقافته الواسعة. كان مخلصًا في التعبير عن ردّة الفعل التي استشعرها بعد أن عاش تجربة القهر والتعصّب والاضطهاد"[11]. والمحطة الثانية تبدأ حينما أتمّ دراسته العليا وعيّن طبيبًا نفسانيًا بـ البليدة بالجزائر. ويرى برادة أن هذه التجربة جعلت فانون "يعيش اللقاء المؤثر مع الحقيقة عارية من كل الأصباغ، لقد تبيّنَ أن تشويهات الاستعمار وتأثيراته السيئة واحدة رغم تعددها واختلافها الظاهر في كل من المارتينيك والجزائر"[12]. ومن خلال العدد الكبير للمرضى الذين كان يعالجهم، أدرك فانون أن الأزمات والعقد التي يعيشها الجزائريون ليس مصدرها طبيعة الشخصية الجزائرية، وإنما هي أعطاب خلقها الاستعمار الفرنسي وما صاحبه من استغلال واضطهاد ومسخ. ويرى برادة أن هذا الوضع هو الذي أَوْجَدَ لدى فانون الحماس للتعاطف مع الثورة الجزائرية حيث سَجّلَ ملاحظاته وخلاصة تجاربه في كتاب قيم هو "السنة الخامسة للثورة الجزائرية"[13]. أما المحطة الثالثة من مسيرته فتبدأ من 28 كانون الثاني/ يناير 1957 حينما قَدّمَ استقالته للسلطات الفرنسية وحاججَ في رسالة الاستقالة "أنه لم يعد قادرًا على العمل في ظل وضع يُشجّعُ بصورة منهجية نزع إنسانية الناس وتجريدهم من حريتهم"[14]. هكذا التحقَ فانون بالثورة الجزائرية ليضَعَ خبرته رَهنَ إشارة الثوار حيثُ كان يقومُ بعلاجهم ويوفرُ لهم الدعم النفسي والأفكار التي تساعدهم على ربح المعركة ضد الاحتلال. ويرى برادة أن إيمانَ فانون العميق بالثورة الجزائرية، وبأنّ انتصارها هو انتصار لأفريقيا، أتاح له أن يتبوأ موقعًا مميزًا "فأسندت له مهمات مختلفة ينطق فيها باسم الثورة الجزائرية ويدعو إلى مبادئها في القارة الأفريقية وخارجها"[15].

محمد برادة 



ما الذي يثيرُ الشغف بفكر فانون؟

لعلَّ السؤالَ الذي يبقى طرحه ضروريًا في ما يَخصُّ هذه القراءة لفانون هو: ما الذي يثيرُ هذا الشغف بفكره؟

رغم ضروب الاختزال التي تعرّض لها فكر فانون في المنطقة العربية، كما يُشيرُ إلى ذلك نايجل سي غبسون في المقدمة التي كتبها للترجمة العربية لكتابه: "فانون: المخيلة بعد الكولونيالية"، ما حالَ دون تأويل هذا الفكر تأويلًا منتجًا بضمّه إلى دينامية الفكر العربي واستدخاله في خانة الفضاء الثقافي العربي، فإن الجهود الرامية إلى فهم تراثه فهمًا موضوعيًا يأخذُ في الاعتبار الظروف والسياقات التي أُنتِجَ فيها لم تفتر ولم تتوقف. ويمكنُ القول إن القراءة التي دشنها برادة بمعية مولود معمري ومحمد زنيبر في بداية الستينيات هي جزء مهم من هذه الجهود، لأننا نَجِدهُ في هذه القراءة معنيًا بأن يُوفّـرَ للثقافة المغربية الجديدة في اتصالها بهذا الفكر الثوري فسحةً للتبدل والتحول، ليس فقط على صعيدِ فهمِ تعقيدات السيطرة الاستعمارية والأوهام التي تشيعها، وإنما كذلك على صعيدِ الالتصاق بهموم وتطلعات الفئات الاجتماعية الواسعة إلى التخلّصِ من الفقر والتهميشِ والاستغلالِ.

ومن هذا المنظور يَبرزُ اهتمامُ محمد برادة بالمسألة الثقافية كما تناولها فانون في أعماله الأساسية خاصة "المعذبون في الأرض" و"بشرة سوداء وجلد أسود" و"السنة الخامسة". إن قراءة هذه الأعمال تتيحُ لمثقفي "العالم الثالث" تفكيك الماضي الإمبريالي للغرب، وفهم الاستراتيجيات التي بنت عليها الكولونيالية السيطرة على الشعوب المستضعفة.

يقول الباحث الفرنسي فريد بوشي: "في النصف الثاني من القرن العشرين، جنح الغربيون إلى القول بأنهم حملوا التقدّم والحداثة والنظام والاستقرار إلى الشعوب الأخرى، وأن بالنظر إلى الوضع، يتعيّن عليهم البقاء أوفياء إزاء مسؤولياتهم كحاملين للحضارة"[16]. وما يعرّيه فانون ويكشفه بقوة هو أن الغرب، في الواقع، لم يتح للشعوب التي أخضعها لسيطرته بطرق مختلفة زاوج فيها بين "القوة اللينة" أو "المتغلغلة" أسباب الأخذ بالحضارة الحديثة، وما يحققُ لها التوازن المادي والروحي. ويرى برادة أن ما قام به الاستعمار هو أنه "سخر أقلام مفكريه وفلاسفته للقيام بحملة تشكيك المستعمرين في عقولهم واستعداداتهم الفطرية وإضافاتهم الحضرية"[17]. ومن المعروف أن الهيمنة على شعوب "العالم الثالث" استندت إلى تواطؤ مكشوف بين الثقافة والغلبة العسكرية، وإلى بث مغرض للصور المضللة التي تسرّعُ خضوع الأفراد والجماعات لأشكال الهيمنة. وقد كشف إدوارد سعيد في تفكيكه العلاقة بين الثقافة والسيطرة الاستعمارية، مستعينًا بفانون، تجليات عديدة لهذا التواطؤ في كتابيه: "الاستشراق" (1978) و"الثقافة والإمبريالية"(1994). فهو يقولُ في تأويله سرد الروائي الفرنسي ألبير كامو: "تكمن المفارقة اللاذعة في أن كامو حيث يسرد قصّة في رواياته أو في مقطوعاته الوصفية، فإن الحضور الفرنسي في الجزائر يصاغ إما كسردية خارجية، جوهرًا لا يخضع للزمان والتأويل (كما هي جانين)، أو بوصفه التاريخ الوحيد الجدير بأن يُسردَ كتاريخ. إن عناد كامو المتمادي ليُفسِّرُ الفراغ والغياب في خلفية العربي الذي قتله مُرْسُو، ومن هنا أيضًا الإحساسُ بالدمار الذي يُرادُ له أن يعبِّر عن الموتى العرب بشكل رئيسي (وهم بعد كل حساب مكمن الأهمية من وجهة نظر سكانية) بل عن الوعي الفرنسي"[18].



إن قيمة فكر فانون تكمن في الموقع التي يَجترحُهُ لفهم معنى استحالة أن يتحولَ الاستعمارُ إلى برنامج نزيه لمساعدة الدول الفقيرة. ففانون يرسمُ للشعوب التي تعاني التخلف والفقر طريق الخلاص من خلال نشر الوعي وتعميقه لدى الجماهير الواسعة. ومن منظور فانون يلعبُ المثقفون دورًا أساسيًا في هذا التحول شريطة الالتزام بالعمل من أجل شعوبهم. فالمثقفون يضطلعونَ بعملية خطيرة هي "إتمام تصفية الاستعمار، وخلق مفاهيم جديدة، تواكب التطورات المستمدة من تحفز الجماهير مطامحها"[19]. ويرى برادة أن من بين المهام الأساسية التي ينبّه فانون المثقفين إلى ضرورة النهوض بها هي إثبات "وجود حضارة أهلية قبل الاستعمار"[20]. فأحد المظاهر التي يسعى الاستعمار لضربها هي وجود ثقافة قومية صلبة ومتماسكة. ولذلك فإن الرد من منظور فانون على النزوع الاستعماري إلى السيطرة والهيمنة لن يكون مجديًا إلا إذا توجه المستعمَرُ إلى إحياء العناصر والمقومات التي تؤكدُ عبقرية الشعب وعظمته. فبهذا الإحياء يتشكلُ الجدار السميك الذي يحمي الشعب من السموم والسرديات المضللة التي يبثها المُستعمِرُ في عقول سكان مستعمراته. من هنا "فالعودة إلى الماضي لاستكشاف حضارة قومية، من الأسس الهامة في الكفاح الثقافي، لأنها تُساعِدُ على إيجاد سد منيع يقي ثقافة الشعوب النامية من الاستمرار تحت سيطرة الثقافة الغربية ومعاييرها، ولأنه يُتيحُ للمثقفين أن يخرجوا من دائرة المصطلحات والمفاهيم التي تلقوها في جامعات الغرب ومعاهدها"[21]. لا يعني هذا أن فانون كان يُمجّدُ الماضي على حساب الحاضر والمستقبل. فهو عندما يُنبّهُ المثقفين إلى أهمية بناء ثقافة قومية ذات أصول وجذور في ماضي الأمة، فإنه يعي "أن الإنسان المستعمر الذي يكتب لشعبه، يجبُ أن يستعمل الماضي وسيلة لاستشراف المستقبل، والدعوة إلى العمل وإرساء أسس الأمل[22]".

عندما نرى إلى هذه القراءة لفانون في السياق الحالي حيث يتوسع الاهتمام بدراسات ما بعد الكولونيالية، وتأثيرها في الدراسات الأدبية يزداد قوة، وحيث يعادُ التفكير في إشكاليات الهوية من منظورات جديدة تنفتحُ على عالم من العلائق المتداخلة والمتشابكة، "وفيها تبرز معالم التوجهات الكونية الإنسانية التي تنادي بالمواطنة العالمية، التي في الآن ذاته تسعى إلى الحفاظ على الخصوصية المحلية التي تغني ولا تقصي عالم الآخر المختلف متباينة معه ومعترفة به معا"[23]، يَجوزُ القولُ إن قيمتها (القراءة) تتمثلُ في جانبين: أولهما القدرة التي نلمسها لدى محمد برادة على تأويل فانون كي يستمدَّ منه الأدوات والمفاهيم التي يتسلحُ بها المثقفون المغاربة في المعركة ضد التخلف والتهميش والإخفاق في ولوج عصر الحداثة. ها هنا تكمن المهمة الأساس للمترجم كما يحددها فالتر بنيامين، أي أن يعثر على ذلك الأثر المنشود في اللغة المترجم إليها الذي يحدث فيها صدى الأصل[24]. أما الجانب الثاني فيتمثلُ في احتضان هذه القراءة الكلمات المفتاحية الأساسية التي سنجدها لاحقًا أي خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في دراسات ما بعد الكولونيالية وتحديدًا في عمل إدوارد سعيد، كأهمية بناء الثقافة القومية ودورها الأساس في إبقاء جذوة المقاومة الثقافية مشتعلة أو ما يسميه بيل أشكروفت "الرّد بالكتابة"، وكذلك "الهجنة" و"الترابط بين الثقافة والقوة".. وغيرها من المفاهيم التي تَمكّنَ المؤلفون من التقاطها في هذه القراءة التي تَستحضٍرُ من خلال النصّ المقروء حاجة الذات إلى الأدوات النقدية الملائمة لنقد خطابات الطمأنة التي تكبّل الفكر وتزرع الجمود والاستسلام.

مراجع:

[1] محمد برادة، مولود معمري، محمد زنيبر، فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة، الرباط 1963.

[2] - Achille Mbembe et al., « Qu'est-ce que la pensée postcoloniale ? », Esprit 2006/12, (Décembre), p. 118.

[3] العربي الرامي، مستويات اشتغال العجائبي في الرواية المغربية، أطروحة دكتوراه تحت إشراف الأستاذ سعيد يقطين، كلية الآداب- الرباط 2003-2004، ص20.

[4] نايجل سي- غبسون: فانون: المخيلة بعد- الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبو هديب، سلسلة ترجمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2013، ص22.

[5] مشير عون: هايدغر والفكر العربي، 2015.

[6] محمد برادة: الشخصية والبيئة، في: فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة، الرباط 1963، ص14.

[7] المرجع نفسه، ص18.

[8] محمد لطفي اليوسفي: أسئلة الشعراء ونداء الهوامش، مجلة فصول، المجلد السادس عشر، العدد الأول، صيف 1997، ص28-29.

[9] بشير ربّوح: إدوارد سعيد والفلسفة، مجلة تبيّن، العدد 15، المجلد الرابع، شتاء 2016، ص65.

[10] Pierre Machery, Pour une théorie de la production littéraire, ENS Editions, Paris 2014, p18.

[11] فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة، م م، ص11.

[12] المرجع نفسه، ص12.

[13] المرجع نفسه، ص12.

[14] نايجل سي- غبسون: فانون: المخيلة بعد- الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبو هديب، سلسلة ترجمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت2013.، ص18.

[15] المرجع نفسه، ص15.

[16] فريد بوشي: إدوارد سعيد الأنسني الراديكالي في أصول الفكر ما بعد الكولونيالي، ترجمة محمد الجرطي، دار صفحات، دمشق 2018، ص247.

[17] محمد برادة: مفهوم الثقافة عند فرانز فانون، في: فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة، م م، ص119.

[18] إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية، دار الآداب، بيروت 1994، ص239.

[19] نفسه، ص121.

[20] نفسه، ص121-122.

[21] نفسه، ص122

[22] نفسه، ص123.

[23] ليلى المالح: لقاء الحضارات في الفن القصصي لدى أمين الريحاني، رحلة الأديب المهاجر بين الموروث والمكتسب، في: أمين الريحاني والتجدّد العربي تحديات التغيير في الأدب والفكر والمجتمع، تحرير نجمة حجّار، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2012، ص321.

[24] فالتر بنيامين، مهمة المترجم، في: مهمة-المترجم https://www.aljumhuriya.net/ar/content

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.