}

لماذا إسرائيل "مجتمع أرثوذكسي"؟

أحمد الجندي أحمد الجندي 27 يناير 2022



تعرف اليهودية في عصرنا الحالي ثلاثة اتجاهات عامة تنتظم داخلها الحركات الدينية اليهودية. هذه الاتجاهات هي اليهودية الإصلاحية، واليهودية الأرثوذكسية، واليهودية المحافظة. وهذا الترتيب هو ترتيب الظهور التاريخي في العصر الحديث.

حين نعود لنشأة اليهودية الإصلاحية Reform Judaism، والتي يطلق عليها أيضًا اليهودية الليبرالية Liberal Judaism، واليهودية التقدمية Progressive Judaism، نجد أنها نشأت من أجل إعادة تفسير الديانة اليهودية أو إصلاحها على أساس مستجدات الفكر الغربي وثقافته حتى يندمج اليهود في المجتمعات التي يحيون فيها ويتمكنون من التمتع بنفس الامتيازات التي يتمتع بها مواطنو تلك الأمم (1).

ولكي يحدث هذا الاندماج أكدت اليهودية الإصلاحية ضرورة تبني سياسات وثقافة الدول التي يعيش اليهود فيها مع احتفاظهم ببعض التقاليد اليهودية التي تحافظ على الشخصية اليهودية.

كان ذلك مصاحبًا لضعف مكانة كتاب اليهود المقدس (العهد القديم)، نتيجة اكتشاف حضارات الشرق الأدنى القديم، وما أسفر عنه ذلك من ظهور حقائق كثيرة مخالفة لما تعارف عليه اليهود في نصوص كتابهم المقدس، وظهور مدارس نقد الكتاب المقدس بمناهجها المختلفة. مما جعل حاخامات اليهود يعيدون النظر في هذه النصوص من أجل تفسير الديانة اليهودية تفسيرًا جديدًا يتوافق مع ما توصلت إليه العلوم الحديثة.

 

كانت بداية اليهودية الإصلاحية متأثرة بالتوجهات الأوروبية نحو التحرر السياسي من ناحية (2)، وبحركة التنوير العبرية (الهسكالاه) التي نشأت في أواخر القرن الثامن عشر، وما صاحبها من إعادة تقييم التراث اليهودي من ناحية أخرى. وكانت الظروف التاريخية تفرض على اليهود إعادة النظر فيما تبنوه خلال عصور طويلة من التزام صارم بالتعاليم اليهودية في صورتها التقليدية، فمنذ إعلان الإمبراطور قسطنطين الأول المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية (313 م) أصبحت الطوائف اليهودية داخل العالم المسيحي تحيا حياة الأقلية المنعزلة، بسبب النظرة لليهودية على أنها نقيض الديانة المسيحية وأن اليهود هم قتلة المسيح الذين يستحقون العقاب. ولم يكن من شأن هذه الرؤية أن تفرض فقط عزلة اليهود عن المجتمع، بل فرضت عليهم أيضًا المكان الذي يسكنون فيه وأنواع المهن التي يقومون بها، وبالتالي فإن حقوقهم السياسية والاجتماعية كانت في إطار الحد الأدنى المسموح به، حتى أنهم صاروا يتحدثون بلغة خاصة بهم هي الييديش ويرتدون ثيابًا محددة ويأكلون أطعمتهم الخاصة. وهذا كله يعني أن اليهود كانوا يحيون كجماعة منغلقة على نفسها ومنعزلة تمامًا عن المجتمعات التي عاشت بينها بسبب اللغة والعادات الدينية وطريقة العمل والمهن التجارية التي تخصصوا بها. ومما أسهم كذلك في فرض هذه العزلة اعتقاد اليهود بأنهم شعب الله المختار وبأن الرب وحده هو الذي يحكمهم، ما أدى إلى وضعهم أمام حالة من النزاع الداخلي بين ضرورة الالتزام بقوانين الدول التي يعيشون فيها وبين تطبيق الشرائع التوراتية داخل الطائفة اليهودية. هذا الوضع هو الذي أدى للحوار حول شكل الالتزام بالتعاليم والشرائع اليهودية وأدى مباشرة إلى نشأة الفرق اليهودية الحديثة ومنها بالطبع اليهودية الإصلاحية.

أحد مؤتمرات الحركة اليهودية الإصلاحية



وبالتزامن مع ذلك كانت هناك حركات تحرر واسعة ناشئة في ذلك الوقت بهدف تحرير العبيد، والنساء والخدم، وكذلك بعض الاتجاهات الدينية كتحرر البروتستانت من قبضة الكاثوليك في بعض دول أوروبا (إنكلترا وإيرلندا)، وقد شملت حركة التحرر تلك اليهود أيضًا.

تعود المرحلة الأولى لليهودية الإصلاحية إلى منتصف القرن الثامن عشر حين بدأت أصول أفكارها في الظهور (3)، أما المرحلة الثانية فكانت مواكبة لتمكنهم من الحصول على حق المواطنة في كثير من دول أوروبا في القرن التاسع عشر كفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، وإيطاليا، وألمانيا، والنمسا والمجر، وهي المرحلة التي يمكن اعتبارها مرحلة التطور الأولى فعليًا والتي بدأت في ألمانيا، في هذا الوقت ظهرت الـيهـودية الأرثوذكسـية كـرد فعل على مـا تـمكنت الـيهودية الإصـلاحـية مـن تـحقـيقه، ولاحقًا نـشأ ما عـرف بالـمدرسـة التاريـخية عـلى أيدي بعـض اللاهوتيـين اليـهود في مـحاولة للتوفيق بين الاتجاهين؛ وهذه المدرسة هي التي أصبحت تعرف فيما بعد مع مطلع القرن العشرين في الولايات المتحدة الأميركية باسم اليهودية المحافظة Conservative Judaism (4).

المرحلة الثالثة لليهودية الإصلاحية واكبت شعور كثير من اليهود أنه رغم الاعتراف الرسمي الذي حصلوا عليه في أوروبا بمساواتهم في الحقوق السياسية والمدنية، إلا أن ذلك لم يؤد إلى الاعتراف بهذه المساواة على المستوى الاجتماعي؛ حيث ظل اليهود جماعة منعزلة ينظر إليها نظرة دونية (5)، وهذا أدى لظهور قضايا جديدة سعى اليهود للبحث فيها ووضع حلول لها. ولما كان من السهل على عدد من اليهود أن يتركوا اليهودية إلى المسيحية من أجل الاندماج في المجتمع، فقد سعى اليهود الإصلاحيون في غرب أوروبا وأميركا إلى معالجة ذلك من خلال ثلاثة أمور؛ أولها: كيف يمكن أن يكون الفرد يهوديًا ومواطنًا في نفس الوقت. ثانيها: الاحتكام إلى التاريخ لإثبات أن نظامهم الجديد هو استمرار لليهودية القديمة مع عمليات تطوير فرضها الواقع المتجدد. وآخرها: أنهم عرفوا اليهودية على أنها ديانة فحسب وهذا أتاح مساحة واسعة للشعور بالقومية؛ ألمانية كانت أو فرنسية أو إنكليزية ...إلخ (6)، بمعنى الانتماء للوطن الذي يعيش فيه اليهودي.

الملاحظ هنا أن الفعاليات الأولى لليهودية الإصلاحية لم تكن على مستوى الأفكار الاعتقادية أو حتى على مستوى الإصلاح التشريعي، بل في مجال الطقوس الدينية. وسبب ذلك أن تزايد الاتصال بين اليهود ومسيحيي الغرب جعل اليهود مهتمين بشكل ممارسة العبادة في الكنائس خاصة ما يتعلق باستخدام الغناء والموسيقى أثناء العبادة. ويبدو أن نفرا من قيادات اليهود كانوا يخجلون من طريقة ممارستهم للطقوس الدينية اليهودية خاصة إذا قورنت بما يحدث في دور العبادة المسيحية (7)؛ كما أنهم لاحظوا انصراف الشباب تدريجيًا عن المعبد وعن الشعائر اليهودية بسبب جمودها وأشكالها التي اعتبروها بدائية ومتخلفة (8). أما اليهود الذين كانوا يحرصون على الذهاب إلى المعبد فقد كانوا مضطرين إلى الاستماع إلى ابتهالات وأدعية وصلوات مطولة تتلى بلغة غير مفهومة؛ عبرية أو آرامية أو مزيج من اللغتين، هذا فضلًا عن طريقة الأداء الرتيبة والمملة.

كان هذا الشعور موجودًا لدى العديد من رواد حركة الإصلاح اليهودية، وقد عبر دافيد فريدلاندر (1750 – 1834) عن ذلك بقوله: "أصبحت صلوات اليهود على مرور الزمن أسوأ فأسوأ، فالأفكار التعبدية اليهودية أصبحت ملتبسة على الناس بما اعتراها من التصوف ومبادئ القبالاه [التصوف اليهودي] المناهضة لروح الدين اليهودي الحقيقية. وأصبحت لغة الصلوات مؤذية للآذان وحافلة بالأخطاء اللغوية ومن حسن الحظ أن الأكثرية الكبرى من اليهود لا يفهمون منها شيئا ولو فهموا لتأثروا بها إلى الأسوأ" (9).

هذا كان يعني أن الإصلاحيين حين سعوا لإدخال تعديلات على شكل العبادات وطريقة ممارستها كانوا يهدفون لضرب عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية سيجعلون المعبد أكثر جاذبية لليهود، ومن ناحية أخرى سيوقفون ارتداد اليهود عن اليهودية، بل ربما يعيدون المرتدين إليها.

دافيد فريدلاندر (1750 – 1834) 



الصراع مع اليهودية الأرثوذكسية (التقليدية)

بدأ استخدام مصطلح أرثوذكسي Orthodoxy كمصطلح يصف علماء اليهود التقليديين على يد حاخامات اليهودية الإصلاحية في بدايات القرن التاسع عشر. وهذا اللفظ هو يوناني "orth doxa" ويعني الاعتقاد الصحيح، وقد اقتبسه الحاخامات من اللاهوت المسيحي في البيئة المحيطة بهم. وحسب رؤيتهم فإن هذا المصطلح الذي استخدم في المسيحية لوصف أحد المذاهب المسيحية كان يتناسب تمامًا مع طبيعة تفكير هؤلاء اليهود الذين أصروا على عدم الاستجابة لمتغيرات العصر (10). ورغم أن إطلاق هذا المصطلح على إحدى الجماعات اليهودية لم يكن أمرا صائبًا إلا أن الاسم سرعان ما شاع استخدامه، حتى أن اليهود التقليديين أنفسهم أصبحوا يستخدمون هذا المصطلح لوصف أنفسهم كتعبير عن التزامهم العميق باليهودية والولاء لتاريخها القديم والوفاء لتعاليمها، وإن كان بعضهم يصر على استخدام مصطلح "التوراة حق" لهذا الغرض. وقد جاءت نشأة اليهودية الأرثوذكسية كرد فعل على اليهودية الإصلاحية وتجديداتها وتخوف هؤلاء اليهود التقليديين من أن تؤدي هذه التجديدات إلى هدم الديانة اليهودية.

وإذا كانت اليهودية الأرثوذكسية كحركة فاعلة لم تنشأ إلا في القرن التاسع عشر، فإن ذلك لا يعني بالطبع أن الأفكار التقليدية لم تكن موجودة من قبل، لأن التيار العام للديانة اليهودية كان في أغلبه تيارًا تقليديًا إلى أن خرج فريق من الحاخامات ممن نادوا بإجراء إصلاحات دينية فكان ذلك مدعاة لليهود التقليديين لتنظيم أنفسهم للدفاع عن الديانة اليهودية ومنع الإصلاحيين من إفسادها.

إحدى الشرارات الأولى في نشوب الصراع بين اليهودية الأرثوذكسية والإصلاحية بدأت بعد تأسيس أول معبد يهودي إصلاحي في هامبورغ عام 1817؛ حيث اهتم مؤسسوه بالزخارف وباستخدام الجوقة والأدوات الموسيقية، واختصروا الأدعية والابتهالات وحرصوا لأول مرة على أن تكون باللغة الألمانية المفهومة لهم. وبمجرد ظهور هذه الممارسات قامت المحكمة الحاخامية في هامبورغ بتجريم هؤلاء الإصلاحيين الذين لم يتأثروا بهذا التجريم وانتقلت ممارساتهم الإصلاحية إلى خارج هامبورغ (11). 

كان اليهود الإصلاحيون يعون جيدا أنهم إذا كانوا ينادون بتصورات جديدة عن الدين اليهودي وشكل العبادة وطريقة ممارستها فلا بد أنهم سيواجهون تيارًا قويًا يرفض ما ينادون به ويعارضه، ومن ثم كان عليهم الكفاح من أجل الوجود أمام هذا التيار التقليدي الذي كان يدعي الشرعية الإلهية لكل ما يصدر عنه من أفعال وأقوال تتحدث عن اليهودية؛ وبالتالي فإن اليهودي الإصلاحي بهذا المعنى ـ وهو المعنى الذي سعى التقليديون لنعتهم به ـ هو من يرفض الشرعية الإلهية للتعاليم والطقوس التي كانت قيادات اليهود تدعي أنها من عند الرب. ولذلك فإن اليهود الإصلاحيين لم يقدموا أنفسهم على أنهم منفصلون عن التراث القديم، وقدموا تجديداتهم على أنها متوافقة مع التشريع اليهودي، وكان على هؤلاء أن يقنعوا اليهود بأن التعديلات التي أدخلوها وإن بدت جديدة، إلا أنها في حقيقتها تعتمد على مبادئ أصيلة في الدين اليهودي (12)، أي أنهم لا يعدلون شيئًا بل يعيدونه لصورته الصحيحة عن طريق تجديد القديم.

وقد أكد الإصلاحيون أن اليهودية حسب رؤيتهم سوف تكون ديانة مبنية على حقائق التاريخ وهذا سوف يرشد اليهود إلى تحديد ما هو جوهري وما الذي يمكن الاستغناء عنه من أمور الدين؛ وهذا يعني أن التاريخ بتحولاته السياسية والثقافية والاقتصادية سيكون العنصر الأساسي الذي يحدد شكل الدين اليهودي وطبيعة ممارساته (13) وهذا يعني ضرورة أن تتطور اليهودية وفق مستجدات الزمان والمكان؛ حيث تم إخضاع التقاليد والعادات الدينية للمتطلبات الإنسانية والظروف، مع التسليم بعناصر الوحي الإلهي الواردة في التوراة وفي التراث اليهودي، والتمييز بين تلك العناصر ذات الأصل التوراتي والتي يكون الالتزام بها أبديًا، وبين العادات والتقاليد الدينية التي اعتبرتها نتاج عصر معين. وبالتالي فإن اليهودية الإصلاحية تكون قد احتفظت بحقها في تبني التراث اليهودي أو تغييره لجعله أكثر توافقًا مع كل عصر من العصور (14)، وهذا الموقف كان مخالفًا لما كانت عليه اليهودية الأرثوذكسية التي نظرت للتاريخ وتحولاته نظرة متعالية، وأصرت على أن اليهودية فوق التاريخ، بمعنى أن اليهودية الأرثوذكسية ظلت متمسكة بالجمود الديني الذي لا يستجيب لمستجدات الزمن.

هذا الصراع كان واضحًا بين القيادات الفكرية الإصلاحية والأرثوذكسية، لأنه بمجرد ظهور الحركة الإصلاحية سرعان ما نشأ جدل محتدم عن رفض الإصلاح أو قبوله والمدى الذي يمكن الذهاب إليه. وقد تدرج ذلك من اللاهوتية المتطرفة التي دعا إليها الحاخام الأرثوذكسي سمسون رافائيل هيرش (1808 - 1888)، إلى الليبرالية المتطرفة الـتي دعا إليـها شموئيل هولدهايم (1806 - 1860)، وأبراهام جايجر (1810 - 1874). وبالنسبة لهيرش فقد عزل نفسه عن الإصلاحيين ورأى أنهم سوف يؤدون إلى انحلال اليهودية، ودعا بدلًا من ذلك إلى شعار "التوراة والمعرفة العلمانية"، ورفض عزل التلمود عن دوره التاريخي، وكان من أشد المهاجمين لدراسة العهد القديم دراسة نقدية (15). أما هولدهايم فقد قال بأن تغير الزمن يستدعي تغيير التشريعات حتى لو كانت التشريعات ذات مصدر إلهي، ولم يتوقف هولدهايم عند هذا الحد فقد ذهب أبعد من ذلك حين حول طقوس يوم السبت إلى الأحد في المعبد الذي كان يقوده في برلين، كما أنه ألغى عددًا من الاحتفالات الدينية اليهودية، وسمح بزواج اليهود من المسيحيين (16)، لأن تقاليد الزواج وقوانينه قامت على أساس تلمودي، وبسبب هذه القوانين التلمودية تحدث صعوبات كثيرة؛ ولذلك يجب اتباع قوانين الدولة لا قوانين التلمود (17). كانت مثل هذه الممارسات التي نادى بها هولدهايم تعتمد على فصله بين العناصر الدينية والعناصر القومية في الديانة اليهودية، لأنه كان يرى أن العناصر القومية انتهت بدمار الهيكل الثاني 70 م. ولم يبق سوى العناصر الدينية وهذه العناصر تتجسد في عقائد اليهودية ومبادئها وهي الأهم من وجهة نظره (18).

هيرش عزل نفسه عن الإصلاحيين ورأى أنهم سوف يؤدون إلى انحلال اليهودية



لم تكن آراء هولدهايم وتصرفاته للتشكيك في كون هذه التشريعات إلهية المصدر، بل لاعتقاده أن هذه التشريعات الإلهية تظل سارية فقط طالما كانت الظروف التي نزلت من أجلها قائمة. وبسبب هذه الأفكار التي طرحها تعرض هولدهايم لهجوم شديد من المعسكر الأرثوذكسي.

أما أبراهام جايجر فكان ينادي بالتخلص من جميع الإشارات التي تتحدث عن خصوصية الشعب اليهودي، وانصهار اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، وبالتالي تم حذف عبارات العودة إلى صهيون في معبده في برلين (19). كما اعتبر الختان أمرًا مؤذيًا للمشاعر ولا يتناسب مع الحياة الحديثة، ودعا لإزاحة التلمود من مكانته، فضلًا عن تشجيعه لدراسة العهد القديم دراسة نقدية.

تعرض جايجر نتيجة لذلك إلى هجوم عنيف واتهامه بالكفر من قبل اليهود التقليديين.

كانت أفكار اليهودية الإصلاحية متوافقة مع المذهب البروتستانتي في المسيحية، وكان ذلك سببًا في أن أصبحت الولايات المتحدة المركز الأهم الذي يتواجدون فيه؛ إذ يشكل الإصلاحيون نسبة 40% تقريبًا من يهود الولايات المتحدة، بينما تصل نسبة اليهود الأرثوذكس فيها إلى 6% فقط (20).

الموقف من الصهيونية

ينبغي أن نضع في الاعتبار أن نشأة اليهودية الإصلاحية كانت بهدف اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، كذلك فإن نظرتهم إلى اليهود على أنهم جماعة دينية وليست قومية، كان يعني تناقض تيارها العام تمامًا – مع وجود استثناءات بالطبع - مع المبدأ الأساس للصهيونية التي كانت تدعو إلى تأسيس وطن قومي لليهود، وعدم الاندماج في المجتمعات بالطبع. إلا أن موقف اليهودية الإصلاحية المعادي للصهيونية قد تزعزع نتيجة عاملين مهمين: أولهما ظهور النازية، وثانيهما نجاح الصهيونية في إقامة الوطن القومي في فلسطين وتوالي الاعتراف الدولي بهذا الكيان، وهذا أدى إلى تجاوب غالبية معابد اليهود الإصلاحيين مع وجود هذا الكيان من خلال رفع أعلامه، وهذا كان بمثابة علامة على الهزيمة القاسية التي تلقتها اليهودية الإصلاحية في معركتها ضد الصهيونية.

ولذلك فإن عددًا من الحاخامات الإصلاحيين تبنوا الصهيونية ورفضوا الرؤية الإصلاحية القديمة بشأن الوطن القومي، وتخلصوا من هذا الجزء فيها؛ وأصبحوا ينادون بأن اليهود يمكن أن يؤدوا دورهم العالمي من فلسطين أو من أي مكان آخر (21).

وظل النفوذ الصهيوني في ازدياد داخل المعسكر الإصلاحي خاصة بعد إعلان نشأة الكيان الصهيوني وبعد حرب 1967، حتى إن الاتحاد العالمي لليهودية الإصلاحية عقد مؤتمره السنوي لأول مرة في القدس عام 1968. كما انضم الاتحاد العالمي لليهودية الإصلاحية إلى المنظمة الصهيونية العالمية في عام 1976، وأسست اليهودية الإصلاحية كيبوتسات ومؤسسات تربوية، وأقامت فروعًا لمؤسساتها التعليمية ومنها بالطبع فرع لكلية الاتحاد العبري في فلسطين المحتلة، 1963، ونظمت عمليات لجمع الأموال من أجل المشروع الصهيوني.

غير أنه بالرغم من ازدياد النفوذ الصهيوني بين الإصلاحيين خاصة بعد قيام إسرائيل، وبالرغم مما قام به الاتحاد العالمي لليهودية الإصلاحية من عقد مؤتمراته في فلسطين بدءًا من عام 1968، وانضمامه للمنظمة الصهيونية العالمية عام 1976، يظل عدد اليهود الإصلاحيين في إسرائيل محدودًا؛ كما أن المؤسسة الدينية الأرثوذكسية في إسرائيل لا تعترف باليهودية الإصلاحية ولا بحاخاماتها، ولا بالزيجات التي يعقدونها، ولا بمراسم التهوّد التي تتم على أيديهم لأنهم ييسرونها بخلاف الأرثوذكس (22). وإذا كانت مبادئ اليهودية الإصلاحية الداعية لاندماج اليهود في المجتمعات جعلتها رافضة للصهيونية في البداية، وأثرت في تأخر تجاوبها معها، فإن اليهودية الأرثوذكسية - التي كانت رافضة لأي تغييرات في تفسير الدين قد تؤدي لاندماج اليهود في المجتمعات الغربية - كانت متوافقة مع الدعاوى الصهيونية في هذا المبدأ مع تخوف من غلبة التوجه العلماني عند زعماء الصهيونية، إلى جانب وجود تباينات في مواقف الحركات الأرثوذكسية من الصهيونية قبولًا أو رفضًا سرعان ما كان يتبدل مع كل إنجاز تنجزه الصهيونية، إضافة إلى اختيار كثير من الأرثوذكس الذين رفضوا قيام الدولة واتخذوا موقفًا معاديًا للصهيونية أن يقاوموها من داخل الكيان الصهيوني. ومن الواضح أن حدة عداء اليهودية الأرثوذكسية ظلت تتراجع تدريجيًا، فمع توالد أجيال أرثوذكسية جديدة داخل الدولة الصهيونية أصبح الشعور الغالب لديهم أن مصيرهم هو نفسه مصير هذه الدولة، وازداد هذا الشعور أكثر بعد اشتراك الحريديم في الائتلاف الذي تشكل عقب انتخابات 1977 (23).

هذا كله أدى لأن يصبح اليهود الأرثوذكس هم التيار الديني الأغلب في الدولة، وبغض النظر عن التشابك بين ما هو ديني وعلماني في إسرائيل، فإن نظام الانتخاب هناك، وطريقة تشكيل الحكومات والاضطرار الدائم لدعمهم من قبل الحكومات المتعاقبة، أو دخولهم في الائتلافات الحاكمة، جعلهم يتحكمون في مدى التزام الدولة بالتوجيهات الدينية وفق ما يرى حاخاماتهم، وأعطاهم القدرة على السيطرة على كافة المؤسسات الدينية للدولة، والتحكم في كل ما يتعلق بالشأن الديني، بما في ذلك عدم السماح لليهودية الإصلاحية أو المحافظة بسهولة العمل في إسرائيل.

*أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة.

هوامش:



(1) J. Neusner & A. J. Avery-Peck: The Routledge Dictionary of Judaism. Routledge, London 2004. p. 129.
(2) N. De Lange: An Introduction to Judaism. New York, Cambridge University Press 2004. p. 72.
(3) J. Neusner: Reform Judaism; in: The Encyclopaedia of Judaism. Vol. 4, Ed. J. Neusner, A. J. Avery-Peck & W. S. Green. Brill, London 2005. p. 2262.
(4) Ibid: p. 2262.
(5) Ibid: p. 2263.
(6) Ibid: p. 2263.
(7) De Lange: p. 72.
(8) عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية. (اليهودية الإصلاحية)
(9) إسماعيل راجي الفاروقي: الملل المعاصرة في الدين اليهودي. القاهرة، مكتبة وهبة 1988. ص44.
(10)  L. Jacobs; The Jewish Religion, A companion. Oxford University press, 1995, p. 370.
(11) De Lange: p. 72.
(12) J. Neusner: Reform Judaism; in: The Encyclopaedia of Judaism. Vol. 4. p. 2270.
(13) Neusner & Avery-Peck: p. 130.
(14) K. M. Olitzky: Reform Judaism; in: The Oxford Dictionary of the Jewish Religion. Ed. R. J. Z. Werblowsky & G. Wigoder. Oxford University Press, New York 1997. p. 577.
(15) De Lange: pp. 72 - 73.
(16) Ibid: p. 73.
(17) I. H. Ritter: Samuel Holdheim; The Jewish Reformer. The Jewish Quarterly Review, Vol. 1, No. 3. 1889. (pp. 202-215) p. 207.
(18) De Lange: p. 73.
(19)  الفاروقي: ص. 49
(20) E. Tabory: The Influence of Liberal Judaism on Israeli Religious Life. Israel Studies, Vol. 5, No. 1. 2000 (pp. 183-203) p. 184.
(21) S. B. Freehof: Reform Judaism in America. The Jewish Quarterly Review. Vol. 45, No. 4. 1955. p. 357.
(22) المسيري: اليهودية الإصلاحية والصهيونية
(23) رشاد عبد الله الشامي: القوى الدينية في إسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة. سلسلة عالم المعرفة، العدد 186، الكويت 1994. ص. 65 ـ 66

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.